الأربعاء 22 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دولة ما بعد الثورة.. النضال الأكبر

دولة ما بعد الثورة.. النضال الأكبر
28 ديسمبر 2011 22:59
أكثر الكتب الصادرة هذه الأيام في تونس تتناول بالتحليل كل ما له صلة بالثورة وتحليل أسبابها ونتائجها ومختلف وجوهها، ومن بينها هذا الكتاب الذي اختار له مؤلفه ايمن البوغانمي عنوان “دولة ما بعد الثورة”، وقد جاء في أبواب وفصول عديدة، ففي الفصل الأول من الباب الأول حلل الباحث ثنائية السلطة والسلطان، كما تعمق في الفصل الرابع في شرح ومناقشة قضية النظام والدولة، وتناول في الفصل السادس مسألة الهوية والانتماء، وعالج في الباب الثاني من كتابه الغايات القيمية: في المصالحة مع الذات. والمؤلف باحث في جامعة السوربون بباريس، وحاصل على الأستاذيّة في التّرجمة والماجستير في الحضارة البريطانية اختصاص اقتصاد وسياسة، وهو يؤكد في مقدمة كتابه أن العالم العربي يعيش اليوم مرحلة خطيرة وحاسمة من تاريخه المعاصر، قد تفوق أهميتها فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت نهاية الاستعمار المباشر وبداية ما يسمّى بالاستقلال. ويجزم الكاتب أنه رغم اعتزاز كثير من العرب بإنجازات تلك الحقبة، فإنّه لا يخفى على العارف الممحّص أنّ أحلام الحريّة وآمال العدالة تمخّضت، بعد الحصول على الاستقلال، عن مرارة شديدة جرّاء عجز أنظمة الحكم عن الاستجابة لطموحات شعوبها الاجتماعيّة والسّياسيّة. فقد اكتشف العرب تدريجيّا أنّ الاستقلال لا يعني بالضرورة الحريّة والكرامة. إذ أنّ أنظمة الحكم الّتي خلفت الاستعمار تميّزت بسلطويّة قمعيّة، تحوّلت تدريجيّا إلى دكتاتوريّة مطلقة، أقصت المجتمع المدني وضيّقت الخناق على المبادرة الفرديّة اقتصاديا وسياسيّا. بين الحاكم والمحكوم ومن وجهة نظر الباحث فإن إفلاس الأنظمة الّتي تبنّت الإيديولوجيات القوميّة والاشتراكيّة لم يزد الوضع إلاّ سوءا والمرارة إلاّ حدّة، فانعدمت الثقة بين الحاكم والمحكوم، وأصبح الرّئيس أو الزعيم عنوانا للظلم والاستبداد، فدخلت جلّ البلدان دائرة مفرغة، يزيد فيها السلطان الحاكم فسادا، ويزيد فيها الفساد الشعب سخطا، ويزيد فيها سخط الشعب الحاكم إصرارا على البقاء وحاجة للتسلّط والفساد فعاش العالم العربي عقودا من التراجع السياسيّ المنقطع النظير. فقد مرّ من نسق حكم أبوي يستمدّ شرعيّته من ماضيه النضالي، ويحتجّ بمصلحة الوطن لتبرير أساليبه السلطويّة إلى نمط حكم مافيوي لا يكترث بشرعيّة، ولا يجد حاجة لتقديم أيّ نوع من التبريرات للقهر الّذي يعصف بالشعوب. واستنتج المؤلف أن الثورة أصبحت ضرورة لأنّ من شأنها إعادة بناء شرعيّة السّلطة، وتجديد شباب الدولة، وإعادة الاعتبار للمجتمعات المدنيّة الّتي فقدت الثقة بنفسها، ذلك أنّ الأنظمة أفلحت في استيعاب أغلب مؤسّساتها، وأوغلت في تهميش تلك الّتي لم يتسن استيعابها. أمّا الأفراد، فمنهم من استفاد من الأنظمة اختيارا، منسّاقا في ذلك وراء إغراءات المال والوجاهة، ومنهم من خدمها سياسة بقناعاته بضرورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه ومنهم من سكت عنها كرها مخافة الوقوع بين أنياب أجهزتها القمعيّة. وبين هذا وذاك فئة أخرى لم يجد المؤلف حرجا في وصفهم بالسذج، قد يجهلون وقد يعلمون، ولكن مشاغل الحياة كثيرا ما تحول بين المرء والوعي الاجتماعي. وتوجه المؤلف في فصل آخر من كتابه بما يشبه التوصيات داعيا الجميع إلى العمل كلّ من موقعه على الوصول بالبلاد العربيّة إلى برّ الأمان بأقلّ الخسائر الممكنة في الأرواح والمنشآت فطول عقود الدكتاتوريّة لا يزيد هذا التّحدي إلاّ جسامة. فالثورة وضريبة الدمّ ـ من وجهة نظر الباحث - لا تكفيان لبناء الديمقراطيّة المنشودة الّتي تحتاج إلى كثير من الوعي، الّذي من دونه تضيع الثورة وسط حمّامات الدّم. مسألة الشرعية يرى أيمن البوغانمي أنه إذا أردنا المرور من الدكتاتوريّة إلى الديمقراطيّة دون تكاليف باهظة، وجب علينا الاستفادة من تجارب التاريخ، وهي المعرفة، كما وجب فقه خصائص المرحلة ومتطلباتها ومساحة الممكن فيها، لانّ النهر الثوري الفاصل بين الضفتين جارف لا يرحم وسقوط الديكتاتوريّة، خاصّة إذا كان ناتجا عن حركة شعبيّة عفويّة، يعني عادة أنّ على السّفينة العبور من دون ربّان، وتعتبر كثرة الرّاغبين في نيل هذا الشرف أشدّ على السفينة من قلّتهم. فالكلّ يتكلّم باسم الشعب ويأنس في نفسه الشّرعيّة والكلّ يتحدّث باسم الثورة ويرفع عن غيره الشّرعيّة. والحقّ أنّ مسألة الشّرعيّة وإن أجمع النّاس على ضرورة أن يكون الشّعب مصدرها تبقى من أشدّ القضايا حساسيّة، ولذا فإن الباحث قد اختار أن يجعلها منطلقا لمساهمته في نشر الوعي السّياسيّ، الّذي قال انه يرجو أن يكون المنارة الّتي تعوّض الرّبان الشّرعيّ لقيادة الشّعوب العربيّة على طريق الدّيمقراطيّة، فالشّرعيّة هي المحور المركزي الّذي يقوم عليه هذا البحث. إن الشرعية، كما يؤكد المؤلف، لها بعد مؤسّساتي وبعد قيمي. أمّا البعد المؤسّساتي فإنّه شديد الارتباط بطبيعة الأنظمة الّتي قامت بإسقاطها الثورة، فهي على اختلافها تجمع بينها خصائص مشتركة لعلّ من أبرزها الاستبداد والفساد الّذي استفحل بحيث أسقط كلّ مصادر الشّرعيّة سياسيّة كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، فكان بقاء الأنظمة مشروطا بهيمنتها المطلقة على مؤسّسات الدّولة الّتي تحوّلت تدريجيّا إلى غنيمة حرب بين يدي غزاة يعون انعدام شرعيّتهم، وهو ما دفعهم لاتّباع سياسة إقصاء منهجي أدّت إلى تضييق دوائر السّلطة الّتي انحصرت في شبكة من المصالح الأسريّة القائمة على القرابة أو المصاهرة، فتشكّلت طبقة جديدة يختلط فيها السياسيّ بالأمني بالاقتصادي، وتمتزج فيها المصلحة العامة بالمصلحة الخاصّة مما أدّى إلى تماهي النظام مع الدّولة. أمّا البعد القيمي فإنّه مرتبط بالتّراكمات الاقتصادية والاجتماعية والنّفسيّة الّتي فرضها اختلال التوازن بين مختلف العناصر المكوّنة للهويّة العربيّة الجماعيّة والفرديّة، ولا سبيل لمعالجة هذا الاختلال إلاّ بتحقيق مصالحة مع الذّات والقيم والمؤسّسات، وهي مسائل لابدّ من استيعابها لتقييم مدى عمق إنجازات الثورة على المدى القصير، ولفهم التّحدّيات الّتي سيكون عليها أن تواجهها على المدى الموسّط والبعيد. ويشير المؤلف إلى أنه سعى للتوفيق بين واجبات الأمانة العلميّة، من دقّة وعمق في التّحليل، والغاية الأساسيّة لهذا البحث، من مساهمة في نشر الوعي السّياسيّ لدى عموم الناس، وهو يجزم بأنه عمل بقدر الإمكان على ملازمة الموضوعيّة وتجنّب إبداء الرّأي إلا في المسائل الّتي رأى أنها حاسمة ومصيريّة للعالم العربي الثّائر، لأنّ دفع المفسدة بالنّصيحة أولى من جلب المصلحة بالحياد. تحديات وتهديدات وقد يقول البعض ـ وفق المؤلف - إن الحديث عن إعادة البناء في البلدان العربيّة إجمالا، سابق لأوانه فثورة الشعوب العربيّة لم تنجح بعد في إسقاط أنظمة الحكم القديمة إلاّ في تونس ومصر، ولم يشر المؤلف إلى ليبيا ولا شك أنه أتم تحرير الكتاب وسلمه إلى المطبعة قبل سقوط نظام العقيد معمر القذافي، وقد أشار فعلا إلى أنه شرع في تحرير بحثه يوم الثالث من مارس/ آذار 2011، وهو يرى إنّ إسقاط النظام لا يعني نجاح الثورة بل إنّه يمهّد لبداية التحديات الحقيقيّة. ولا يمكن الحديث عن نجاح الثورة التّونسيّة أو المصريّة إلاّ بعد بناء مؤسّسات مستقرّة تعمل على تحقيق طموح الشّعبين والطريق إلى ذلك طويل، وتشكل قلّة صبر بعض شباب الثّورة وإمكانيّة تلاعب السياسيين بمشاعرهم تهديدات يجب التّعامل معها بالحكمة اللاّزمة. وذكر الباحث أن بحثه قد لا يروق لبعض الأكاديميين المعتادين على مناهج محدّدة في البحث العلمي عموما وأصول معروفة في مجال الدراسات السياسيّة خصوصاً، مؤكدا أنه يسعى من خلال كتابه إلى نشر الثقافة السياسيّة خارج الجامعات كي يتسنّى للمواطن العربي، الّذي ترجع إليه مسؤوليّة منح الشّرعيّة في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخه، أن يكون على بيّنة من أمره. مفاهيم متناقضة يرى الباحث أن زخم المعلومات وسرعة انتشارها في عصر الإنترنت قد يرهق أولئك الّذين لم تتح لهم فرصة اكتشاف المفاهيم الأساسية الّتي يقوم عليها علم السياسة، وهؤلاء كثر في عالمنا العربيّ الّذي لم يعهد ممارسة السياسة بمعناها الحقيقي علما وخطابا وفلسفة. ففي ظل الديكتاتوريّة تقتصر السّياسة أو تكاد، على خدمة النّظام أو مقاومته. أمّا من يخدمه فلا يمارس السّياسة إلاّ اتّباعا. وأما من يقاومه فلا يمارسها إلاّ نضالا. ولئن كان الاتّباع أو النضال جزءاً لا يتجزأ من السّياسة فإنّه لا يمكن الاكتفاء بهما بتحديد مجالاتهما المترامية الأطراف. وقد اختار المؤلف مسألة الشرعيّة كمنطلق بنى عليه بحثه مشيراً إلى أن تسارع الأحداث في عالمنا العربي، والتحدّيات الّتي تطرحها المرحلة الحالية تفرض إعطاء الأولويّة للمفاهيم المرتبطة بالسلطة وممارستها كالشرعيّة والديمقراطيّة والنيابة والنظام الانتخابي، وقد خصص الكاتب محورا مستقلا لدراسة كلّ مفهوم على حدة متجنبا الدّخول في التفاصيل النّظريّة الّتي قال إنها تهمّ الأكاديميين، ولكنّها لا تؤثّر في واقع الثورة الّتي يدعو المؤلف القراء للمشاركة في تحقيق أهدافها. ولخص المؤلف في خاتمة كتابه جميع فصول بحثه، مؤكداً أنّ نجاح الثورة العربيّة وتحقيقها غاياتها مرتبط بتواصل الحماسة الثوريّة بعد سقوط الأنظمة، دون تحوّل الثورة إلى مؤسّسة تفرز نظاما يتماهى مع الدولة ويعيد إنتاج الاستبداد، والباحث حلل التناقض المبدئي بين هذين الشّرطين إذ أنّ الثورة يجب أن تكون في الوقت نفسه ظرفيّة ودائمة؛ فهي من جهة الوسيلة لإسقاط الدّكتاتوريّة ويهدّد اتخاذها لأيّ شكل مؤسّساتي دائم بتحويلها إلى غاية، وبتهميش القيم الّتي قامت من أجلها، ولكنّها من جهة أخرى الملهم الّذي خفت بريقه وتقطّعت السّبل باتباعه. وتمثّل هذه المفارقة ـ وفق ما ذهب إليه الباحث- تحدّيا حرص على التّنبيه إليه. إذ أنّ الثّورة كما يقول هي بداية الطريق والمصالحة مع الذات، وتفرض مبدأ الحريّة وفيها ضرورة إعادة تعريف المؤسّسات وعلاقتها بالأفراد والجماعات، وهو ما يبرّر التّقسيم الثنائي الّذي اتبعه في الكتاب وهو اختيار منهجي فرضه الحرص على الوضوح في التّحليل، إذ انّه لا يعبّر عن فصل موضوعيّ بين بعدين مختلفين، لانّ كليهما شرط للآخر ومتمم له. الشجرة وثمارها ويجزم الباحث في كتابه بأن مفهوم المواطنة لا يكتمل إلاّ بالمشاركة الفاعلة في الحياة العامة، تلك المشاركة الّتي تترجم القيمة الواقعيّة للحريّة بمعانيها السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، والّتي تمنح في الوقت نفسه المؤسّسات مزيدا من الشّرعيّة، أي مزيدا من القوّة والاستقرار، حيث يعتبر التّفاعل الإيجابي بين الفرد والمؤسّسة خاصيّة الأنظمة الديمقراطيّة وشرط إدراك التوازن بين الواجبات والحقوق. وهي مسائل ذات تشعبات سياسية واقتصادية واجتماعيّة حاول المؤلف بيانها من خلال اتباعه أسلوباً جدلياً طرح أكثر من وجهة نظر، وهو يرى أن هذا الأسلوب يتماشى مع المناخ السياسيّ لما بعد الثورة. فسقوط أنظمة الحكم الّتي احتكرت لعقود تأطير الدولة والمجتمع يفتح المجال أمام نقاش سياسيّ وفكريّ لا يكاد يستثني أيّ مسألة خاصّة أو عامّة. ويعترف المؤلف بأنه لم يتطرق في هذا الكتاب إلاّ ليبرز القضايا وأكثرها إلحاحا في سبيل إنجاح مسار البناء، فالثورة كما يصفها شجرة ستؤتي أكلها ولو بعد حين ولكن الوعي بتبعاتها المؤسّساتيّة والقيميّة من شأنه أن يعجّل بقطافه، فالشعوب العربيّة عاشت عقودا تأرجحت فيها بين الأمل واليأس، بين العزيمة والإحباط، بين النضال والاستسلام. وقد حقّ لها أن ترى نهاية التأرجح في بداية الثّورة ولكن عليها أن تعي أنّها تستعيد اليوم زمام المبادرة. وقد تأثر هذا الكتاب بلا شكّ بسير الأحداث على الأرض خاصّة في تونس ومصر وليبيا، حيث بدأت بالفعل عمليّة البناء الديمقراطي واكتشف الثّوار أنّها غاية دونها طريق وعرة محفوفة بالمخاطر والعقبات، ويعترف الباحث أنه شعر بالإحباط لما لمسه من شعور بالمرارة لدى التونسيين والمصريين على اعتبار بطء مسيرة التّغيير، وكأنّهم كانوا يحسبون طريق الإصلاح معبّدة وكأنّهم كانوا يظنّون الإصلاح غنيمة اكتسبوها بمشروعيّة الثّورة. بل يذهب المؤلف إلى حد الجزم بأن المرارة قتلت الفرحة لأنّهم اكتشفوا عسر المهمّة وجسامة التّحدّيات الّتي تنتظرهم، فالنضال الأكبر إنّما يبدأ بعد سقوط الأنظمة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©