الحبُّ لا يُعرِّي.. والنُّور لا يُعار

لو سألتموني أن أحدِّد لكم بكلمة واحدة غاية الإنسان من حياته لقلت: المعرفة. ولو سألتموني ما الذي أعنيه بالمعرفة لأجبتكم: معرفة الإنسان لنفسه. *** فما دامت غايتك من مذهبك الوصول إلى الله وغايتي من مذهبي الوصول إلى الله، فما شأنك معي أيّ طريق أسلك إلى الهدف؟. *** كسرت قلمي مرتين: مرة عندما حاولت أن أحلل إيماني بالله، وأخرى يوم حاولت أن أحلل إيماني بنفسي. أما اليوم، فقد جمعت كسر قلمي وجبرتها، فعاد قلمي أقوى مما كان، وهو في شغل عن التحليل بالتسجيل. *** كثرة الكلام ملهاة للفكر. والبشر يهربون من السكوت والتأمل. فأنّى لهم أن يدركوا الله؟ *** الإنسان أكبر من أن يُحّد، وطبيعته أوسع من أن يحصرها وزن، ومواهبه أكثر من أن تحصى، وقواه أغزر من أن تنضب. فاحذروا الذين يحاولون أن يقيموا له تخوماً. *** إن لم تجدوا السبيل إلى قلوب الناس، تعذر عليكم الوصول إلى قلب الله. وأنتم ما لم تبلغوا قلب الله فأي جدوى لكم من حياتكم؟ إنها خسارة. *** لن تكتشفوا أوَّل الطريق إلى المعرفة ما لم تدركوا أمرين: أوَّلهما أن الحياة شركة شاملة، وثانيهما أن الحياة دوائر محكمة. فلا بدَّ لكلِّ ما يخرج من مصدر أن يعود إليه. *** ليضيء كلّ واحد منكم منارته صافية عالية من غير أن يدعو الناس إلى الاستنارة بها. فالذين يفتشون عن النور ليسوا في حاجة إلى منادٍ يدعوهم إلى النور. أولئك سيأتونكم من تلقاء أنفسهم. *** يا ابن آدم! تاريخك لم يُكتَب بعد. وهو لن يُكتَب حتى تكون لك المعرفةُ الكاملة. والمعرفة الكاملة هي معرفة ما كان، وما هو كائن، وما سيكون من أمرك مع الحياة، ومع نفسك، ومع كلِّ منظور وغير منظور في الفضاء. فكلُّ ما كان يرتبط أوثق الارتباط بكلِّ ما هو كائن، وكلُّ ما هو كائن لا ينفصل أبدًا عن كلِّ ما سيكون. فلا أزلٌ من دون أبد، ولا أبدٌ من دون أزل. على ذاتها تدور قافلةُ الزمان، وأوَّلُها مقطورٌ أبدًا بآخِرها. *** أيُّها الإنسان بأمسِ رأيتك تُحصي أرباحك، وترتِّب نفسك معجباً بدهائك وما سمعْتُك تقول: «هذا ما أكسبني الناس». واليوم رأيتك تحسب خسارتك، لاعناً دهاء غيرك، وسمعتك تقول: «هذا ما سلبني إياه الناس»، أفلا تخجل من أن تكون في الحياة شريكاً ومُضارباً معاً؟ أنت الإنسانية بكاملها، عرفت ذلك أم جهلته، وأنا صورتُك ومثالُك. *** عجبت لمن يغسل وجهه عدة مرات في النهار، ولا يغسل قلبه مرة واحدة في السنة. *** مَن احتقر إنسانًا احتقر نفسه. ومن أبغض إنسانًا أبغض نفسه. ومَن حاول أن يهضم حقَّ إنسان لا يهضم إلا حقَّ نفسه. مادام في الناس جاهلٌ فالإنسانية بأسرها جاهلة، ومادام على الأرض شقيٌّ فالناس كلُّهم أشقياء. إنَّ مَن أدرك ذلك أمِنَ شرَّ الناس واهتدى إلى الخير في قلوبهم. *** المعسكر الوحيد الذي أنتمي إليه هو معسكر الإنسان التوّاق إلى فهم النظام السرمدي لينعتق به من ربقة الجهل وكلّ ما يولّده الجهل من قلق وخوف وبغض وتنافر بين الناس. وهذا المعسكر لا يرغي، ولا يزبد، ولا يقرع الطبول. لأنه يؤمن أعمق الإيمان بأن الإنسان أخ للإنسان أينما كان، ومن أيما لون أو عقيدة أو لسان كان، وبأن الأخوة تقضي بالتعاون لا بالتنابذ، وبالتشاور لا بالتناحر، وبالتّصافي لا بالتجافي. فمن أنصف أخاه أنصف نفسه. ومن ظلم أخاه ما ظلم غير نفسه. ومن استباح دم أخيه أباح دمه لإبليس. و«من حفر حفرة لأخيه وقع فيها». *** الحبُّ لا يُعرِّي و النُّور لا يُعار أحبِبْ تر ما لا يُرى أنِر وسِرْ أنَّى تشاء. *** المحبّة ناموس الله. فأنتم ما حييتم إلا لتعرفوا المحبّة. وأنتم ما أحببتم إلا لتعرفوا الحياة. تلك هي الأمثولة التي عليكم أن تحفظوها، والتي إذا ما حفظتموها كنتم في غنى عن كل أمثولة سواها. *** ليست المحبّة بفضيلة. إنّها لضرورة أشدّ من ضرورة الخبز والماء والنور والهواء. فحذار أن يفخر أحد بمحبّته. بل عليكم أن تتنفّسوا المحبّة غير مفكّرين بها وبمثل السهولة التي تتنفسون بها الهواء. إذ ليست المحبة في حاجة إلى من يشيد بها ويرفعها. فهي ترفع القلب الذي تجده أهلا لها. لا تطلبوا ثوابا للمحبّة. ففي المحبّة ثواب المحبّة. مثلما في البغض عقاب للبغض. *** ما هو المال؟ إنّما المال عرق النّاس ودماؤهم يسكّها الدهاة دراهم ودنانير ليكبِّلوا بها الناس. وماهو الغنى؟ إنّما الغنى عرق الناس ودماؤهم يختزنها أقلّ الناس عرقا ونزيف دمٍ ليرهقوا بها ظهور من كانوا أكثر الناس عرقًا ونزيف دم. *** عندما تصبح المكتبة ضرورة كالطاولة والسرير والكرسي والمطبخ، عندئذ يمكن القول بأننا أصبحنا قومًا متحضرين. *** ما عرفتُ كالصابونةِ، نكراناً للذات، فهي تذيب نفسها لتذيب أوساخ الآخرين. *** سمعتُ مرةً الحوار الآتي ما بين زنجيّ صغير وأمه: الصغير: لماذا نحن سود يا أمي؟ الأم: لأننا في حداد يا بنيّ. الصغير: وعلى من نحن في حداد يا أماه؟ الأم: على إخوانك البيض يا بنيّ. الصغير: ومتى ننزع الحداد يا أماه؟ الأم: يوم تسود وجوههم خجلاً منا وتبيض وجوهنا عطفاً عليهم. *** لكل كلمة أذن ولعل أذنك ليست لكلماتي فلا تتهمني بالغموض. *** إنما تنال الحرية الحقّة في القلب وتُفقد فيه. أتريد الحرب؟ اشهرها إذن في قلبك على قلبك وامض فيها بغير هوادة على كل أملٍ ورغبة وخوف من شأنها أن تجعل من عالمك زريبة فسد هواها وضاق مداها. *** أما سمعت بالذي طبخ القاموس وأكله ليصبح كاتبا؟ لقد مات المسكين بعسر الهضم، وما استطاع أن يكتب حتى وصيته! *** إذا رأيتم عرشًا مذهَّبًا يلتفت بازدراء إلى ما حواليه من الرياش، ذكِّروه بالمكنسة وبالخرقة والصابونة. فلولاها لما كان هو.