ماذا أكتب هذا الأسبوع؟
هذا السؤال يقفز فجأة أمام كُتّاب الزوايا الأسبوعية، حين يقترب موعد تسليم المقال للصحيفة. وحين ينتصب هذا السؤال يدخل الكاتب في نفق القلق والحيرة والاضطراب، لا يطيق ما حوله، ويبحث عن الهدوء والخلوة والصمت. يقلب هذا الكتاب وذاك، يمر على السطور دون غاية ودون توقف ولا يقرؤها. يتصفح دفتر الملاحظات إذا كان من عادته أن يسجل ملاحظاته حول ما يقرأ وما يسمع وما يرى، إذ قد يجد في ملاحظاته بارقة موضوع وومضة فكرة. وبعد كل هذه المكابدة، قد يبرق الموضوع وتلتمع الفكرة وقد لا تلتمع، فيغلق الكاتبُ الكتاب والدفتر ويستسلم إلى نوع من السكينة. ثم ومن دون أن يعرف كيف، يقترب من الورق الذي استبدله بالشاشة ولوحة المفاتيح، ثم يبدأ الكاتب الرحلة الأسبوعية الصعبة، رحلة اللذة، والفرح، وفي لحظة الكتابة يسقط الكاتب في قلق ومكابدة لا تشبه مكابدة البحث عن الفكرة، إنها مكابدة الفكرة ذاتها، صيغتها، غوايتها، لغتها، أسلوبها، ثم معناها الواضح والخفي. يمر الكاتب بكل هذه المكابدات على الرغم من أنه كان يمر بها طوال الساعات أو الأيام التي تسبق موعد التسليم والشروع في الكتابة، ويظل مشغول الذهن بالكتابة، إنه يكتب عن كل شيء يدركه بعقله، ويستشعره بوجدانه، ويرقبه ببصيرته وبصره. إنه يكتب طوال أيامه وسنوات عمره. ولو أتيح لهذه الكتابة التي تتوالد في خفاء الذهن أن تدوّن في بياض الورق لكان لدى كل كاتب آلاف الكتب، وكان لدينا أجرأ الأفكار، وأجمل الإبداع وأغرب اجتراحات الخيال، لكنّ بين الكتابة الخفية والكتابة المعلنة، خضماً هائلاً من الرهبة والحذر.
لكن الكاتب يكتب في الباطن غير هذا المقبول والمألوف: الورقة إذ تسقط يائسة في اصفرارها. فنجان القهوة بلا قهوة. الزلازل تطوح عبثاً بنضارة الحياة. الموت يخترق الأجساد على غفلة. كل شيء عادي يصبح عند الكاتب فكرة ورمزاً وكتابة، لكن بين الكتابة (الباطن) والكتابة (الظاهر) تقف آلاف العوائق، وحين لحظة الكتابة، تكون كل الأفكار قد غابت وتبخرت، ولا يبقى سوى ما يبتكر الكاتب في تلك اللحظة الحرجة.
هل انتهت الكتابة ومعاناتها بانتهاء المقال؟
هذا ما لا يجوز اعتقاده، فالمعاناة بعد الكتابة أشد وطأة منها قبلها، ذلك أن الكاتب حين يقرأ ما كتب قد ينتابه قلق ينبثق من نظرة نقدية للذات، لأن ما كتبه ليس ما أراد أن يكتبه، ولأن الفكرة كانت أكثر إشراقاً من تجسّدها على الشاشة. لماذا؟ لأن كل كتابة ظاهرة هي ظل للكتابة الباطنة!