بدر بن عبدالمحسن أمير الشعراء وشاعر الأمراء، أفكاره جديدةٌ وبنية قصائده حديثة، ولكن معانيه تضرب أطنابها عميقاً في القلب الإنساني والوجدان العربي، فتلامس شغافه وتعزف على نياطه، يكتب شعر التفعيلة رقراقاً منساباً كقطرة ماء على كبدٍ صاديةٍ ويتهافت على كلماته الملحنون الكبار لأنها تشعل في نفوسهم أنغاماً جديدةً فريدةً وتحرض ملكاتهم على الإشراق فتصدح بها حناجر المغنين مشاعر وأحاسيس.

اخترمت المنية «البدر» وهو يمشي الهوينا في عقده الثامن «75 عاماً» بعدما نثر ورود الحروف على بياض مسيرة معطرةٍ بالإبداع تشنّف الأسماع وتشجي القلوب وتذكي العواطف الجياشة، وهو بعد عربيٌ أصيلٌ و«بدويٌ» ثوبه «على المتن مشقوق» يمتح من لغته الأصيلة ولهجته الفريدة فيرسم معانيه لوحاتٍ زاهية الألوان ساحرة المرأى فتبقى في ذاكرة الأجيال.

كان «البدر» الشاعر ملحق الأحفاد بالأجداد في تخليد مشاعرهم جميعاً عبر حروفه وصوره ومعانيه، فليس غريباً أن يحفظ شعره «الحفيد» على جهازه اللوحي الحديث والمعاصر ويستذكره مع «والده» الذي حفظه من كتابٍ ويتغنيان به مع «الجدّ»، الذي يحدو به كلماتٍ ولحناً يخترق الزمان والمكان.

كل قارئ يستحضر من أبيات «البدر» فيما يعرض له في حياته ما يناسب حالته ويحكي مشاعره ويصيب الغرض الذي يريد، ولهذا سارت بقصائده الركبان بعدما أصبحت معزوفاتٍ يتغنى بها الزمان كأنها في «فم الدهر ابتسام» كما قال المتنبي. لئن عرف «البدر» بشعر التفعيلة فقد كان شاعراً مفلقاً في الشعر العمودي، وله الأبيات الخالدة والمعاني الباذخة، بعيداً عن الإطالة فيكفي من قلادته ما أحاط بالأعناق، فهو دائماً ما «يفلّ المحزّ ويصيب المفصل» كما تقول العرب، فيقول بشعرٍ مقفىً وموزونٍ:

يا ضاربٍ في الصخر بذراعٍ أجرد/ بيّن بياض العظم ما فاض هدّاج ويا ضايعٍ في غابة الحبر الأسود/ ضاع العمر ما جبت حرفين من عاج.

أغراضه في الحب وصلاً وهجراً، في العتاب فراقاً واعتذاراً، في الفخار الوطني والانتماء العميق، في الغزل والتشبيب في البيئة والصحراء، في الإبل والخيل والنخيل، في كل ذلك وأكثر كتب «البدر» ووقف على معانٍ فريدةٍ تشابه موقف الشريف الرضي على معنى «كِبر الملول ورقة المملول»، وقصائد «البدر» عصية على النسيان لأنها كتبت بحبر الخلود.

مفردات الصحراء في شعره تحكي ذاكرة العرب الأصيلة الممتدة والتي لا يعرفها شعراء الصفصاف والأنهار إلا تعلّماً لا معايشةً، بينما «البدر» يحيكها صوراً ومفرداتٍ، معاني وقيماً، فخامةً وقوةً، لأنه يمثل الامتداد الطبيعي لعرب الجاهلية الذين لم يعرف أكثرهم غير الجزيرة العربية موطناً. في الوطن والوطنية غاص «البدر» على معانٍ وتراكيب لم يسبق إليها، وصار شاعر الوطن المغنّى دون منازعٍ، فهو «المجلّي» والأول والسابق، وكل من سعوا لتقليده كانوا بين «المصلّي» أي الثاني و«المسلّي» الثالث أو «التالي» الرابع كما كانت العرب تُرتب الخيل في السباق، وشعره الوطني موشى بالفخار مع رقة الحاشية وعذوبة المفردة، فلا أحد ينسى «فوق هام السحب».

كأن «البدر» يودع الجميع حين قال: «يالله يا قلبي سرينا، ضاقت الدنيا علينا»، فصارت الناس تردد بعد رحيله: «ذبلت أنوار الشوارع وانطفى ضيّ الحروف»، و«المسافر راح». كان «البدر» في شعره نابغةً وعبقرياً بحسب تصنيف «الطنطاوي» يأخذ من هذا وذاك، فله في كل شعورٍ قولٌ وفي كل إحساسٍ معنى، ولهذا يردد قصائده ويحفظ كلماته العرب شباباً وشيباً من كل بلادٍ، وهو كتب في «الإمارات» قصيدته العذبة «حروف الذهب» يقول فيها:

ليت أبوظبي ياسعها الهدب وتسكن العين ويطول المقام دار من سطّر المجد وكتب قصةٍ حبرها برق الغمام

* كاتب سعودي