الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«بيل».. العبودية جرح نازف في ذاكرة التاريخ

«بيل».. العبودية جرح نازف في ذاكرة التاريخ
27 أكتوبر 2013 01:00
أحمد علي البحيري (أبوظبي) ـ فيلم “بيل”، للمخرجة البريطانية إلمدثر أشانتي والذي شاهدناه ثاني أيام المهرجان في صالة العرض الرئيسية بقصر الإمارات، ضمن مسابقة آفاق جديدة، بعد أن وصلنا للتّو من عروضه الناجحة في الدورة الأخيرة لمهرجان تورنتو السينمائي، ربما يكون واحداً من أهم وأجمل الأفلام، أكملت من خلاله السينما البريطانية حديثها عن قضية (العبودية) في إطار إنساني، لا يخلو من إسقاطات سياسية على ما خلّفته حقبة الاستعمار في التاريخ البريطاني من أهوال (تجارة الرقيق)، ومن تأثيرات سلبية ضخمة في حياة الفرد، بل ودخولها وتسللها إلى حياته الخاصة، بل تغيير مسيرتها كلّيا. الفيلم من بطولة النجمة السمراء، غوغيو ـ مباثا الخام بدور (دايدو إليزابيث)، توم ويليكسون (اللورد مانسفيلد)، كبير قضاة الجسم البريطاني، بينيلوب ويلتون (السيدة ماري موراي)، ماثيو غود (بدور السير جون ليندساي)، سارة غودون (بدور بيت)، توم فيلتون (بدور جيمس أشفورد)، إلى جانب الممثلة ميراندا ريتشاردسون، جيمس نورتون، ديفيد غانت (زوماني)، إليكيس جينينغر، بيتان جيمس (مابل)، الفريد ماثر (بدور السيدة أشفورد)، آلان ماكينا (هاري)، كريستوفر ميلتون (كاتب في قاعة وستمنستر)، جيمس نورت كوت (فوغان). سيناريو وحوار ميسان ساغي، وموسيقى راشيل بورتمان، وإنتاج داميان جونز، وتصميم الملابس التاريخية لمجموعة تينا جونز، وجرى تصوير مشاهد الفيلم في ستوديوهات إيفر هيث ـ باكنجهامشير، بإنجلترا. هذا ما جرى أحداث الفيلم، مستوحاة من قصة حقيقية بعنوان “دايدو إليزابيث الحسناء”، جرت في نهاية القرن الثامن عشر، لفتاة من أصول مختلطة (خلاسية)، تدعى دايدو، جاءت إلى الحياة من علاقة غير شرعية بين جون ليندساي، الأدميرال في البحرية الملكية البريطانية، وامرأة كاريبية من الرّقيق الأفريقي، لكنه يعترف بها ابنة له، وتتركز كل مشكلتها طوال أحداث الفيلم في محاولتها إيجاد مكان لائق لها على خارطة المجتمع المخملي الأرستقراطي اللندني، كما أنها تكشف من خلال علاقة حب متشابكة مع متدرب قانوني يدعى جون دافنيير (سام ريد)، الذي يكافح من أجل إحداث تغيير في هذه القضية الخطيرة، كما أنّه يفتح عينيها على أهوال العبودية، ولا سيما في حالة عام 1781، عندما ارتكبت جريمة فظيعة سميت بمجزرة زونغ، قام خلالها بحارة سفينة الرقيق المتجهة إلى جزر الهند الغربية، برمي جميع العبيد الذين على متنها في مياه البحر، وهم مقيّدو الأيدي وكأنهم شخص واحد، ومنذ ذلك تكتشف خلال سير الأحداث، الكثير من خفايا وملابسات هذا الطراز من المجتمعات، وما خلّفه الاستعمار من أفكار غريبة ما زالت ممتدة حول العلاقة مع الآخر، وبخاصة حينما تكون العلاقة ذات صلة بالحديث عن اللون والعرق والطبقة والجنس، وعلى ما يبدو فإن قصة كهذه، مثيرة للاهتمام بطبيعتها، وبخاصة أن تجارة الرقيق ما زالت حاضرة حتى وقتنا هذا بشكل أو بآخر، كونها جزءاً لا يتجزأ من تطور الرأسمالية في وقت مبكر، على أن مضمون الفيلم يحمل جرأته في مناقشة صورة معقدة من الفصل التاريخي بين السّود والبيض المجسد في الذاكرة على الدوام بموضوعة التمييز العنصري. أول لقطة في الفيلم، تحمل هذا العنوان الذي كتب بالخط العريض على الشاشة (بريطانيا إمبراطورية استعمارية، ومركز لتجارة الرقيق)، حيث نرى الطفلة “بيل” ووالدها جون ليندساي، يخبرها بأنه سينقلها إلى قصر عمها، اللورد مانسفيلد في هامبستد، ويطمئنها بأنها ستجد معاملة حسنة وسط عائلتها الكبيرة، فيما تنقلنا اللقطة الثانية، إلى قصر كينوود، حيث يطلب والدها من أخيه وعائلته الاعتناء بها، حتى عودته من الخدمة في البحرية الملكية البريطانية، فيما يبدو أن أقاربها والمحيطين بها، قد قبلوا أن تكون عضوا في الأسرة الأرستقراطية الكبيرة على مضض، حيث يعتبرونها ضمنا ابنة غير شرعية، تبدأ الطفلة دايدو حياتها الجديدة، مع ابنة عمها (بيت)، ثم تكبران معا، وما يلفت الانتباه في أجواء الفيلم، هو سلاسة مخرجته، ودخولها في صلب حياة دايدو، وسرد أدق التفاصيل في علاقتها مع أقاربها، سواء على مستوى الحوارات، والمشاعر الانسانية، وصدق التعبير والحبكات الجانبية، أو على مستوى التركيز على الصراعات النفسية لشخوص العمل، وهي تشكّل أزمة بطلة الفيلم الباحثة عن الذات والهوية، توازياً مع معادل موضوعي ينحصر في معالجة فكرة القمع النفسي والفكري، فهذا القصر اللندني الفاخر الممتلئ بالحفلات والمناسبات التي لا تخلو مشاهد متفاوتة فيها من الكثير من الحركة والديناميكية، والكثير من المتعة والصدمة والسهام اللفظية، والسخط والكثير من الشائعات والأحاديث المفرطة التي لا تخلو من حقد وغيرة وزيف واحتقار طبقي، تحكمه إجراءات شديدة صارمة تحت مظلة الأخلاق البرجوازية والمكانة الاجتماعية، أولها الانضباطية في تطبيق التسلسلات الهرمية الاجتماعية المعقّدة، وثانيها، أنه كان عليها قسراً أن تتكيف مع أجواء طبقة النبلاء البريطانيين، وما يكنّه لها أصحابها من حب مزيف، ودعم وشفقة وازدراء في ذات الوقت.. إنها تتساءل على الدّوام: كيف يمكنني أن أكون مرتفعة إلى مستوى عائلتي، والترتيب يفرض عليّ تناول الطعام مع الخدم، إنني ما زلت منخفضة جدا لتناول العشاء مع عائلتي؟ إنني دائمة الشعور بأنني أسيرة النّضوج والكرامة وضبط النفس. سيناريو محكم أول مقومات نجاح وتميّز “بيل”، هو هذا السيناريو المحكم البديع الذي صاغه ميسان ساغي بحوار سينمائي خلاّق، ولغة ومفردات منمّقة، يسوقها الكاتب في سردية سينمائية وقصّ فني بارع يركزّ في تركيبته على شخصية بطلة الفيلم، وعلاقتها الجديدة مع المحامي الشاب جون دافنيير، ثم ومعاناتها وصراعها النفسي، شخصية محاصرة متأزمة، تعيش عالمين متناقضين في وقت واحد، فآفاق الزواج من رجل أبيض تكاد تكون معدومة، متشككة على الدّوام في موقعها في قلب مجتمع منافق يقبلها ويرفضها، هي في نظرهم ليست أكثر من شيء ظاهري، غير مرغوب فيه، مثير للاشمئزاز، لكن السيناريو أيضا يبث فيها حماسة غير اعتيادية، فهو يصوّرها على درجة كبيرة من الحماسة والوعي والنّضوج، إنها ماضية في رحلة تثقيف نفسها، تعمل طوال الوقت على إقناع العدالة الممثلة في عمها اللورد مانسفيلد، بالتصويت لها ضد جريمة تجارة الرقيق، ولعل هذا ما يجعل للفيلم قيمته الإنسانية، وأيضا شموليته من حيث القضية التي يتناولها، وتأكيد حقيقة أن تاريخ الرّق متصل، وقدر لبريطانيا، كما كان لأميركا، وأن هذا هو تاريخ عالمي، وأن آثاره هي أبعد مما نعتقد. تنتصر دايدو في النهاية، وتكسب قضيتها التي رفعها دافنيير، في محكمة الاستئناف في دار العدل الملكية، ويعلن في قرار المحكمة أن قتل العبيد بهذه الطريقة الوحشية، لم يكن قانونياً، وغير إنساني، وأن حالة العبودية التي سادت في ذلك الوقت، هي موقف مخز، كما تنتصر لكرامتها وحبها، بعد أن تنتزع من عمها الموافقة على زواجها من المحامي النبيل دافنيير، ويسجل مشهد النهاية بينهما بتلك القبلة الطويلة التي احتلت المشهد كله، أجمل المشاهد، التي حازت على التصفيق الحار من الجمهور، فيما عادت الكتابة على الشاشة مرة ثانية، لنقرأ أن دايدو قد تزوجت من دافنيير ورزقا بولدين. ولعل ذلك يقودنا إلى الحديث عن الأداء الرفيع للممثلة مباثا الخام، في دور دايدو، بشخصيتها الجذابة وعينيها البراقتين، وطلّتها الأخاذة الودود في المشاهد الرومانسية، هذا الدور الصعب المركب المعقّد، حينما تجد نفسها في محطة مأساوية فريدة من نوعها، وعليها أن تجد لها موطئ قدم آمناً في المجتمع والحياة والحب، أداء وتجسيد استثنائيان من طراز خاص، ومعايشة لكل تفاصيل حياتها، دقّة ومهارة في أداء الصمت والإشارة والإيماءة والحركة، وخلق توازن جميل من خلال صدق الأداء الساحر الخلاّب، مع تنوع الحالات النفسية لها في أحداث الفيلم وما يحتويه من شخصيات مثيرة للاهتمام، وقد شكّلت أكثر من ثنائية رائعة مع الممثل توم ويليكسون، وأخرى مع سام ريد، وثالثة مع ساره غودون، ثنائيات سينمائية لم تخل من التناقض والرهافة، والصراع المبطن، ثنائيات أكدت من خلالها موهبة استثنائية في سرقة المشهد السينمائي بكامله من خلال كاريزما الأداء الاحترافي الذي يجمع بين القوة والضعف والثقة، كما كانت كلمات جميع أبطال الفيلم صافية، صادقة، معبّرة، ساهموا مع السيناريو الجميل، في تحقيق فيلم مهرجاني محكم، متماسك، صارم، جاد، بمواصفات موضوعه الإنساني الذي ينبذ كل القوانين التي تضطهد البشر، وهذا ما لخصه المحامي دافنيير، وهو يصارع قوانين بلده بقوله (القوانين التي تتيح لنا الانتقاص من قيمة أي أحد، ليست بقوانين). قدرات إخراجية المدثر أشانتي، صاحبة فيلم “وسيلة للحياة” الحائز على جائزة البافتا، قدمت لنا فيلما ملحميا فخما مصقولا بحرفية عالية، وصيغتها السينمائية ورؤيتها الجديدة لهذا الموضوع، تشيان بأنها لم ترد فقط إنجاز فيلم جيد، إنما أرادت تقديم فيلم عظيم، وكان لها ذلك، بعد أن التقطت أهم ما في تفاصيل قصة الفيلم، من أن هناك (قضية جنائية) ضد سفينة تجارة الرقيق، حيث انتهى الأمر بقرار يدين العبودية وأنها غير مشروعة في البلاد. وفي السياق، ربما تكون مشاهد المحاكمات، وعرض القضية، من أجمل المشاهد على مستوى تنوع الحوار المتدفق، المناقشة، التجسيد، لتحقيق القضية الأكبر للفيلم بالضغط لإنهاء أي شكل من أشكال العبودية، التي كانت شريان الحياة للاقتصاد البريطاني، وأشانتي أيضاً بارعة في إدارة جدلية فكرية ذات صلة بالمكان والحب والتنوير، في مواجهة عائلة ومجتمع أرستقراطي يحارب فتاة بسبب لون بشرتها، وأيضا بارعة في استثمار خيال مدير التصوير سميثارد ين، الذي قدّم لنا من خلال كاميراته الحساسة، كادرات من بيئات مختلفة وبخاصة في مواقع التصوير في جزيرة آيل أوف مان، وصورا تفصيلية مذهلة في الضوء السّاطع، حيث مشهدية بصرية تحتوي على جماليات خاصة، سواء في توضيح الحد الأقصى لبشرة الممثل وانفعالاته، أو باحتفاظ المنظر السينمائي بكميات هائلة من الضوء واللون. جمهور الفيلم.. كامل العدد تميز عرض فيلم “بيل” بحضور كثيف للجمهور، الذي احتل الـ 1200 مقعد، وهو كامل مقاعد صالة العرض، جمهور ذواق من جنسيات أفريقية، ومن دول أوروبية مختلفة، حضر لمشاهدة ما صنعه الأسلاف في هذه القضية الخطيرة، جمهور كسر القاعدة، وحقق للفيلم رواجا لم يتحقق لأي من عروض اليوم الثاني من المهرجان، بعد أن التقى مرتين ببطلي الفيلم غوغو مباثا، وسام ريد، قبل العرض وبعد نهايته، حيث جرى حوار متدفق، كشف عن جمال ورقة بطلة هذا العمل، وكم هي ودود بعينيها الدافئتين، سواء في طريقة إلقاء حواراتها في الفيلم أو في حياتها الطبيعية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©