التسمية في الشعر

نقرأ المقطوعة الشعرية البليغة التي منحت كتاب درويش الأخير تسمية ''أثر الفراشة'' لندرك طبيعة العلاقة الجدلية في التسمية عندما يطلق على الكل عنوان مقتطع من جزئه؛ ذلك لأن الدلالة الشعرية قابلة دائمًا للامتداد والترميز والتكثيف مثل الأحلام، وهي بذلك تغري بالتأويل عندما تفيض عن محيطها الحرفي المحدود لتغطي فضاء كاملًاً تنبسط عليه إشارتها القليلة· وإذا كان العنوان أشد علامات النص الأدبي جاذبية ومراوغة، فإن التقابل الماثل بينه وبين النص برؤيته المكتملة يظل مصدرا خصبًا لقراءات متتالية، قابلة دومًا للمراجعة· يقول درويش في مقطوعته الجزئية المنقولة إلى عنوان الكتاب: ''أثر الفراش لا يُرى/ أثر الفراشة لا يزول هو جاذبية غامض/ يستدرج المعنى ويرحل حين يتضح السبيل· هو خِفّة الأبدي في اليومي أشواق إلى أعلى/ وإشراق جميل''· التقنية الشعرية الموظفة في هذه المقطوعة سبق أن أطلقت عليها في بعض تحليلاتي الأخرى اسم ''تقنية الأحجية'' وتتمثل في طرح عنصر مبهم ثم مقاربته على دفعات كاشفة دون الوصول إلى هتك ستاره الأخير الشفيف· كان شعر صلاح عبد الصبور هو المادة التي اعتمدت عليها حينئذ في مطارحة هذه التقنية والتمثيل لها· في مقطوعة درويش، نجده يقتنص العنصر المبهم ''أثر الفراشة'' ويشرع في إضاءته تدريجيًّا دون أن يكون هو نفسه على علم مبيّت بالمقصود منه غالبًا، بل يتكشف له هذا المعنى في خطوات تتبلور عبرها رؤيته الشعرية في مجموعة من الخصائص المتوالية، أولها أنه لا يُرى، فهو شيء غير حسيّ، ومع ذلك فهو يتمتع بوجود يفوق كل المرئيات هو الخلود نفسه، إذ انه ''لا يزول'' وهذه خاصية كان يحلو لدرويش أن يعتبرها من أسرار الألوهية دون استغراق في المقدس الجليل· ثم يرصد خاصيّة أخرى له؛ إذ تشعّ منه ''جاذبية الغموض'' وهي مشهود لها بالفاعلية القصوى في كل أنواع التجارب· لكن الغريب أنه على غموضه ''يستدرج المعنى'' ويمضي قبل أن تتكشف سبله· هو الذي يجمع بين ما يبدو متناقضًا في الظاهر، فيصنع سرّ الأبدية في المعايشات اليومية، مستثيرًا أشواق التسامي والتجاوز حيث يشرق الجمال من ثناياه، لابد إذن أنه من قبيل الفنون، لكن أيها على وجه التحديد؟ ''هو شامة في الضوء تومئ حين يرشدنا إلى الكلمات/ باطننا الدليل هو مثل أغنية تحاول/ أن تقول وتكتفي بالاقتباس من الظلال/ ولا تقول·· أثر الفراشة لا يُرى/ أثر الفراشة لا يزول''· مع خصائصه النورانية يتجسد في الكلمات التي تنبثق من حياتنا الباطنية، هو فن قولي إذن تتلبس فيه اللغة بالموسيقى ويقول دون أن يفصح تمامًا·· يرسم الظلال بخفة ورشاقة وإمتاع، هو تلك الأحجية البعيدة القريبة، لا يُرى بالبصر لكنه لا يزال خالدًا عظيم الأثر، هل يقصد محمود درويش توصيف الشعر أو تعريفه، بخفته وجاذبيته، بحلاوته وغموضه وسحره