الجمعة 17 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الثورات العربية: الانسداد المزمن والتجاوز الممكن

9 مارس 2011 21:12
مع مطلع هذه السنة توقفت عجلة تاريخ العالم العربي عن الدوران، وصارت ثمار الثورة ناضجة بعد طول انتظار، وحل موسم الحصاد العربي الذي انطلق من قرطاج، يقتلع من هناك الاستبداد والقهر والفساد والطغيان… ويزرع شتائل الحرية والتعددية والكرامة والمساواة ودولة الحق والقانون… في موسم ربيعي تلوح تباشيره في الأفق. نعم إن الساحة العربية تدخل تدريجيّاً لمختبر سياسات التدبير ونظريات التحول واستراتيجيات الصراع. إنها مرحلة تفكيكية بامتياز سمتها الأساسية السرعة في كل شيء والتفاعل اللحظي للأحداث من غير سابق إنذار أو توجيه. إن سيناريو أحداث تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، أصبح فوق أي إدراك، فالفكر لا يزال عاجزاً عن القبض على ميكانيزمات التحول التي تحكم هذه اللحظة التاريخية من زمن النظام العربي السابق الذي بدأت شمسه في الأفول. إذ يخلص المتأمل في الأحداث وما واكبها من تحليلات وقراءات إلى محصلة أساسية مفادها سطحية المعالجة المتسارعة التي تتداول في بعض وسائل الإعلام بحكم وظيفتها في نقل الخبر وتحليله. وخارج ذلك لم يسعفنا السوسيولوجيون ولا خبراء السياسات العامة ولا منظرو الفلسفات الاجتماعية بإنجاز قراءة أو تحليل أكاديمي دقيق يستطيع أن يبلور رؤية أو يقعد لنظرية تحاول فهم ميكانيزمات التحول والوقوف عند استراتيجيات التغيير وأبعاده ومداه. ولا تدعي هذه السطور من قريب أو بعيد رصداً شاملاً لمختلف الفرضيات التي أثيرت لفهم هذه المتغيرات في تونس أو مصر أو اليمن أو غيرها من الدول العربية، فكل فرضية في حد ذاتها موضوع أكاديمي للدراسة والتحليل وما خفي ربما كان أعظم. بيد أن هذا لا يعفينا من محاولة قراءة إن لم تمكنا من الفهم الكامل فلا أقل إذن أن تساعدنا على وضع حد فاصل بين جملة أمور تستهلك في الإعلام اليومي دون أن يكون لها أي نصيب من التمحيص والتدقيق. فأولى الفرضيات تتحدث عن الثورة المعرفية الكبرى التي نشهدها الآن، والتي أفسحت المجال لتغيير آليات التبادل والتواصل والتفاعل. ولم تعد الوسائل والأدوات الاتصالية والتأثيرية التقليدية تملك ذلك الزخم التفاعلي، وزيادة على ذلك نرى أن اللعبة التواصلية الجديدة ذات وقع تأثيري كبير في كل صغيرة وكبيرة داخل حياة الإنسان. وهذه المركزية لأدوات الاتصال انجرف معها الشباب في العالم العربي بنسب متفاوتة في محاولة منه للمواكبة من خلال تعاطيه اليومي المستمر معها، حتى أضحت عنصراً أساسيّاً في حياته، ولعل هذه المركزية وهذا النوع من الاستخدام هو بالتحديد ما مكن الشباب العربي من وعي "الذات" و"الآخر" وعياً موضوعيّاً سليماً، كما مكنه من إدراك "العصر" و"المحيط" إدراكاً بنيويّاً عميقاً من خلال الوقوف عند نقاط الضعف ونقاط القوة للأنظمة بمختلف مؤسساتها، وكل ذلك سهل آليات التعامل والتعاطي المناسب في الزمن المناسب. وعلى النقيض من ذلك بقيت بعض الأنظمة بكل مؤسساتها وفية لوسائلها، مكتفية بالأساليب التقليدية للعملية الاتصالية، بل أكثر من ذلك لم تبذل أي مسعى للوصول لمستوى الفهم فقط دون إتقان آليات التوظيف. بينما يرى بعض آخر الفرضية الأولى قاصرة وحدها ما لم نربطها بتراجع دور المثقف الذي خان الجماهير، فصار بين أمرين لا ثالث لهما إما الارتماء في أحضان الأنظمة والتحول إلى واعظ سلطة، أو تفضيل الهجرة والاغتراب بدل سؤال الوطن، لينكشف بذلك عجز شريحة المثقفين عن قيادة التغيير في مجتمعاتها، وأنها ليست النخبة الطليعية التي تقود المجتمع، فصار الشباب مقتنعاً بقدراته الذاتية وبفكرة صناعة الواقع من منطلق وعي جمعي عفوي تراكمي لحظي، وخاصة أن التاريخ لم يعد حاضناً للحقيقة، فليس ثمة تاريخ واحد، وبذا فالحقائق متعددة ولم تعد هنالك حقيقة واحدة مطلقة. وبين هذا وذاك ظهرت فرضية ثالثة ترى أن متغيرات المشهد العربي الراهنة ما هي إلا محصلة منطقية لضريبة التحديث المعطوب في غياب الديمقراطية والمؤسس لصراع المصالح والهويات، وبعبارة أخرى فإن ما يقع على امتداد جزء كبير من الوطن العربي ما هو إلا نتيجة طبيعية لتحول غير طبيعي للمجتمع التقليدي في صراع مع متطلبات التحديث في انعدام أي تأهيل اجتماعي أو ثقافي. فالدولة التوليتارية كانت جامدة كلية بينما مختلف التحولات الاجتماعية تمر في مراحل عدة: الكمون فالنضج ثم الانفجار. وبين كل هذه الآراء يبرز تيار رابع يحاول تفسير ما حدث على ضوء ما تشهده بعض الأنظمة السياسية العربية من أفق مسدود وانغلاق شبه تام، أفقد اللعبة الديمقراطية أي مصداقية -على رغم تدافعات العولمة الضاغطة وتزايد مستوى الاحتقان الاجتماعي واتساع مساحات التنفيس الافتراضي، مما سهل عملية الانتقال من الافتراضي إلى الواقعي. إننا أمام زحف للمحرومين من التعبير عن أنفسهم بحرية والمهمشين المبعدين من المشاركة في صناعة حاضر ومستقبل بلدانهم. إنها فرضيات إلى جانب أخرى لكل واحدة منها نصيب في تحريك المياه الآسنة في المشهد العربي الذي صار محط اهتمام القاصي والداني، فرياح التغيير قادمة لا محالة، فهذا الوباء المحمود ينتشر بسرعة في الجسم العربي الذي ظن العالم أنه مات وما عادت الحياة ترجى منه. وعمليات العبور من الهدم إلى البناء، ومن الثورة إلى الديمقراطية، ومن نظام فاسد إلى آخر رشيد مبتغى الجميع، وإن كان البعض متخوفاً أيضاً حول ضمانات نجاح هذه العملية. محمد طيفوري كاتب من المغرب ينشر بترتيب مع مشروع «منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©