الخميس 9 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذبيحة الخُلع

ذبيحة الخُلع
30 ديسمبر 2011 01:33
أصيب «منير» بالجنون وفقد صوابه تماماً بعدما علم أن زوجته «مديحة» أقامت ضده دعوى في المحكمة لخلعه، فهذا لا تفسير له إلا الطعن في كرامته ورجولته وفقدان كل شيء في حياته وأيضاً التشرد مثل أطفال الشوارع رغم أنه بلغ الخامسة والثلاثين، وكيف يحدث ذلك والزيجة لم يمض عليها إلا أربعة أشهر؟ فالناس لن يتركوه بعيداً عن القيل والقال وأنه ناقص الرجولة لأنها هي التي اتخذت القرار الذي فاجأته به عندما وجد موظف المحكمة يطرق باب البيت القديم الذي يقيم فيه هو وأمه ويسلمه إنذار القضية وموعد الجلسة، ولم يكن أمامه إلا التوقيع بالاستلام والعلم. احمر وجه «منير» وهو يغلي وقد فقد التوازن وارتمى على أول مقعد بالقرب منه لكنه لم يستطع أن يجلس وقام يلف ويدور حول نفسه وهو يسأل نفسه ألم يكفها أنها لم تسأل عنه منذ شهر عندما دب الخلاف بينهما وخرج غاضباً من أسلوبها الحاد معه بعدما رفضت أن تعطيه «مصروفه» وإن لم يكن هذا هو الخلاف الأول بينهما رغم عمر زيجتهما القصير؟ لقد نكثت بالعهد وتغيرت بسرعة شديدة من وجهة نظره لأنه من جانبه لم يفعل شيئاً إلا أنه تعطل عن العمل رغم أنفه فالظروف غير مواتية والأحوال متوقفة ولا يعرف عملاً آخر غير تخصصه في اصلاح أجهزة الكمبيوتر، ولا يجد مقراً يزاول فيه عمله بشكل مستقل وأنه ينتظر إلى حين ميسرة. استبدل ملابسه بسرعة ومن دون أن يتأكد من حسن هندامه أو تناسقه انطلق إليها في البناية الشاهقة التي تملكها وكان يقيم معها في إحدى الشقق بها ولا بديل في رأسه غير الانتقام لكرامته التي تكاد تهدرها وتجعله أضحوكة بين الناس ولن يقبل ذلك مهما كلفه الأمر فلو أرادت الطلاق لكان أهون عليه ووصل إلى هناك وهو ما زال مصراً على ما أقدم عليه ووضع المفتاح في الباب، لكنه لم يدخل واعتقد أن ذلك بسبب تعجله واهتزاز أعصابه وتوتره، لكن عندما أعاد المحاولة عدة مرات اقترب بنظره من الباب ففوجئ بها وقد غيَّرت المغلاق كله وهذا لا تفسير له إلا أنها لم تترك منفذاً للصلح واتخذت القرار النهائي فاشتد غضبه وركل الباب بقدمه ثم بقبضة يده وانصرف. هو يعرف قصة حياة «مديحة» بأدق تفاصيلها لم تخف عنه شيئاً صغر أو كبر فهي تكبره بعشرين سنة، لكن خبرتها في عالم الماكياج ومستحضرات التجميل تجعلها تبدو ابنة ثلاثين عاماً بالرغم من أنها تجاوزت الخامسة والخمسين فهي أصلاً من أسرة فقيرة معدمة عملت منذ طفولتها خادمة في البيوت وكل من عملت لديهم عاملوها بالسخرة بلا أجر ويكفي أنها تجد لقيمات من فائض طعامهم ويحملونها ما لا تطيق حتى بعد أن كبرت وشبت عن الطوق كانت تحصل على الفتات بخلاف ما كانت تجده من الرجال الذين ينظرون إليها نظرات غير محترمة تفهم معناها لكنها تتجاهلها ومن شدة خوفها بحثت عن عمل آخر يجنبها الهوان ويحميها من الذئاب المتربصة التي لا ترحم رغم أن لهم زوجات جميلات وهي لا علاقة لها بالأنوثة إلا اسمها. جاءت النجاة في فرصة عمل لدى امرأة في مركز لتجميل السيدات صحيح أنها لا تفهم في هذا العمل، لكنها ما جاءت من أجل ذلك، وإنما فقط لتعمل ما تعرفه من أمور النظافة وإلقاء القمامة وغسل الأدوات إلا أنه مع مرور الوقت أصبحت تساعد في بعض الأشياء غير الفنية التي لا تحتاج إلى خبرة أو مهارة ثم تتدرج حتى استطاعت خلال عدة أشهر أن تتقنها جميعاً وتتحول من العمل المتدني إلى النواحي الفنية وزاد راتبها لكنها اعتادت الا تنفق منه إلا الضروري ليس بخلاً وإنما لما عانته في حياتها من فقر وعوز. تغيرت حياة «مديحة» وعرفت الأموال والحرص عليها، لكن ما تتقاضاه لا يتناسب مع المجهود الذي تقوم به خاصة وهي ترى صاحبة المركز تحصل على الآلاف يومياً من خلال جهدها هي وزميلاتها ولأنها الآن تمتلك الخبرة الكافية التي انعكست عليها وأصبحت تهتم بمظهرها فقد أعادت اكتشاف نفسها وقررت أن تعلن الاستقلال بما لديها من أموال وافتتحت محلاً خاصاً بها تعمل فيه وحدها ومنه تدفقت عليها الأموال بما لا تحلم به إلا أنها ما زالت عند حرصها على عدم الإسراف فلا تضع فلساً إلا في موضعه، وكان لأسلوبها هذا أثره في نمو ثروتها وتكاثرها وان كانت دفعت مقابل ذلك من عمرها قبل جهدها واستطاعت أن تشتري قطعة أرض وتبنيها طابقاً تلو الآخر وتتفتح أمامها أبواب الرزق فيتحول المكان الصغير إلى مركز كبير للتجميل وأصبح مشهوراً وانهالت عليها السيدات من كل الأعمار، فتوسعت في المكان واستعانت بعدد كبير من المتخصصات حتى أنها توقفت عن العمل لأنها ترى أنها أصبحت كبيرة عليه. تحولت «مديحة» من خادمة إلى سيدة أعمال بعد أن افتتحت شركة تجارية كبرى هي أقرب إلى المركز التجاري توَّلت إدارتها بنفسها فهي تملك فطرة سليمة رغم أنها لم تحصل على أي قسط من التعليم ومع اقترابها من الخمسين لم تتزوج لأن جميع من تقدموا لخطبتها وهم قلائل لم يكن أي منهم مناسباً فإما أن أحدهم يريدها زوجة ثانية أو من يريد أن يكون زواجهما عرفياً وآخر يطلب منها أن تتنازل له عن إدارة أعمالها، فكان مصير الجميع الرفض. ويتذكر «منير» وهو في خضم غضبه أنه الرجل الأول الذي فاز بها ولا يبرئ نفسه من الطمع في أموالها وان كان قد أخفى ذلك ولم يبده لها واستطاع أن يراوغها فهو مهندس، بينما هي امرأة أمية تظاهر بينه وبين نفسه برفض العمل معها أو التدخل في شؤونها مما جعلها تطمئن له لأنه مختلف عن سابقيه ووافقت على الزواج منه لأنها كما قالت له إنها سوف تكون زوجة لرجل مهم مثله وفي مكانته الاجتماعية، ولكنه الآن يتساءل كيف وافق على الزواج من خادمة؟ ويرى أنه ارتكب خطأ جسيماً، ولكنه يعود ويصارح نفسه بأنه لم يكن أمامه غيرها وأنه رأى فيها المنقذ لكل حياته بأموالها وممتلكاتها معتمداً على أن الناس ينسون الماضي ولا يتذكرون إلا ما يرونه علاوة على أن قلة قليلة هي التي تعرف بعض هذه الحقائق حتى هو نفسه لم يعرف تفاصيل معظمها إلا منها عندما تقدم لخطبتها وكانت معه غاية في الصراحة. لكن هذا كله لا يبرر لها أن تقدم على هذه الخطوة البشعة وتقطع ما بينها وتخلعه بأمر المحكمة فهو لن يخسر فقط أموالها التي لم يستمتع بها بعد وإنما لأن كرامته ورجولته جرحتها ويجب ألا تمر فعلتها مرور الكرام ولا يشفي صدره إلا الانتقام، فكيف يواجه أمه التي تركها وحدها بعد هذا الزواج وسيعود إليها مخلوعاً، وماذا يقول لزملائه وأصدقائه الذين لن يبحثوا له عن عذر ولن يتركوه في حاله ولن يقدروا الظروف. وكلما عاد «منير» إلى هذه النقطة ينتفض مثل العصفور المبلل الذي يريد أن يتخلص من الماء ويرتجف ويعض على أسنانه. لا ينسى أنها لا تنفق عليه ولا على احتياجات البيت إلا الضرورات وبعد الأسبوع الأول من زواجهما طالبته بالخروج للبحث عن عمل ويجب أن يكون رجل البيت بالفعل لا بالقول وظل يماطلها ويسوق لها الحجج الواهية حتى دبت الخلافات بينهما قبل أن ينتهي شهر العسل وأعلنتها له صراحة أنها لم تتزوجه لكي تتحمل مسؤولياته وإنما ليتحمل هو مسؤولياتها وعليه ألا يتعامل معها كجاهلة لأنها تعرف أكثر مما يعرف المتعلمون وخلال الشهور الأربعة التي هي عمر زواجهما تكررت الخلافات حول هذه النقطة كثيراً وتنتهي كلها بوعده لها أن يبحث عن عمل لكنه لا يفي بوعوده حتى ضاقت به ذرعاً ووجهت إليه الإنذارات. استقل سيارة وتوجه إليها في الشركة وكانت على كرسي الإدارة والشرر يتطاير من عينيه، لكنها لم تهتم به وبلهجة حاسمة تصل إلى حد الأمر والطرد طلبت منه أن يغادر المكان ولا يريها وجهه مرة أخرى، لكنه اندفع مثل البركان الذي ثار فوراً وانفتحت فوهته وأخرج المطواة التي كان يدسها في جيبه وأمسكها من شعر رأسها وجرها على الأرض وذبحها مثل الشاة قبل أن يفكر أحد العاملين أو يجرؤ على الاقتراب منه وهو مثل الثور الهائج وسقطت على الأرض تتدفق منها الدماء وتسيل غزيرة على أرض الشركة التي أسستها بجهد العمر والسنين ولفظت أنفاسها وسط ذهول الجميع من المشهد البشع الذي لا يتحمله الرجال الأشداء. أُلقي القبض على «منير» وكان يبكي مثل الأطفال ويبدي الندم والأسف ويعترف بتفاصيل الشهور المعدودة التي تعرف فيها على زوجته أو ضحيته وساقته إلى عالم الجريمة أو ساق نفسه إليها بلا تفكير لتكون نهايته القضبان والزنزانة الضيقة المظلمة ينتظر حكم العدالة بين الإعدام وعند الرأفة المؤبد بما يعني أنه لا عودة إلى الحرية أو الحياة.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©