الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«مَس» خلف الكلمة

«مَس» خلف الكلمة
18 أكتوبر 2012
لم تعد قصيدة النثر بحاجة لمن يدافع عنها ويوضح محاسنها وايجابياتها، فبعد صمودها منذ انطلاقتها في العالم العربي قبل عقود باتت اليوم أكثر قوة وأكثر حضورا. لطالما أخذ على معارضيها أنها من دون وزن أو قافية، ولا يوجد فيها أي توظيف للمحسنات البديعية، وهي تأتي في تراكيب لغوية عفوية يوظفها مؤلفها كيفما يريد من دون هالة أو شكل محدد. وهذه الملاحظات التي عدت عيوبا هي في الحقيقة سر تفوق قصيدة النثر وتميزها، حيث يرى كثير من النقاد والدارسين أن ما يعرف بشعر النثر، أكثر إبداعا وتحليقا من الشعر الخليلي، وهم يدللون على وجهة نظرهم بأن الشعر العربي العمودي ـ الكلاسيكي ـ يرهق الشاعر ويشتت ذهنه في محاولة المحافظة على سلامة الإعراب والوزن، وهذه جميعها معطيات تكون على حساب روح القصيدة وعفويتها وأيضا على حساب الأفكار فيها. ويضيف المنتقدون إنه بسبب خاصية الشعر العربي الكلاسيكي فقد فرصة الانتشار في العالم، خصوصا وإن عملية الترجمة تفقد الشعر العربي بريقه، فتنقل منه الأفكار الشحيحة فقط وتعصى الموسيقى والأوزان والبلاغة عن النقل. هذا الجانب هو الذي جعل الدكتور علي الوردي يضع آراء صاخبة تتعلق بالشعر المقفى الموزون، في كتابه القيم الذي حمل عنوان “أسطورة الأدب الرفيع” حيث قال: “إن الشعر العربي القديم جميل في موسيقاه اللفظية، ولكنه في معانية ضحل نسبيا، ولو ترجمنا بعض تراثنا الشعري إلى لغة حديثة لما حصلنا منه إلا على سواد الوجه!. إنه يفقد بالترجمة موسيقاه، ولا يبقى منه سوى قليل من المعاني العجفاء. ومثل هذا يمكن أن نقول عن كثير من تراثنا الثقافي. فنحن قوم اشتهرنا منذ القديم الزمان بحسن البيان!.”. لو طبقنا رأي الوردي في إطار الشعر الحر، فسنجد إن قصيدة النثر تستمد قوتها وانتشارها من جملة خصائص، لكن شعر النثر بإلغائه لقيم واشتراطات الشعر الكلاسيكي لا يعني انه بات مرتعا لكل من أراد أن يكتب ويؤلف قصيدة، ولا يعني أنه فن بات في متناول الجميع، حتى وإن ظهر لنا مئات ممن يصنف نفسه شاعرا بل وأصدر دواوين شعرية... تجد هذه الأفكار معناها عند قراءة ديوان “مَس” للشاعر ابراهيم الهاشمي، والذي صدر عام 2010 وضم بين دفتيه أحد عشر نصا شعريا، وجاء في 53 صفحة من القطع الصغير. منذ اللحظة الأولى تمثل عناوين القصائد في خلال الفهرس،تحفيزا مضاعفا للقراءة: امرأتي، تطهر، اشفع بي، أنت، أسمك، سلام عليك، اطمئنان، عطر، مس، انتشاء، ناصية الهوى. وكتبت هذه النصوص خلال الفترة بين عامي 2005 و2009. والحالة العامة لجميع هذه النصوص كانت البوح والتعبير الوجداني المحمل بالاشتياق والحنين، نصوص غلب عليها الخيال العاطفي، والجميل أن الشاعر تمكن من إعطاء كثير من النصوص فرصة الحركة واتساع الغاية، بمعنى أن النص لو قرأ من محب وعاشق لكانت كلماته متساقطة عليه كالمطر، ولو قام قارئ آخر بالغوص في نفس النص وهو بعيد عن أجواء الحب والغرام، لتأثر أيضا، لأن الجوانب الإنسانية الدافئة بالغة الوضوح ومنتشرة في هذا الديوان. خير مثال في هذا السياق، النص الشعري الذي بعنوان “اطمئنان” وفيه يقول الشاعر: أي دبيب هذا الذي يلح محفوفاً بوشوشات الوسن وأوتار الليل الجذلى بعطر الأحبة.. يتدلى حتى ألمسه وأتدثر به.. وأضيء بكل وفا .. وأطمئن أن المحبة باقية الجانب الإنساني والبوح العفوي، حقيقة واضحة يسوقها الشاعر، من خلال هذا النص، فهل يا ترى الشكوى والحديث للحبيبة؟ أم هي لصديق عابر؟ لكنه لا يتوقف عن إصابتنا بالحيرة فهو يواصل، حيث يقول في نص آخر بمفعم بالإنسانية “عطر”: هذا القلب ميناء لأحزان الأحبة فأرتدي تعبي وكل الشوق لأسبق خطوتي زمناً أحَنِّي بكفيك أعيادي مواويلي.. وأنهض من سبات الآه أضبط غمامات المواويل أفراحاً لأوردتي.. وهذه الجزئية واضحة في مختلف زوايا وأركان الديوان وبين نصوصها وكلماته، يحاول الشاعر منح مساحة فكرية واسعة للقراء، فهو لا يقود الذهنية أو يحاول أن يوجهها، لذا هو غير مبال بالنتيجة التي يخرج بها متذوق كلماته، إنه يقدم النص ثم يمضي دون وصاية أو مراقبة للكيفية أو الحالة أو النتيجة التي سيخرج بها كل من يقرأ كلماته. يخيل إليّ أن الشاعر قد سمع عدة آراء مختلفة عن نص واحد، فيضحك ويتمتم لنفسه لقد قصدت أمراً آخر، لكنه يسعد أن وجدت كلماته كل هذا التنوع والقراءات المختلفة. حتى إذا تناول العشق والهيام، فهو يطرقه من جانب آخر ومن ضفة أخرى تختلف كليا عن جميع الجوانب التي طرقها كثير من الشعراء، فهو لم يصف جمالها، أو يمتدح عينيها أو وجنتي وثغر تلك الحبيبة، لقد ذهب بعيد وإلى جهة أخرى مختلفة في التعبير عن عشقه والتياعه، ففي نصه الذي حمل عنوان “أشفع بي” يقول: خرجت خرجت الآن وتستعيدين يدّي عابقة بالمودة والزعفران تمهلي.. تمهلي لأني أذوب في الهمس في لهفة القدمين إليّ خرجت لأننا رقصنا على ظلنا والفراغ توشح أحلامنا هل هناك من يتذكر ويذكر شذرات الحروف أول الهمس والشاعر، رغم الإفصاح عن حالة الحب، وتعبيره عن حاجته للحبيبة من خلال كلمات دافئة وراقية، إلا أنه من الغرابة أن هذه الحاجة مختلفة عن جميع ما قد يتبادر للذهن، لعل الإشارة إلى المقطع التالي من نفس القصيدة توضح ما أرمي له فهو يقول: فتحت صناديق روحي ليس إلا لينضج حبي وأتعلم منك الضحك وأغرق في ما مضى على دفعات التهور إذن عندما قرر أن يفتح روحه ويستقبل هذا الحب، هو فقط يهدف أن ينضج حبه وينمو أكبر، ولكن أيضا ليتعلم الضحك وغرق فيما مضى من الحب... الديوان وإن كان ديوان عشق وحب، فهو أيضا محمل بأفكار فلسفية، تحاول أن تحلق بهذا القيمة الإنسانية إلى مصاف ودرجات قلة من أهتم بصعودها، لعل في النص الشعري الذي حمل عنوان: أسمك، إشارة لهذا المعنى، خاصة عندما يقول: توسدت حرفي حتى استقام ولاح اسمكِ شاهقاً في الضلوع فرحتُ.. توكأت أول حرفٍ ورُحتُ أداعبهُ.. نعم أول حرف فقط من اسم الحبيبة، توكأ به وراح يداعبه، ونحن نعلم ما تحمله هذه المفردة ـ المداعبة ـ من معنى عميق حيث المزاح الرقيق المحمل بالدفء والرقة، حيث، تمتزج الكلمات بدل الحبيبة... ولقد أحسن الشاعر في اختيار المفردة لأنها أعطت الصورة التي يريدها بأقل المفردات والجمل، والغريب أن بلاغة الشاعر وتمكنه اللغوي أسعفته تماما عندما أعطى صورة بلاغية جميلة لهذه الحالة، والتي عاشها فقط بسبب حرف واحد من حروف الحبيبة.. إنها صورة تستحق إعادة النظر مرارا وتكرارا... الشاعر الهاشمي، لم يعط هذه الإشارة البلاغية في نص يتيم، بل كانت حالة عامة في معظم نصوصه، فهو قد اشتغل من دون كلل على التفاصيل، ومن التفاصيل، كانت الصور البديعة تتقافز أمام مخيلة المتلقي، مرة أخرى يدهشنا بهذه الحرفية والتمكن اللغوي وهو يسرد في قصيدته التي حملت عنوان “سلام عليك” هذه الجوانب الإنسانية الدقيقة، يقول: أنا هاهنا في التفاصيل في أول تقاسيم هذا الوله.. في التعب المستريح في شبر من الماء أغرق فيك في أشيائك الساحرة في الصدى.. في الحضور المجلجل في انفلات التعابير.. في هدوء التململ.. في الابتسامة الشاردة يستوقفني عبق الياسمين بين يديك وصاعقة البوح.. والتلذذ بالنظرات لا يمكن أن توصف هذه الكلمات بأنها مترادفات لغوية، كما لا يمكن أن توصف بأنها جمل مترادفة، والسبب بسيط فقد كانت بعيدة عن الترادف اللغوي السطحي، ذلك أن الشاعر يتحدث عن التفاصيل ولكنها تلك التي تحمل تقاسيم الوله، ثم يأخذك للتعب لكنه لذيذ عند وصفه بالراحة.. وهل هناك من يغرق في شبر من الماء، ولكنه يؤكد أنه غرق.. وأليس الصدى مفردة يفهم منها البعد المكاني لكنه وظفها هنا للحضور الصاخب. أما في النص الذي حمل عنوان المجموعة “مس” فقد أعطى صورة جديدة، أكثر جرأة، وأكثر قربا من الحب والحبيبة... لكنه حافظ على فلسفة رفيعة عند التعبير عن هذه الحالة، يقول: تجاسر رافعاً في صحوه نغمي دافقاًً يكتب قبل هطول النعاس يغرس في الظلمةِ بيرق العاطفة حتى يرى.. ويواصل السرد الشعري إذا صح التعبير، وبنفس الهوية التي اختارها الشاعر، لقصائده، عشق ولكن بتعال وكبرياء.. أو على الأقل هذا ما أوحت لنا به اللغة والمفردات التي عبر بها عن شجونه وآماله وخيباته، يقول مواصلاً: يعبر الأسماء حتى يصلني يقلع الأبواب يظللني قلبهُ والشجن فأستبيح النجوم على خده ونمضي.. ليورق فينا الهوى والندى مسني.. إذا لن نقترق والشاعر يشير هنا، إلى قول الحلاج (إذا مسك شيء مسني فإذا أنت أنا لا نفترق)، وهو أشار لهذا في ديوانه، وهو الذي يؤكد رؤية فلسفية ونظرة عميقة للمشاعر كالحب والصداقة والوفاء، ونحوها يفلسفها الهاشمي وفق رؤية الحكيم والفيلسوف، وينقلها لنا بلغة شعرية، يحاول التحديث والتطوير فيها... تساعده غزارة لغوية وتمكن بياني واضح، وحصيلة من التجارب والقراءات ماثلة في نصوصها المختلفة سواء في هذا الديوان أو في دواوين أخرى صدرت له، مثل: “مناخات أولى”، صدر عام 1996، وديوان “قلق”، وديوان “تفاصيل” وصدرا عام 2000. الشاعر ابراهيم الهاشمي، يجدف في كتابته الشعرية باجتهاد ضد الأشكال السائدة حتى في كتابة القصيدة النثرية، وهو ينوع ويحدث من دون هوادة أو تردد.. وهذه الممارسة التي يقوم بها الهاشمي، هي طبيعة قصيدة النثر، وعنها تقول سوزان برنار في كتابها “قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا”: “من المؤكد أن قصيدة النثر تحتوي مبدأ فوضوي وهدام لأنها ولدت من تمرد على قوانين علم العروض”.. وهو ما يفعله الهاشمي بلا تردد.. وعندما تقول برنار: “تريد قصيدة النثر الذهاب إلى ما وراء اللغة وهي تستخدم اللغة، وتريد أن تحطم الأشكال وهي تخلق أشكالا، وتريد أن تهرب من الأدب وها هي ذي تصبح نوعا أدبيا مصنفا”، فهو ما نتلمسه في قصائد الهاشمي الذي حاول دون جلل أو خوف الذهاب إلى أبعد من الكلمة وإلى ما وراء الجملة.. لقد وظف شعر النثر لفلسفة شخصية ونظرة حياتية ذاتية، نظرة يمكن إسقاطها على الحبيبة أو على أي مشاعر إنسانية أخرى...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©