الأربعاء 15 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

النظام.. نضج العبوديّة

النظام.. نضج العبوديّة
22 نوفمبر 2018 04:54

أسماء جزائري

أنتَ حرّ إلى أن تجرّب.
هل كان لنا أن نعرف معنى التّجنب لو لم نندفع؟ كيف يفهم الإنسان سلوكَ العبد الحرّ في اختيار عبوديّته أو لنقُل أصفادِه؟ لا يمكنُ القول دائما أن جهلنا للأمر هو نوع من الجهل، بمفهومه المتداول، أو طريقة مفرغة من الإيجابية باعتبار أن ما نجهله تفسير مطلق للظلمات، فأحيانا الشيء المجهول هو مساحة مضافة لممارسة طبائعك بحريّة أكثر من المعرفة، كلّما عرفَ الإنسان ضاقت من حوله بدائيته، لأنّ البدائية كمصطلح هي الفكرة القريبة نوعًا ما من الحريّة من دون شوائب ك «الإنسان البدائي»، إذ لا تحتكم ممارساتك على (احترام) قانونٍ ما من (تجاوزه) إلى ميزان مبدأ تأنيب الضّمير لأنّ فكرة القانون ذاتها منعدمة وفكرة الأخلاق ذاتها مجهولة، وكلّ تجاوز لا يعتبر جريمة لأنه لا مفهوم بالأصل للتّجاوز. إنها الطريقة الرسميّة والبريئة لممارسة زلاتك على أنّها صواب بعيداً عن الحلال والحرام، الخطأ والصحيح، بعيداً عن مفهوم «العقاب».
حين بدأ الإنسان بوضع قوانينه على قوانين الطبيعة أصبحت فكرة الحريّة شبيهة بفكرة الاعتداء على الطبيعة لكن بمفهوم النظام. ويشكّل حتى الاسم الذّي يطلق عليكَ عند ولادتك مرحلة جديدة لمرحلة كنت فيها حراً بالكامل من الأنساب والأعراق مندمجاً بعالم التّقسيم الجيني وأشجار العائلة، ومن ثمّة يمكننا أن نوسّع دائرة الجهل «جهل ماذا بعد؟» إلى ما يوقعنا في تساؤل مهم: هل يحقّ لنا القول اليوم أنّ الإنسان عبد حداثيّ؟ هل العبودّية اختيار ناضج في عالم النظام؟

حرية اختيار القيد
ستظلّ النار قابلة للّمس إلى أن تُحرق أصابعنا، وعلى هذه التّجربة نقيم قانوناً لحماية الذات من تداعيات تجريب الأخطار، فليس كلّ حذر حرّ بالضّرورة كما ليس كل مغامر حرّ في ممارسة الأخطار خاصّة إذا ما تعلّقت بالجماعة، هذا ما حدث حين التحق الإنسان بالعالم المُشترك، ذلك العالم الذّي سيصبح انتسابه إليه المفهوم الصحيح لتشذيب جناحيه أو تسييج المساحات المتاح له التحليق فيها، وبالضرورة ستختفي الكثير من الممارسات التّي كان يجهل معناها داخل هذه القواعد، الأمر ذاته يحدث حينما يدخل شخصان في علاقة ما، مع الوقت يصبح الطّرفان شبه ملزمين بإخبار بعضهما البعض قبل أن يقوم أحدهم بالتّوجه لمكان ما بعد أن كان الأمر لا يتطلب سوى أن تذهب متى شئت وإلى أي مكان على سبيل المثال لا الحصر، تلك المساحة التّي كنت تملكها سلفاً ستختفي لأنّك انتقلت إلى مستوى آخر من التّجريب، والتجربة كالقانون لن تجعل منكَ حرّا بالقدر الذّي تمنحك حريّة اختيار قيودك، فمثلا يصبح عدم إبلاغ الآخر حالة من اللااهتمام حتّى وإن كان هذا اللامُهتم لا يقصد سوى عدم التّعدّي على ممتلكاتك من الحريّة، أو يصبح حالة من الكذب وحتى حالة من الخيانة لكن خيانة من؟ طبعاً خيانة قانون عالم تلك العلاقة، وبحكم أن الخيانة القانونيّة هي في الحقيقة ليست خيانة للحريّة بقدر ما هي خيانة للعبودية الحداثيّة إلا أن الإنسان سيفتّش عنها مع الوقت لأنّه مخلوق تنطلي عليه الخدع الهرمونيّة وبالتّالي يطلق على حاجاته البيولوجية أسماء عاطفيّة بعيدة عن معناها الجبري المختصر في «الحاجة»، وسيتبنى فكرة عدم إخبار الآخر عن ذهابه لمكان ما، لا من باب نسيانه للأمر بل من باب إدخال الآخر في تجربة الانتباه لنسيانه هذا، فالسلوك هذا ليس نابعاً من فكرة الحريّة بل من فكرة العبودية إذ ينخرط من جديد في تطوير تلك القوانين لتصبح اختباراً أيضاً بطريقة معاكسة كما يحدث في كل ما يحوم حوله من التزامات وجودية أو مدنية أو نفسية.

العالم يسيطر على ما يريده الفرد بما يلزمه ولا يختلف مطلقاً عن فكرة العبد والسيد، الفرق أن العبد فرد فيما السيد مؤسسة

حرية مزيفة
تُشكلّ العبودية في فكر الفرد الحداثيّ حالة من النّظام العام، العالم مبني على قوانين مشتركة ومختلفة في الآن ذاته لجعل هؤلاء الأفراد أناساً مفعول بهم تقودهم الأسواق والمؤسسات النفسية والعسكرية وكذلك السياسية والدينية مقارنة ببداية الإنسان مع الطبيعة، ويعتقد هذا الفرد في أعماقه أنّه يملكُ خياراته المستقلّة عن الجماعة لكنّ ذلك الاعتقاد ليس إلا تراكما لقوانين هذه الجماعة، الوهم وحده هو ما يصنعُ لك تلك المشاعر الزائفة المنبعثة من قولك لا، لكن عن ماذا تقول لا؟ أليست تلك الـ «لا» هي تشعبٌ آخر انطلاقاً من مصدر الاعتقاد ذاته لبناء مصحّة أخرى للاستعباد بمفهوم الديموقراطيّة والاستقلالية؟
لا وجود لـ (لا) الرافضة من الجذور لأنّ الحقيقة تقول إنّ لا عودة للخلف، الخلف الخالي من كائن الإنسان إلا إذا قرر هذا الإنسان أن يبيد جنسه ومعه يبيد كل أساليب الحياة المنظمة محافظا على رضيعين للانطلاق من البدائية مجددا ويصبح الآن الذّي اختفى مجرد «اتلانتيس» آخر.
فهل يمكننا أن نكون ناضجين وخارجين عن النظام معاً بالمفهوم الآني؟
ينضج الإنسان كلّما أصبح منظماً، ويصبح منظماً كلّما احترم القانون العام لجماعته أي كلّما كان وفياً لعبوديّة القانون، ويبنى هذا الاحترام على التنازل الجماعي لصالح وهم العدالة الاجتماعيّة لسلوك الانضباط والفرد السّويّ.. هكذا حافظ العالم على الضعفاء ضعفاء نسبيا، وانطلاقا من هذه التنازلات عن فطريّة المخلوق كمخلوق تعرّض الإنسان للخيانة الوجودية، فبدل أن تحميه تلك المفاهيم للأبد أصبحت تعرّضه أكثر للخطر، فالحروب بالمجمل هي نتيجة ظهور الإنسان على حقيقة حريّته قبل أن يقوم هذا النظام بتقييده داخل قوالب التطوّر ومفاهيم الأخلاق للحدّ من تعدّيه على الحقوق، بمعنى، الفطرة تتغلب على السلوك المكتسب بالتلقين، فالإجرام أصيل في الإنسان أمّا الاتزان فهو خلل وجودي أصبح سلوكاً حضارياً، فلا تستغرب إن عاد أحدهم لممارسة الحريّة عن طريق العنف، فالعالم يتغذّى على العنف، خاصّة عنف العبوديّة المقنّن، أنت مضطر لتكون سلعة في عالم الرأسمالية المتوحشة ومضطر للذهاب إلى حروب لا تعنيك فقط لأنّ أحدهم قرر أنه من النظام أن تواجه الخطر بدل تجنّبه تحت ذريعة الواجب الوطني، ومن هنا فالعالم يسيطر على ما يريده الفرد بما يلزمه ولا يختلف مطلقا عن فكرة العبد والسيد، الفرق أن العبد فرد فيما السيد مؤسسة، وما أشدّ سوط تعسّف هذه المؤسسة.

حرية الكتابة
لكن ماذا عن مساحة الكاتب من الحريّة الورقيّة؟
تقر إيزابيل الليندي في حوار لها إثر إصدارها روايتها البوليسية «ابل خويغو ديل ربير» أنّها تحنّ أحياناً إلى «البراءة الأدبيّة» التي كانت تتحلّى بها لدى كتابتها أول رواية لها «منزل الأرواح» التي حققت مبيعات عالية، وتضيف لوكالة فرانس برس «في تلك الفترة كنت بريئة بالكامل من مجال الأدب، لم أكن أخشى شيئاً لأنني لم أكن أعرف عالم النّاشرين ولا الوكلاء ولا العقود، هذه البراءة فقدتها، لدي الكثير من الحريّة للكتابة إلا أنني أتأسف على حريّة الجاهل، الشخص الذّي لا يعرف المجال الذّي ينخرط فيه».
فهل يستطيع أي أديب أن يحافظ على نفسه داخل الكتابة ولا يصبح عبداً للعقود وسوق الأدب؟
ما الذّي يفقده كل أديب بعد العمل الأوّل؟
إنّ ما يفقده الأديب هو ما يفقده من جرّب لسعة النّار ومن جرّب الذهاب إلى مكان بعد أن تركَ رسالة لإعلام الطرف الآخر، بالمختصر «البراءة» أي البراءة الأدبيّة كما سمتها الليندي هي المجال المفتوح ما بين أول كلمة ونقطة النهاية. وفي العموم هي المسافة الزمنية بين إلقائك في الوجود وتثبيت ذلك باسم ولقب، هي الحرّية المتوحشة التّي تجهل ما تخوض فيه، إذ ستتحوّل الكثير من الإنجازات إلى وقفة تأمّل ما بين الذّي فقدناه فور حصولنا على ما قررنا خوضه، الأمر أشبه كذلك بذلك الجهل الذّي يعتريك قبل أن تجرّب ابتلاع ماء البحر، كأن لا أحد يخبرك بملوحته، تأتيه بتلك القناعة التامة تنحني وتنتظر المذاق المعتاد، تلك الحركة التّي ستنتفض بها تعبيرا عن فجيعتك أو ما لا تتوقعه هي ما ستجعلك في كلّ مرة تستعد لأنّك الآن أصبحت تعلم، في عالم الأدب الأمر لا يخلو من هذا المفهوم، مفهوم الاستعداد. قليلون هم من يستطيعون البداية مثل البداية إن لم نقل منعدمين، التجربة تحاصرك وتجعلك تتساءل سواء كانت فاشلة أم ناجحة، فلست في مستطاعكَ الآن بعد عن فقدت عذريّة الجهل ودخلت عبوديّة سوق الأدب وميولات دور النشر وما يطلبه القراء، أن تصبح حراً مجدّداً إنّك فقط انضممت إلى الجموع الكثيرة التّي عوضت تلك المساحة بالوقوع داخل فخ وهم الحريّة، لقد أصبحت عبداً مهما حوّلت الأنظار إلى صناعة زيف زائل عن حريّة شخوصك الملتزمين.

الحرية المشتهاة
لكن ماذا عن عمل سينشر من بعدك لأجيال لا تعرف عنها أيّ شيء؟
إن فكرة أن تكتب مخطوطة توصي أن لا تستخدم إلا بعد مرور مئة سنة شبيه تماماً بفكرة كتابة رسالة ووضعها داخل زجاجة ثم رميها في البحر ليفعل بها المدّ ما شاء، فتصبح أكثر حريّة لأنّك تحررت من الخوف، الخوف من الفشل ومن القارئ والخوف على اسمكَ، كل هذا لم يعد يعنيك فقط لأنّك مؤمن باختفائك من الوجود «الموت»، في 2014 ظهر مشروع مكتبة المستقبل وضمّ إليه مارغريت أتوود، ديفيد ميتشل، سيجون، أليف شفاق، ومئة مساهم آخرين، مشروع فنّي أدبي لن يطّلع عليه سوى قراء 2114 كما حلمت به الفنانة الاسكتلندية كاتي بيترسون، والسنة التّي يكتمل فيها نمو أشجار غابة نوردماركا في أوسلو، والتي زرعت شتلاتها الألف كما جاء في صحيفة الغارديان لتستخدم في صناعة أوراق الكتاب الذّي سيطبع للمرة الأولى، وتقول كاتي بيترسون عن المشروع: «سوف يعيش ويتنفس من خلال نمو هذه الأشجار، أتصور حلقات وجُذوع تلك الأشجار بمثابة فصول هذا الكتاب، فهذه الكلمات غير المكتوبة التي ظلت طيّ الكتمان طوال هذه السنين سوف تنشط من جديد، وتُصبِح حقيقةً ملموسة، وتلك التجرُبة التي يعيشها زُوار الغابة، سوف يتغير معناها على مر العُقُود المُتتابِعة، ليُدرِكوا مع بُطء نُمو أوراق هذه الأشجار، أن ثمة طاقة غير مرئية نابعة من أفكار هؤلاء الكُتاب تقبع ساكنةً في طيات هذه الأشجار، وأن هُناك شيئًا قيِّماً سيأتي إلى حيز الوُجودِ يومًا ما». فهل سيكون هؤلاء أكثر حريّة؟

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©