الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الانتفاض على الهزيمة

الانتفاض على الهزيمة
18 أكتوبر 2012
حتى وقت قريب ظلت معرفة القارئ العربي بالأدب الياباني شبه غائبة بسبب ندرة الترجمات الناجمة عن صعوبة اللغة اليابانية ومحدودية الضالعين فيها من المترجمين العرب من جهة، ومن جهة أخرى بسبب ضعف التبادل الثقافي بين العرب واليابان على عكس الانتشار الواسع للتقنية اليابانية في العالم العربي. لكن السنوات الماضية شهدت انفتاحا ملحوظا على الأدب الياباني ظهر في الترجمات العديدة للأعمال الروائية اليابانية بصورة خاصة، وتعد مساهمة مشروع (كلمة) عبر إصداره لسلسة الروايات اليابانية المترجمة إضافة مهمة للتعرف إلى هذا الأدب بتجاربه وأجياله الروائية المختلفة، وإن كانت أغلب تلك الترجمات تتم من خلال لغة وسيطة وليس عن اللغة اليابانية مباشرة، كما هو الحال في أغلب الترجمات العربية التي صدرت لكثير من الأعمال الروائية اليابانية. البحث عن الحب رواية “غيوم تائهة” للروائية فوميكو هاياشي واحدة من تلك الترجمات التي تقدم صورة حزينة عن عالم يابان ما بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال مجموعة من الشخصيات العائدة من مناطق الاحتلال الياباني في دول جنوب شرقي آسيا، والباحثة عن الاستقرار وبدء حياة جديدة في عالم مهزوم وضائع، يختنق بأزماته الاقتصادية والروحية، التي تنعكس بصورة قاسية وحزينة على سلوك ومصائر تلك المجموعة من الشخصيات وحيواتها، بعد أن كانت قد التقت وعاشت تجارب حب وصداقة في بلاد غريبة أثناء الاحتلال الياباني لها، ثم راحت بعد عودتها تحاول استعادة تلك العلاقات التي انقطعت، لاسيما من قبل بطلة الرواية الشابة يوكيكو الباحثة عن الحب في عالم من الضياع والفوضى والتشرد. استقت هاياشي أحداث روايتها من خلال تجربتها التي عاشتها كمراسلة حربية في المناطق التي احتلها اليابانيون في سنغافورة والهند الصينية، ما يكشف عن حضور الجانب السيري في هذه الرواية التي تبدأ عتبتها السردية بوصف اللحظة التي وصلت بها مع مجموعة من النساء التي تم ترحيلها من مناطق الهند الصينية إلى اليابان بعد هزيمتها في الحرب، حيث يتولى السارد العليم الذي نجده حاضرا في كل مكان، والعارف ببواطن الشخصيات وهواجسها مهمة سرد أحداثها ووقائعها المختلفة. يهيمن السرد والوصف الدقيق للمكان والشخصيات والأحداث بصورة كبيرة على الجزء الأول من الرواية والذي تروي فيه الكاتبة تجربة بطلتها الوحيدة يوكيكو التي تعمل ضاربة آلة كاتبة في مكتب للزراعة بين مجموعة من الرجال في بلاد الهند الصينية ذات الطبيعة الخلابة: “بدأ هديل حمام الجبل يسمع في الغابات القريبة وتسللت أشعة الشمس الساطعة إلى الممر هنا وهناك من الفتحات الضيقة التي تخللت سقف الغابة. حرص توميوكا على مراقبة ما حوله بكثير من الحذر بسبب ما كلن يشعر به من إحراج لسيره مع امرأة يابانية فما زالت عادات اليابان وتقاليده تلقي بظلالها على تفكيره التقليدي بعد كل هذه المسافة”. عالم من الضياع بعد عودة يوكيكو من الهند الصينية تبدأ بالبحث عن صديقها توميوكا الذي عاشت معه علاقة حب كي تبدأ حياتها من جديد، لكنه يتهرب منها باحثا عن مستقبله الخاص من خلال عمل يحقق له المزيد من المال، في حين تبدو الشخصيات الأخرى في الرواية ضائعة ومعزولة، وكأن الدمار الذي أصاب البلاد امتد إلى دواخل الشخصيات فأعطب فيها مشاعر الحب والتضامن، وجعلها تبحث عن خلاصها الذاتي على المستوى الوجودي، الأمر الذي اضطر بطلة الرواية إلى ممارسة أعمال مختلفة من أجل تأمين حياتها، لكن شعورها باللاجدوى جعلها تستبسل في البحث عن توميوكا لكي يعينها على مواصلة حياتها والتعويض على شعورها بخواء الواقع عاطفيا بعد أن وجدت نفسها غريبة حتى في تلك الأماكن القديمة التي عاشت فيها حياتها السابقة. إن روح الهزيمة وخواء واقع ما بعد الحرب وأزمته الاقتصادية يدفع ببطلة الرواية وصديقها إلى محاولة الانتحار لوضع نهاية هادئة لحياتيهما المضطربة وشعورهما باللاجدوى، لكن افتقاد توميوكا ثقته بالنفس وتورطه في علاقة جنسية مع زوجة صاحب حانة يجعلهما يتراجعان عن هذا الخيار. وفي حين يواصل توميوكا عملية اختفائه وبحثه عن تحقيق فرص نجاح مادي في حياته، تواصل يوكيكو البحث عن استعادة تلك العلاقة القديمة معه رغم إدراكها لطبيعته المخاتلة وخسته على عكس زميله الآخر الذي أحبها بصدق لكنها لم تستطع أن تبادله نفس المشاعر، فكانت نهايته المأساوية مع المرض والفاقة تعبيرا عن هزيمة تلك الروح الوطنية المخلصة في واقع يتداعى وينهار. تقدم بطلة الرواية كأنثى خبرت الرجال في نلك المرحلة، وتعرفت إلى الكثير منهم أثناء عملها معهم رؤيتها إليهم بوصفه تتويجا لتلك الخبرة والمعرفة التي كونتها عنهم، حيث يتولى السارد العليم نقلها بالنيابة عنها: “اعتقدتْ أن الرجال يمتلكون موهبة بل غريزة في الغالب التهرب من ارتباطاتهم بالآخرين وأحست بكراهية تجاه طريقة طمعهم بالممتلكات المادية”. كذلك تكشف عن علاقة المرأة بالمكان وتأثير ذكرياتها العاطفية على تلك العلاقة إضافة إلى ارتباطها بالماضي ومحاولة وصل ما انقطع منه، ما يجعلها تطارد توميوكا إلى أن تنتهي حياتها معه في مكان ناء وبعيد على الرغم من توفر فرصة كبيرة لكسب المال والحياة الهانئة والمترفة مع صديقها الآخر الماكر والمخادع ايبا الذي يخترع مع شخص آخر ديانة الشروق العظيم. التعبير عن الأفكار يلعب الحوار الذي يدور بين شخصيات الرواية دورا مهما في التعبير عن أفكار تلك الشخصيات، وما تعكسه من ظلال قاتمة وشعور بالضياع والبؤس يجسد واقع الحال في بلاد تعيش تداعيات هزيمتها على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والروحية، وبدء وصول القوات الأميركية إلى اليابان، وانتشار الديانة المسيحية هناك. يدرك توميوكا طبيعة التغيير والتبدل الذي طرأ على الواقع الياباني فيحاول أن يتكيف مع الوضع الجديد، في حين أن يوكيكو تبقى مسكونة بالحنين إلى الماضي ولذلك يلعب الحوار الذي يدور بينهما عن مدى الاختلافات بين الشخصيتين على مستوى الحياة والرؤية إلى الواقع وفهمه وبالتالي إلى العلاقة فيما بينهما: “لا أكرهك أنا أحبك ولهذا أتحدث عن تغيير أساليب حياتنا. عليك أن تعودي إلى ايبا وأن تشغلي نفسك بعمل ما بواسطة هذا المال. لقد تغير العالم كثيرا يا سيدة يوكيكو. لقد اختفى حبنا الرومنسي مع نهاية الحرب، وسيكون من الجيد لو استطعت وأنت في مثل هذا السن التخفي عما يراودك من أحلام الفتيات”. كذلك يكشف الحوار الذي يدور بين إيبا ويوكيكو عن مدى الاختلاف بين الشخصيتين ومدى قدرة إيبا على استغلال هذا التبدل الذي طرأ على الواقع الياباني لكسب المال الوفير من خلال الدعوة لديانة وهمية يقبل عليها الكثير من الناس في محاولة للتعويض عن حالة الخواء الروحي في مجتمع ما بعد الهزيمة لاسيما من قبل الشخصيات الثرية التي تقدم الهبات المادية السخية لهم. الرواية من ترجمة هالة درة ومن منشورات مشروع كلمة التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والسياحة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©