د. شفيق ناظم الغبرا
كاتب كويتي
ستواجه إسرائيل كل دولة في المنطقة تسعى لتحقيق توازن استراتيجي مع ذاتها ومع العالم المحيط، وهي في الجوهر ضد الحراك العربي الراهن وتخشى منه، ويرعبها تحقيق العرب أي توازن وتقدم استراتيجي يشمل التكنولوجيا والعلم والإمكانات، ويشمل فوق كل شيء الحريات والحقوق التي تؤسس لأمم ناهضة ومستقلة.
وليس سراً أن إسرائيل ضربت مصر الناصرية عدة مرات عندما سعت مصر لبناء دولة مكتملة البنيان، ولكنها سعدت كثيراً بمصر مبارك التي هدمت مكونات الدولة المصرية الحديثة.
وهذا الصراع يتجاوز فلسطين، وهو في مضمونه أكبر من أن يوقفه ويتحكم فيه الفلسطينيون وحدهم.
إن دور الفلسطينيين في هذا الصراع هو في الحد من تحقيق أهداف إسرائيل في الأرض العربية والفلسطينية والوقوف على الأرض دفاعاً عن حقوق تاريخية وأرض مستهدَفة.
إن الأهداف الإسرائيلية تتلخص في إحكام السيطرة على الأرض وتهميش السكان العرب وطردهم من أراضيهم والاستيطان والقدس، في ظل البحث عن حروب في الإقليم تؤدي إلى مزيد من الإخلال بالعدالة والاستنزاف العربي والفقر واللاجئين، مما يفجر الشرق الأوسط ويصنع الحروب ويدمر أسس التنمية والبناء العربية.
والتناقض لا يزال قائماً وكأننا ما زلنا في عام 1948، إذ تفصلنا عن ذلك العام سلسلة لم تتوقف من الحروب واتفاقات الهدنة التي لم تنجح في تغيير طبيعة الصراع والمعادلات التي يتحكم فيها.
فاستمرار دولة يهودية وفق المواصفات الصهيونية القاضية بتجميع كل من تستطيع من يهود العالم، يتطلب سيطرة الغرب على الشرق الأوسط، ويتطلب تقسيم المنطقة العربية إلى أجزاء أصغر من التي نجدها الآن، ويتطلب طرد مزيد من العرب وأخذ مزيد من الأراضي وبناء مزيد من المستوطنات.
ونجاح المشروع الإسرائيلي بشكله العنصري والاستيطاني يتطلب إخضاع العرب وجر السياسة الأميركية لصالح السياسة الإسرائيلية عند كل منعطف.
إن المشكلة الجوهرية مع إسرائيل كانت ولا تزال في سعي الصهاينة لاحتكار أرض الديانات السماوية الثلاث وتحويلها إلى أرض يهودية، بينما الأرض في جوهرها هي ملك لسكانها وأهلها، من مسيحيين ومسلمين ويهود.
والاستيطان الإسرائيلي الذي يمتد فوق الأراضي المحتلة في الضفة الغربية يؤكد أن إسرائيل تحضر لصراع طويل مع العرب هدفه إحكام السيطرة على الأرض والاقتصاد والمحيط.
والواضح في الوقت عينه أن إسرائيل دمرت آفاق حل متفق عليه حول القدس وحول الدولة الفلسطينية، فسياسة الضم والتهجير والسيطرة لم تتوقف ليوم واحد.
لقد حسمت إسرائيل موقفها بخصوص الصراع مع العرب، وهي تستوطن الأرض وتتمدد لأنها ترى حروباً قادمة ودفاعات ضرورية في هذه الحروب تجاه الأردن وتجاه سوريا وتجاه مصر ولبنان وتجاه العمق العربي والإسلامي الأوسع.
إن مقدرة إسرائيل على الاحتفاظ بالأرض التي احتلتها وصادرتها عام 1948 تطلبت طرد سكان فلسطين الأصليين وسرقة أراضيهم ومصادرتها كما تطلبت عام 1956 توجيه ضربة لمصر.
وفي عام 1967 تطلب الأمر قيام إسرائيل باحتلال الضفة الغربية والقدس والجولان وسيناء، وتطلب بعد 1967 استيطان الضفة الغربية والقدس بجنون، وتطلب مزيداً من الحروب مع المحيط العربي.
كما تطلب حصار غزة واضطهاد فلسطينيي 48 الذين بقوا على الأرض في المدن التي احتلتها إسرائيل عام 1948.
وباختصار، لم ينجُ أحد من اضطهاد الصهيونية.
لقد أدى كل توسع إسرائيلي إلى توسع أكبر، وكل حرب إلى حرب أكثر تدميراً، وكل استيطان فتح الباب للمزيد، وكل مسمار يدق في القدس سيمهد لصراعات الغد.
ولا يزال الصراع في جوهره مستمراً طالما لم ينجح العرب في استعادة الوجه الحضاري والتاريخي والإنساني لفلسطين بصفتها أرض الديانات وينبوع التنوع.
ولم يعد حل قضية فلسطين ممكناً دون تحرير الإنسان العربي واليهودي من قيود الحركة الصهيونية وعنصريتها وشموليتها لصالح نظام سياسي يؤمن بالحقوق لكل الناس بغض النظر عن ديانتهم.
وهذا بدوره سيجعل الاعتراف للفلسطينيين بحق العودة وبحق الحياة وبحق البناء وبحق التنقل والمساواة والعدالة حقاً أصيلاً لهم.
وستبقى قضية العودة قضية كبيرة في الواقع العربي والفلسطيني. فنصف سكان الضفة من اللاجئين من أراضي 1948، ونصف سكان غزة من اللاجئين، وهناك أسر مكونة من إخوة وأخوات أصبح كل منهم، بفضل سياسة التهجير، يعيش في جميع البلدان المحيطة بإسرائيل وفي العالم كله. ضحايا الصهيونية كثر.
وقد يفهم كل منهم حق العودة بصورة مختلفة، بل قد يفهم بعضهم حق العودة بصفتها عودة إلى مكان في القرية والمدينة الأصل تجتمع حوله كل العائلة لفترات محددة.
لقد باغتت الثورات العربية أنظمتها، ولكنها أيضاً فاجأت إسرائيل وجعلتها تتعامل مع قلق جديد لم يكن ضمن حساباتها. وعندما يكتسب العرب القدرة على ممارسة الحرية ويحققون كرامة وعدالة وحقوقاً، سيبتعدون عن تلك الحالة التي سادت الزمن العربي الرديء. وفي ظل الربيع العربي وبعده، سيعود الصراع العربي الإسرائيلي، بصفته التعبيرَ الأنقى عن العلاقة المختلة بين مجتمعات شرقية تعيش حالة تحرر وبحث عن الذات، وبين نظام استيطاني كئيب لا يزال يحلم بإدامة الاستعمار والقدرة على الإملاء والإخضاع والاحتكار.
ينشر بترتيب
مع مشروع «منبر الحرية»
عدد اليوم
