الأحد 12 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصائغ بطين دجلة

الصائغ بطين دجلة
28 سبتمبر 2011 22:18
يده أرق من الماء، وأقوى من البرونز، يحمل رؤى عربية الملامح وعراقية الهوية، ينسج مفردات تمتد بعيداً في آفاق الموروثات السومرية والبابلية والآشورية، يعيد ترتيب المرموزات التي وضعت على أبواب المساجد الإسلامية، يخلق رموزه الخاصة التي تتعالق والأحداث التي مرّ بها إنسان بلاد ما بين النهرين، ينتمي إلى الحضارة الشرقية والعالمية المعاصرة، ويهتم بكل ما يجعل الرمز معبراً عن الحكاية. هو محمد غني حكمت، النحات الذي استلهم منحوتاته من القصص العربية وحكايات الشعراء ومسلات الأقدمين. رحل محمد غني حكمت قبل أيام إلى عالم آخر، عالم المثال والخلق الأجمل، سيرى هذا النحات في عالمه الجديد ما صنعه الخالق العظيم ويتأمل ما أبدعه رب الكون، فيندهش بروح الفنان الذي خلق فأبدع. محمد غني حكمت صانع التماثيل في بغداد: “كهرمانة” و”شهريار وشهرزاد” و”الجنية والصياد” ثلاث حكايات جاءت بين دفتي ألف ليلة وليلة، حكاية النساء المعذبات والحظ العاثر والفقراء الصيادين والجنيات المسحورات والقصص التي لا تريد شهرزاد أن تنهيها، حكاية الموت والخلود والديمومة والاندثار، حكاية المكيدة والخوف والانتصار، حكاية الحب والهيام والانتحار. “كهرمانة” نصب أقامه محمد غني حكمت في ستينيات القرن الماضي لفتاة رائعة الجمال اسمها كهرمانة وهي تحمل جرتها فوق كتفها حيث تقف رشيقة جميلة تحيط بها 40 جرّة. حكاية فتاة كهرمانة وردت في حكاية “علي بابا والأربعين حرامي” من ألف ليلة وليلة كما يرى الكثيرون بينما لا يرى آخرون أن هناك صلة بين المنحوتة وألف ليلة إذ هي قصة متداولة في الموروث العربي. تدور حكاية كهرمانة حول هذه الفتاة التي كانت تعيش مع أبيها الذي يملك داراً كبيرة يطلق عليه “الخان” لإيواء المسافرين وكان لديه عربة تحمل جراراً مملوءة بالزيت التي ينقلها إلى سوق المدينة لبيعها. وفي ليلة من ليالي الشتاء الباردة فجأة نهضت كهرمانة من نومها حينما سمعت أصواتاً غريبة، وبين الظلمة والضوء والنعاس والصحو واليقظة والحذر شاهدت هذه الفتاة عدداً من الغرباء وهم يختفون في جرار الزيت الفارغة. كان الغرباء يترقبون المكان بين حين وآخر، وكهرمانة مذعورة تحاول جاهدة أن تخبر أباها، وحين علم الأب بالأمر أخبرها بأن تحدث حركة وجلبة كي يختبئ اللصوص وملأت كهرمانة الجرار بالزيت واحدة تلو الأخرى، صرخ اللصوص الغرباء وجاءت الشرطة وألقت القبض عليهم. تلك هي حكاية كهرمانة التي صاغها محمد غني حكمت نحتاً وأبدع فيها فقدمها بكل تفاصيلها الصغيرة. شخوص التاريخ محمد غني حكمت صاغ حمورابي والمتنبي وأبو جعفر المنصور، قال يوماً ما “من المحتمل أن أكون نسخة أخرى لروح نحات سومري أو بابلي أو آشوري أو عباسي”. استلهم الماضي واستعاد سحره من خلال وعيه غير الشعوري للتاريخ، وقف عند شواهد القبور ليأخذ منها كيف يخط الناس حزنهم، أخذ أيقونات الفرح والسحر من أبواب البيوت القديمة. امتلأت ساحات بغداد بأعماله وكان يحلم حقاً بمدينة تزينها التماثيل والمنحوتات العملاقة. إنه آخر نحات من جيل العمالقة، أنجز وصنع نصب الحرية لصديقه الرائد جواد سليم الذي مات قبل أن يركز أعمدته عند ساحة التحرير في بغداد فتولى محمد غني حكمت تلك المهمة الشاقة فأبدع حين اختار المكان وأجاد حين اختار زاوية الرؤية التي يأتي إليها الزائر متوجهاً بهذا النصب صوب دجلة المنسرح وسط بغداد. أنجز ثلاثة أبواب لمدخل كنيسة في فراجينة ـ تستادي يبرا في روما وباب السلام وهو أحد بوابات مداخل اليونسكو في باريس وتمثال الأمومة من الخشب في متحف مدينة بالرمو بإيطاليا. كما أنجز تمثال الأمومة من الحجر في راشانا البترون في لبنان، ونافوة في المنامة في البحرين، وجدارية من الحجر في حدائق الملك حسين في عمّان بالأردن. سيف النصر جاء إلى أبوظبي والتقيت به في يوم الاثنين التاسع من يوليو عام 2007 ضمن معرض أقيم تحت عنوان “الصحراء”، سألته عن نصب سيف النصر في ساحة الاستعراض التي أقامها صدام حسين والذي صممه النحات العراقي خالد الرحال، فقال محمد غني حكمت: “طلب صدام حسين مني أن يتقاطع سيف القادسية كقوس يمر تحته المستعرضون وآلياتهم، جيش وسلاح يمر تحت سيفين متعانقين تحملهما قبضتان هما قبضتا صدام على الجهتين قبضة يداه تحولت إلى “موكيت”، وكان لا بد لقاعدتي هذين السيفين أن تكونا على جانبي الطريق العريض الذي يمتد لأكثر من عشرين متراً وأن يتعانق السيفان وسط الطريق تماماً”. وأضاف: “كان الأمر مستحيلاً”. لماذا؟ سألته. فقال: “إن سيف القادسية منحنٍ وبالتالي فإن التقاء سيفين منحنيين يشكل صعوبة بسبب بعد المسافة، لذا كان لا بد لي من استبدال “سيف القادسية” بالسيف العربي الذي يكون مستقيماً وطويلاً وهو بذلك يحقق غايته، فوافق صدام حسين بعد أن طرحت الأمر عليه وشرحت له استحالة أن أنفذ السيف الذي يريده وهو سيف القادسية”. تحدث هذا الرجل عن بيت العائلة المطل على نهر دجلة الذي كان يفيض في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي حين يتجمع الغرين “الطين الحري” على ضفافه وكان يجمعه ليضع التماثيل. يومها كان عمره 78 عاماً وهو يواصل نحت التماثيل من الحجر والمرمر والخشب ومن البرونز. الباحث عن الحرية قال عن نفسه “إنه ليس قديساً، بل هو باحث عن الحرية”. أخذت الأسطورة حيزاً كبيراً في أعماله ولم يكن عبثياً لأنه يحس بمسؤوليته التاريخية مرمزاً الأشياء وليس مسجلاً يومياً، قرأ التاريخ وكتب المجتمع وقال لي أيضاً حينما سألته على صفحات جريدة “الاتحاد”: “المتنبي كما صورته هو المتنبي وشهرزاد وشهريار هما كذلك، إلا قوس النصر إنه فكر مفتوح على موضوع غير محدد”. ماذا قصدت بهذه المنحوتة وكيف تفسرها؟ فأجابني: “أتعجب وأستغرب من هذا السؤال.. فأنا لست من عمل وصمم نصب قوس النصر، إنه الفنان المرحوم خالد الرحال، وهو من قام بعمل مصغر من الجبس الملون بطول حوالى 150 سم وارتفاع 50 سم وهو يمثل ذرعين “ذراعي صدام حسين” متقابلين، يشقان الأرض للأعلى، وكل منهما تحمل سيفاً عربياً ليكون قوساً “للنصر”. وأضاف: كان القرار أن ينفذ هذا المصغر “النموذج” إلى الحجم الكبير ليوضع في ساحة الاحتفالات في بغداد، وحدث أن مرض الفنان خالد الرحال وأدخل المستشفى ثم وافاه الأجل، فكلفني وزير الإسكان آنذاك بكتاب رسمي أن أقوم بتنفيذ قوس النصر بالحجم الكبير المطلوب، فاعتذرت كيف لي أن أنحت عملاً ليس لي علاقة به، ولكن، لا يمكنني الرفض، فاضطررت أن أباشر بتكبيره والإشراف على صبه بمادة البرونز في أحد مصاهر انجلترا ثم الإشراف على نصبه في موقعه المقرر في بغداد”. المتنبي وحكمت قال لي محمد غني حكمت: “دعاني طارق عزيز وزير الثقافة والإعلام السابق لتكليفي بعمل تمثال للمتنبي فاعتذرت، ولكنه أرسل لي الشاعر شفيق الكمالي وبإصرار ليقنعني، فاختفيت في مشغلي لفترة طويلة وأنا أدرس حياة المتنبي، وكانت أياماً وليالي عصيبة، كيف أنجز تمثالاً لعظيم مثل المتنبي؟! وبدأت أخطط على الورق شكله، حركاته، وجهه، ملابسه، وأعمل له تماثيل مصغرة من خيالي، فلم أقتنع وبقيت أحاول حتى جاءني شعره ليلهمني بموقف: أنا الذي نظر الأعمى.. فعملت تمثالاً صغيراً لا يزيد طوله عن 20 سم من الطين وهو واقف بشموخ وكبرياء كمن يصرخ: أنا.. أنا.. فتمت قناعتي وسألت من يزورني من يكون هذا الشاعر؟ فزادت قناعتي إذ لم يخطئ أحد بالجواب.. إنه المتنبي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©