الأحد 12 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتلة ابنة الفراغ

الكتلة ابنة الفراغ
29 يونيو 2011 19:49
الكتلة والفراغ، إشكالية النحت وهم النحات. هما موطن التساؤل الدائم الذي يؤرق الفنان، حيث الفراغ المحسوس لا بد له أن يتلاشى، يتضاءل أمام كتلة تحتويه، فالنحت كتلة تملأ فراغاً والفراغ جسد لا مرئي يحيط بالكتلة، هذا الاحتواء والمحتوى لم يخلق بشكل عشوائي. لا بد أن يكون لعملية الامتلاء وتضاؤل/ الخلو معنى، فراغ الأرض، فراغ الهواء، وامتلاء الأول، هو خلق كتلة في فضاء الثاني. لنلعب مع النحات لعبته الآسرة، فحينما يأتي بقطعة من الصوان، لا تمتلك معنى، هي قطعة في فراغ لا دلالة لها، لم تستطع أن تستغل فراغها، تحاوره، تنجذب إليه، إلا أن إزميل النحات، حالما يعمل فيها انحناءاته وتعرجاته وأشكاله الذهنية تتجسد هذه القطعة لتصبح كتلة قادرة على منحنا المعنى الذي يريده الفنان، فتبدأ الدهشة. الفن النحتي لا يمكن أن يكون عشوائياً، هو فن قرائي، مثلما نقرأ سطوراً في كتاب نقرأ ملامح في جسد داخل كتلة، داخل فراغ، كل ذلك يخلق صورة تعبيرية لا بد لها من الاختلاف حتى مع ذاتها، هي تحاكي ذواتنا، تحاكي الجمال فينا، فما بين الجمال والقبح لحظة تعبيرية، حتى لو كانت مرفوضة جماليا في الفن، هنا يتحول الفراغ إلى معنى حينما يمتزج بالكتلة بوصفه شكلاً تعبيرياً يصبح مساهماً في جمالية الكتلة. ومن الرائع حقاً أن الإنسان في مكتشفاته الإبداعية توصل إلى العلاقة الجمالية بين فن العمارة وفن النحت، وربما كان الطريق الذي يجمعهما معاً هو علاقة الكتلة بالفراغ. هذه هي فكرة علاقة الجمالي بالغرضي، أي علاقة الكتلة بالفراغ والتي يمكن لنا من خلالها أن نقرأ الأعمال النحتية التي نشاهدها أمامنا في المعارض المهمة. الجسد في المعنى هنا نتصور أن أي كتلة في فراغ تمتلك جماليتها وغرضيتها على مستوى العمارة، وشبيه بذلك يمكن أن نقرأ أيضاً ما يتحقق على مستوى النحت من خلال 25 عملاً نحتياً قدمه فنانون عالميون في معرض نحتي أقيم في أبوظبي الأسبوع الماضي اشترك فيه فنانون أميركيون هم بيل لي بعملين، وجان فان الستاين بعمل واحد، وآريا ازادي بثلاثة أعمال، كما قدم الفنان الكوري هيونج سونك هيو عملاً نحتياً واحداً، وأسهم الفنان الياباني يونج بتسعة أعمال والإيطالي جورج فيلين بعمل واحد، والنمساوية كارولاين رامز دورفر بعملين نحتيين، وأخيراً اشتركت معهم الفنانة اللبنانية سلوى زيدان بستة أعمال نحتية، وحمل المعرض عنوان “الفن في المكان” “Art in Space”. ربما لا أتفق مع تسمية المعرض هذه لكون الفن كلمة فضفاضة تشمل النحت والتشكيل وغيرهما، أما المكان فهو تحديد مطلق؛ لذا أجد أن التخصيص في التسميات ضرورة، وربما كان بالإمكان تجسيد المعنى الخصوصي لعلاقة الكتلة بالفراغ حينما نطلق عليه “الجسد في المعنى”. حسناً.. تم الاشتغال في الأعمال النحتية على خامات متعددة، نفذت من خلالها الكتلة، حيث اشتغل بعضهم بالاستانلس ستيل، مثل أعمال “نيل لي” والكرانيت كأعمال آريا أزادي وبالماربل الصلب الأسود الخاص الذي يتحول إلى مادة شبيهة بالحديد كأعمال الفنانة سلوى زيدان، بينما اشتغل الآخرون على مادتي الرخام والفولاذ في أعمالهم النحتية. لنبدأ من عمل الفنان الإيطالي جورج فيلين كونه عملاً واحداً في الغاية والغرض وهو يتكون من ثلاثة أجزاء في الشكل والكتلة، ثلاث منحوتات من المرمر الأبيض ليخلق منها فيلين مكوناً أنثوياً يعبر به عن “عروس البحر”، الشكل الخرافي الذي دخل الحكايات الشعبية ممتزجاً بقصص غياب البحارة العشاق. الهرم الحكائي لم يقدم فيلين الموضوعة بشكلها المباشر التي تعني الموضوعة ذاتها “عروس البحر” التي تتكون من نصفين، نصف آدمي لفتاة جميلة أعلى ونصف سفلي لذيل سمكة، وحتى في الحكاية نجد الأعلى والأسفل، الإنساني والحيواني وموقعهما في الهرم الحكائي. هنا يقرأ جورج فيلين الأمر بشكل مختلف تماماً حيث يصبح الجمال لديه في الجزئيات والغرضي يمحى تماماً، إذ ليس من مهمته أن يكون تعليمياً، إذ إن التعليمية تتجسد في الشكل التقليدي “جسد فتاة/ ذيل سمكة”، أما هنا فإن الجمالي هو الغاية المتجسد في “فم المرأة” المكتز في الجزء الأول، ووجه الرجل المتطلع في الجزء الثاني، وزعنفة الوجوه المتقابلة في الجزء الثالث. ومن جانب آخر، لنقرأ ماذا أرادت سلوى زيدان أن تمنحنا جمالياً من خلال لوحاتها؟ قبل كل شيء نرى وجهاً مطوياً في منحوتة ونرى جسداً لا يستقر، أو حرف الهاء المنحني إلى الداخل، أو الرحم الأنثوي في غياهب ظلمته أو إنحناءة زهرة على ذاتها. كلها معانٍ قدمتها سلوى زيدان برؤى مختلفة لكنها تبقى قراءات للنص “المنحوتة نص مقروء أشبه بالنص الكتابي وأشبه بالنص المعماري” بدليل أن المنحوتة التاريخية لا تزال محتملة القراءة، لكن تبقى في إطار تاريخيتها. روح الدائرة هنا تقدم سلوى زيدان أشكالاً شفافة، أليفة، ليس فيها غرابة وتعقيد، وفي مجملها تتوخى روح الدائرة، فما بين حرف الهاء الذي تسميه سلوى زيدان بالجسد اللامستقر، المتحرك دائماً يمنحنا معاني شتى، ناهيك عن وجود ظاهرة غريبة، وهي أن الجمالي أوالمشرق/ المضيء لدى سلوى زيدان ينبثق من الأسود القاتم، وهذا متحقق في فهمها للأسود وعلاقته بالبياض، فهي في أكثر من لقاء تحدثت عن انشغالها في الفترة الأخيرة على مستوى التشكيل باستخدام الحبر الصيني لتخلق من فراغاته المشكلة البيضاء أشكالاً أو لنقل أن الفراغ/ البياض هو الذي يشكل انحناءات الحبر الصيني، فمن هنا يشع البياض الذي هو الجسد. في منحوتة سلوى زيدان “الهاء/ المتموج” التفافات ثلاث تتداخل مع بعضها، لا يمكن وبكل بساطة أن تكتشف بدايتها أو نهايتها وكأننا لا نبصر الكتلة السوداء، بل نبصر الفراغ الأبيض. نص مخفي قدم هيونج سونك هو عمله النحتي “الرسالة”، وهو متكون من أوراق بيضاء مفتوحة على طرفيها وثمة ورقة بيضاء ملتوية في الأعلى، نلاحظ هنا شيئين، الكتلة الجمالية والكتلة الغرضية، أما الجمالي فهو في الصفحة البيضاء المطوية التي ترمز إلى دلالة الإخفاء، الرسالة نص مخفي، والغرضي هو إيصال رسالة إلى الآخر، وأنا هنا لا يعنيني الغرضي بكل جزئياته، بل اللافت لي هو الجمالي، والمجانسة بين الإخفاء/ الانحناء، المعنوي/ المادي. ولو قرأنا منحوتة جون فان الستاين التي أطلق عليها “ريد ستون Red stone”، وهي من البرونز والمرمر لوجدنا دائرة مثقوبة من الوسط، عين على العالم تجلس في شق طولي داخل حامل طويل يرتكز في نهايته على جسد لا معنى له، إلا أن براعة هذا الفنان في صنع نقاط الارتكاز وتحديد مواقعها وطريقة أبنيتها، حيث الفراغ/ الشق مكان ارتكازي، والكتلة الكبرى في الحامل مكان ارتكازي وهي أيضاً كتلة أخرى توازي طول الحامل الأرضي، هنا يحقق الستاين التوازي بين فراغ الشق وامتلاء كتلة الحامل، أي أن الفراغ يساوي لديه الامتلاء وأنه قادر كفنان أن يخلق منهما تساوياً في المنحوتة، وهذا ما تحقق فعلاً. الولادة السرية في منحوتات الياباني جون يونج التسعة نجد النزعة الإنسانية واضحة والاشتغال على الحكاية متجلياً، ففيها نقرأ “أمومة” و”عشق” و”حرف الصفر” و”الولادة” و”العائلة” وأشكالاً تجريدية تشير إلى حرف النهي والتكور والجسد الأنثوي. في منحوتته، نجد اتساعاً في المعنى والكتلة، كما نجد بعداً صريحاً للنص ومن المستبعد اهتمام هذا الفنان بالتأويل، إذ هو يبتعد كما يبدو عن الغموض، أو لنقل أن الغموض لديه ليس كائناً، بل هو حالة غير مستقرة في مجمل أعماله. في منحوتة “الولادة”، اشتغال جمالي رائع على حركة امرأة تحاول أن تلد بسرية كاملة، وجه مغطى لامرأة تنظر إلى الأسفل وخلف الغطاء بطن منتفخة تنتظر أن تكون فراغاً. في منحوتة الثانية “العائلة” يتحول الفنان يونج إلى التعبيرية الفاضحة، المذهلة حينما يجسد عائلة من أب وأم وابن، باعتبارها منحوتة فقط، بل هي نصب إنساني خلاق. حركة متحفزة بمواجهة الحياة، الأم تنحني على ابنها والأب يمسك بهما معاً، إنه بُعد إنساني خلاق، هنا يتجسد البُعد البشري الرائع للوحة في الإطار الإنساني. وربما نتساءل أخيراً، أي شفافية هذه التي تعيش في الكتلة، وهل ترانا نبصر الكتلة أم الفراغ، وهل ثمة مبحث دائم عن الفراغ الذي يحيط بنا وربما يشكلنا - نحن - دون أن ندري كون الإنسان منحوتة من دم ولحم بشكلها التعبيري والجمالي. جدليات المنحوتة في منحوتة الثالثة “أمومة” جسدان يحتضنان بعضهما بعضاً وتوزيع رائع للتداخل بين الجسدين، حيث تنحني الركبتان للأم على ركبتي الابن ويستقيم جسد الابن ليوازي جسد الأم وتظهر الذراع اليمنى للأم لتمسك كفها برأس الابن، هذا التعبير يكفي ليقدم معنى الأمومة، حيث تتضح في هذا العمل جدلية الإخفاء/ الإظهار متجلية في نص المنحوتة، اختفاء الذراعين، ذراع الأم الأيسر، وذراع الابن الأيمن ظهور ذراع الأم الأيمن وذراع الابن الأيسر بنوع من التوازي كي يأخذ الجسدان مساحتيهما في الفراغ أو لنقل كي يحتوي الفراغ الكتلة المتشكلة من جسديهما، يختفي وجه الابن ويظهر وجه الأم، يختفي الخوف، ويظهر الاطمئنان، تتوازى السيقان والركبتان بين أفقية ساقي الابن وعمودية ساقي الأم بين إخفاء ساقي الابن وإظهار ساقي الأم. دائرة رخوة هذه الجدلية الثنائية يلعب عليها الفنان الياباني في أكثر من منحوتة حتى في منحوتاته ذات الطابع التجريدي، ففي منحوتته الإصبع/ الإبهام، نرى إظهار الإبهام واختفاء الأصابع الأربعة، في حركة متداولة تشير إلى فراغ داخلي على شكل دائرة رخوة، وهنا نعود إلى إشكالية الكتلة وتجسدها في الفراغ أو الفراغ المتجسد في الكتلة لنشعر أن الرخو/ الفراغ هو ما يلفت النظر أي هو المتشكل المرئي إذ لا تعني لنا خطوط سوداء في جدار أسود بل الأهم والمرئي هي الخطوط السوداء في جدار أبيض حيث ينحت البياض هنا، وشبيه بذلك أننا لا نبصر في الشجرة تشكلات أوراقها وتداخلها بقدر ما نبصر الفراغات التي تخلفها تعالقات الأوراق. من خلال ذلك يمكن أن نقرأ منحوتة “الجسد الآدمي” حيث نحت الفنان الياباني قوساً شكل فيه فراغين الأول سفلي والآخر علوي في اشتغال على ثنائية الأعلى/ الأسفل، أما الأعلى فقادنا إلى افتراض الوجه الأدمي، أما السفلي فقادنا - حتماً - إلى تمثل انفراج الساقين وما بينهما فراغ وكلاهما يرتكز على الأرض، ولهذا تقول لو لم يكن هناك فراغ في المنحوتة لما تجسد المعنى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©