السبت 11 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

متحف نجيب محفوظ.. حلـم 13 عاماًً

متحف نجيب محفوظ.. حلـم 13 عاماًً
25 يوليو 2019 04:35

إيهاب الملاح

وطال الانتظار.. أكثر من عقد ونصف العقد منذ وفاة نجيب محفوظ (1911-2006) حتى الآن، كي يكتمل حلم تأسيس متحف يحمل اسمه، ويضم مقتنياته، ويصور مراحل حياته وإبداعه الذي توج بأرفع جوائز العالم نوبل في الآداب عام 1988.
المشروع الذي استغرق ثلاثة عشر عاماً، وتعاقب على تنفيذه ثمانية وزراء ثقافة سابقين، قدِّر له أن تفتتحه أول وزيرة للثقافة في تاريخ الحكومات المصرية؛ الفنانة إيناس عبدالدايم، مساء الأحد 14 يوليو 2019. جاء الافتتاح الذي شهدته الوزيرة المصرية في حضور عدد محدود للغاية ممن وجهت لهم الدعوات، بعيداً تماماً عن التغطية الإعلامية التي تليق به، فباستثناء ابنة نجيب محفوظ «أم كلثوم» وناشر أعماله المهندس إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار الشروق، وعدد من الإعلاميين والصحفيين المتصلين اتصالاً مباشراً بالمؤسسة الرسمية، غابت أبرز الأسماء التي اتصلت بتراث محفوظ وأدبه ورواياته؛ غاب نقاد نجيب محفوظ من جيل الكبار أو من تبقى منهم، وغاب دارسو أعماله من جيل الوسط في الجامعات المصرية، وغاب الذين انشغلوا بتاريخه وسيرة حياته والتأريخ لأعماله من الأجيال الشابة؛ وهو ما رصده الكثيرون في تعليقات على صفحاتهم الشخصية حزناً أو استياءً.
لكن، ورغم كل شيء، يبقى في النهاية أن متحفاً يحمل اسم أهم وأكبر أديب عربي في التاريخ الحديث، قد ظهر إلى النور بعد رحلة شاقة ومنهكة مع البيروقراطية والتعثرات والإهمال، وكلها كادت تؤدي إلى قتل المشروع والقضاء عليه بالكلية!

«الغيطاني».. صاحب الفكرة
في حواره الشهير الذي تحول إلى واحد من أشهر الكتب التي تؤرخ لسيرة نجيب محفوظ بعنوان «نجيب محفوظ يتذكر»، ألقى الكاتب الراحل وأحد أهم وأقرب تلاميذ محفوظ الروحيين بذور الفكرة، وضع الغيطاني بذرة ما أسماه بمشروع «المزارات المحفوظية»؛ كان الغيطاني بدوره يسكن في حارة تتفرع من شارع قصر الشوق، عنوان الجزء الثاني من الثلاثية، ولفت انتباهه وهو في العاشرة من عمره، أن روايات محفوظ كانت تحمل عناوين المكان الذي يعيش فيه. عقب وفاة محفوظ تكرس مشروع «المزارات المحفوظية» حول نواة أساسية هي «متحف نجيب محفوظ»، واختيرت تكية محمد بك
أبو الدهب الملاصقة لظهر الجامع الأزهر وفي قلب منطقة الغورية، الفضاء الأكثر قرباً وحميمية وتمثيلاً في عوالم نجيب محفوظ السردية.
كان الغيطاني اقترح تحويل «زقاق المدق» في شارع الجمالية في القاهرة القديمة إلى محمية ثقافية، وتحويله إلى مزار سياحي يدر الأموال، والقيام بتسجيل الأماكن المرتبطة بمحفوظ؛ مثل «المقاهي» التي ارتادها، والبيوت التي أقام فيها، والأماكن الأثيرة لدية في القاهرة القديمة، على أن يتم ترميم ما يحتاج منها إلى ترميم، والتعريف بها وتحديث الأماكن التي عاشت فيها شخصيات روايات نجيب محفوظ التي دخلت الأدب الإنساني في العديد من اللغات، وكان المشروع كله قد لقي ترحيباً وتمت الموافقة عليه، إلى أن اندلعت أحداث 25 يناير، فتعثر كل شيء ودخل المشروع برمته، وفي القلب منه المتحف، في دوامات لا تنتهي من الروتين والبيروقراطية، وصولاً إلى الانتهاء منه وافتتاحه للجمهور صباح الاثنين الماضي.

تكية محمد بك أبو الدهب..
تاريخ أثر
عن المكان الذي اختير مقراً لمتحف محفوظ ومقتنياته، أفادنا الباحث والخبير الأثري سامح الزهار بخلاصة تاريخية وأثرية مركزة توضح ماهية الأثر وقيمته، يقول: إن محمد بك أبو الذهب هو واحد من مماليك الأمير علي بك الكبير الذي اشتراه في سنة 1175هـ، وقد أطلق عليه لقب أبو الذهب لأنه بعد أن لبس خلعة الإمارة نزل إلى داره مسروراً، وكان ينثر الذهب على الناس، حتى دخل منزله في مشهد أقرب للمشاهد السينمائية التي لم تتكرر تاريخياً كثيراً.
أثرياً، والحديث ما زال للزهار، تعد مجموعة محمد بك أبو الدهب الأثرية إحدى أهم المجموعات الأثرية الموجودة بالقاهرة، حيث المسجد والمدرسة والتكية الواقعين بجوار جامع القاهرة الأزهر، تلك المجموعة التي شرع أبو الدهب في بنائها سنة 1187هـ 1703م، وهي من المباني الأثرية فريدة الطراز والبناء والزخرفة والتكوين، حيث تشكل كتلة معمارية بديعة تشرف على بقعة عتيقة من القاهرة وتمثل بدورها إرثاً فنياً وثقافياً مميزاً، وإلى جانب التكية البديعة التي تحتضن متحف أديب نوبل، يوجد مسجد أبو الدهب وهو من المساجد المعلقة، وهي نوع من المساجد يكون مرتفعاً عن سطح الشارع، والمسجد عبارة عن قبة يحيط بها ثلاث أروقة مسقوفة بقباب أخرى أصغر من القبة الرئيسة، وتلك القباب محمولة على أعمدة رخامية، ونجد المحراب في جنوب شرق المسجد أسفل القبة الرئيسة، وقد تمت تكسيته بالرخام، بينما منبر الجامع مطعم بالصدف، كما أن المسجد يميزه مئذنته الفريدة التي تقع في نهاية الطرقة الجنوبية، وهي عبارة عن مئذنة مكونة من ثلاثة طوابق تنتهي بـ5 رؤوس، وهي شديدة الشبه بمئذنة جامع الغوري.

القاعات.. والمقتنيات
يتكون المتحف من طابقين؛ الأول يضم قاعات للندوات، ومكتبة سمعية وبصرية، ومكتبة كتب عامة، بالإضافة إلى مكتبة نقدية ضخمة تضم أهم الأبحاث والدراسات والأطروحات عن أعمال نجيب محفوظ. أما الطابق الثاني فيضم جناحاً للأوسمة والشهادات التي نالها محفوظ، وآخر لمتعلقاته الشخصية مع بعض الأوراق بخط يده، وقاعة أخرى للأعمال والمؤلفات التي تضم جميع نصوص نجيب محفوظ بطبعاتها القديمة والحديثة، إضافة إلى الأعمال المترجمة للغات الأخرى، بالإضافة إلى قاعة للسينما، وعدة قاعات أخرى تحمل أسماء دالة بذاتها.
هذا إجمالاً المخطط العام للمتحف؛ لكنه تفصيلاً يضم ثماني قاعات معنونة وزعت على طابقي التكية، وفق مخطط دقيق يطمح إلى تمثيل سيرة وأعمال ومحطات أديب نوبل الكبير؛ جهزت وفق أحدث التجهيزات والتقنيات المتحفية في العالم، وفق التصريحات التي أدلى بها المسؤولون عنه. المهندس الاستشاري المسؤول عن أعمال المتحف، كريم الشابوري، قال في تصريحات صحفية: «إن المتحف يتناول عدة مراحل من سيرة أديب نوبل خلال قاعات العرض المتحفي؛ ما بين نشأته وحياته الشخصية، مروراً بمشواره الأدبي ككاتب مرموق، والجوائز التي حصل عليها محلياً وعالمياً، في مقدمتها جائزة نوبل».
مضيفاً: «وتمضي القاعات لتستعرض أعمال محفوظ الأدبية وتحول بعضها إلى أفلام سينمائية، شارك فيها كبار الفنانين، كما يستحضر المتحف شخصيات من روايات نجيب محفوظ، بشكل يجعل الزائر يشعر بالفعل أنه بداخل عالم محفوظ، ليس فقط من خلال رواياته، ولكن أيضاً من خلال الأفلام التي تعرض لقاءات مع محفوظ تعكس أفكاره وفلسفته الكامنة وراء أعماله الأدبية، واستعراض لقيمة محفوظ في إعادة اكتشاف القاهرة التاريخية أدبياً وإنسانياً وأثرياً، مثلما تجلى في ثلاثيته الشهيرة».
إذن، ووفق هذا العرض، فكل ما يأمل زائرٌ أو يود التعرف على المعالم الرئيسية والمحطات المفصلية والعلامات الكبرى في حياة أديب العربية الأشهر، سيجد في المتحف ما يدله عليه أو يرشده إليه من خلال المقتنيات والصور النادرة والمتعلقات الشخصية والمواد السمعية والبصرية والمرئية التي أهدتها ابنة محفوظ أو غيرها، إلى وزارة الثقافة التي سلمتها بدورها إلى إدارة المتحف، كي تأخذ مكانها من العرض في المتحف.
لمدة شهر كامل سيتاح المتحف للزائرين مجاناً، من التاسعة صباحاً وحتى الخامسة مساء، تشجيعاً وتحفيزاً للرواد والجمهور للتعرف على المتحف واستكشاف قاعاته ومحتوياته التي يعد من أبرزها وأهمها على الإطلاق:
القاعة التي تضم المكتب الشخصي لنجيب محفوظ ومكتبته التي كان يحتفظ فيها بأهم الكتب الأدبية والفكرية وغيرها. وعلى الجدران المحيطة بالمقتنيات والمعروضات في القاعات المختلفة، ثمة لوحات مؤطرة تعرض معلومات مكثفة ومركزة عن نجيب محفوظ؛ المعلومات البيوجرافية الأولية؛ ميلاده، نشأته، أعماله، الجوائز التي حصل عليها، نماذج من الترجمات العديدة للغات العالم لأعماله.. إلخ.
القاعات تمت تسميتها بعناوين مستوحاة من أشهر وأبرز أعمال محفوظ ومحطات حياته أو ما اتصل به وشكل علامة خاصة في مسيرته، فثمة قاعة لـ«الحارة» وأخرى لـ«الأصداء» وثالثة لـ«الرحيل» ورابعة لـ «نوبل».. وهكذا.

«الحارة».. التكوين
القاعة التي أطلق عليها «الحارة» هي نقطة الانطلاق في رحلتنا مع محفوظ، إنها الوحدة البنائية الأصغر في فضاءات رواياته وقصصه؛ إنها المعادل الموضوعي الأثير لدى محفوظ للعالم والكون كله كما بدت في أعماله الكبرى «أولاد حارتنا»، «حكايات حارتنا»، «ملحمة الحرافيش»، وغيرها.
في هذه القاعة تم حشد كل ما له صلة بعالم محفوظ الإبداعي، كل ما ألهمه وحفزه على الكتابة والإبداع؛ من كتب ومعلومات ومواد فيلمية وسمعية وبصرية عن عالم الحارة والمؤثرات الأولى والبذور الأولى التي شكلت وألهمت وعي ومخيلة صاحب نوبل الكبير. إنها القاعة «الكنز» كما أسميها للباحثين والمهتمين بأدب نجيب محفوظ؛ إنها كما ذكرت نقطة الانطلاق الأولى للتعرف على الرحلة التي أثمرت 56 كتاباً كاملاً؛ منها 34 رواية و20 مجموعة قصصية، وكتاب مترجم «مصر القديمة»، وكتاب حواري «أمام العرش»..

«أصداء السيرة»
القاعة التي استُلهم اسمها من عمل محفوظ الشهير «أصداء السيرة الذاتية» (صدرت الطبعة الأولى منها عام 1994)، خصصت بكاملها (تبلغ مساحتها 45 متراً مربعاً) مستودع حياة وسيرة محفوظ، ومشواره العريض مع الأدب والفن والحياة؛ إنها القاعة التي تحتوي عطر وعبق محفوظ الإنساني؛ فيها أشياؤه البسيطة؛ ما كان يساعده على النظر والسمع والقراءة، إنها الأدوات والعلامات التي أراد لها صاحبها الخلود بأثره وإنجازه، فبقيت تدل على واحدة من تجارب البشرية في العبقرية والمجهود.
يقول الشابوري، أقدم من خلال قاعة أصداء السيرة، والمستوحى اسمها من الرواية الشهيرة الأديب الكبير، السيرة الذاتية للأديب الكبير، نشأته ودخوله عالم الكتابة والأدب وروتين حياته اليومية، وتعرض القاعة المقتنيات الخاصة لمحفوظ، بدلته وقبعته الشهيرة، إضافة إلى العديد من الصور الفوتوغرافية لمحفوظ في مراحل عمرية مختلفة.
أما ثالث القاعات «التجليات» التي استُلهم عنوانها من الحلقات الشهيرة التي سجلها الراحل جمال الغيطاني مع نجيب محفوظ بعنوان «تجليات مصرية»؛ فهي كنز سمعي وبصري حقيقي لكل عشاق أدب محفوظ والمهتمين بتراثه وعلاقته بالمكان وجذوره التاريخية. في الحقيقة فإن إحدى أكبر روايات أعمال الغيطاني اسمها «التجليات» أيضاً، وكان يعتبرها، رحمه الله، واحدة من أعماله التأسيسية الكبرى. في هذه القاعة ثمة معروضات ومواد فيلمية متنوعة بين التسجيلي والوثائقي والحلقات المسلسلة وكلها يمثل ذخيرة حية ومتجددة متصلة بجوانب من إبداعات وتجليات سيد الرواية العربية ومؤصلها الأكبر بلا منازع.
وكان من اللازم، بل من الضروري، تخصيص قاعة بكاملها لما أخذ عن أعمال نجيب محفوظ للسينما؛ ستكون القاعة الرابعة هي قاعة «السينما» التي ستضم نماذج عديدة ومتنوعة من أفيشات الأفلام المأخوذة عن أدب محفوظ، والروايات نفسها، والذكريات التي سجلت صوتاً وصورة مع صناع هذه الأفلام؛ نجوماً ومخرجين وكتاب سيناريو ومنتجين ونقاداً.. إلخ.
في تصريحات صحفية سابقة له، قال الاستشاري الهندسي المشرف على مشروع متحف نجيب محفوظ، كريم الشابوري: «إن هذه القاعة تستهدف التعرف على أدب محفوظ وعلاقته بالسينما ومعايشة روح رواياته ونقل الحالة التي كان يعيشها عند الكتابة إلى الزوار، بالإضافة للتعرف على محتويات مكتبة محفوظ الشخصية، وأهم الكتب التي أهدتها أسرته إلى المتحف».
ثم تأتي «قاعة نوبل» لتحتل مكانها من المتحف القيم، إنها القاعة التي ستضم أهم المقتنيات في حياة محفوظ منذ حصوله على جائزة نوبل العالمية في الآداب عام 1988 وكل ما اتصل بهذا الحدث الضخم من مكاتبات وخطابات ورسائل وتبريكات وتهانٍ، فضلاً على تزويدها بمسرد جرافيكي -إذا جاز التعبير- يعرض للجائزة ومعلومات عنها وأبرز من فازوا بها، منذ تأسيسها عام 1901، فضلاً على الكلمة التي كتبها محفوظ وألقاها نيابة عنه محمد سلماوي في حفل تسلم الجائزة بالسويد في ديسمبر 1988.

المحطة الأخيرة
وثمة قاعتان أخريان أطلق عليهما «رثاء» و«أحلام الرحيل».. إنهما القاعتان اللتان توازيان تقريباً المحطة الأخيرة في حياة محفوظ (إذا استخدمنا عنوان الكتاب الذي كتبه عنه محمد سلماوي)؛ إنها الفترة التي تمتد من محاولة اغتياله المجرمة في أكتوبر 1994 وألقت بظلالها الكابية الكئيبة على ما تبقى من حياة الكاتب الشيخ الذي كان تجاوز الثمانين من عمره آنذاك، حتى وفاته عن 9
ثمة حضور هنا لقصاصات وأوراق بخط محفوظ وهو يحاول أن يتدرب على الكتابة من جديد كطفل على أعتاب المدرسة، ونماذج من العبارات والجمل التي استهل بها نشاطه في جلسات العلاج الطبيعي عقب تعافيه من الطعنة القاتلة، وثمة صور تسجل لحظة بلحظة يوميات الحادث وأصداءه في مصر وكل أرجاء العالم العربي، بل العالم كله.. عشرات الصور التي تظهر الجسد الناحل الضعيف راقداً على سرير المستشفى والأسلاك الطبية موصولة بكل جزء من جسده. إنها ذكريات للتاريخ وشاهد ناطق بجرم الإرهاب ووحشيته الهمجية في عصر. وكان من الطبيعي أن تضم قاعة منفصلة كل ما يسجل مسيرة محفوظ التكريمية من ميداليات وشهادات ودروع ودكتوراه فخرية وبراءات فوز بجوائز، وكلها علامات وشواهد على المسيرة العريضة من الأدب والإبداع والإنجاز والخلود.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©