الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رثاء الفلسفة.. هيدغر والمتنبي

رثاء الفلسفة.. هيدغر والمتنبي
12 نوفمبر 2014 21:45
«رثاء الفلسفة» غرضٌ لا أعلم أني قد سُبقتُ إليه. بل كنت من قبلُ نقلت إلى العربية نصّا في غرض التّقريظ. لذلك ليس أوكد عليّ من المسارعة إلى طرح الأسئلة عمّا يمكن أن يكون رثاءٌ للفلسفة، أو عمّا يجب أن يكون. وأي النّماذج لرثائها نتّخذ؟ وأيّ المواقيت لنعيها نعتمد؟ وأنّى لي برثاءٍ ولم أك شاعرا، وأنّى لي برثاءٍ والرثاءُ إنما يكون لنَدْبِ الشّيء عند الرَّزْءِ بفقده: فهل فقدنا الفلسفة حتى صار لنا بفقدها رَزيّة نندُبها ونتفجّع عليها؟ ومع ذلك فقد نبّه ابن رشيق القيرواني على أنه «ليس بين الرثاء والمدح فرق، إلا أنه يُخلط بالرّثاء شيء يدلّ على أنّ المقصود به ميّت مثل «كان» أو «عدمنا به كيت وكيت»، وما يشاكل هذا ليُعلم أنه ميِّتٌ». فيبدو الأمر في الرّثاء مجرّد قلب وتزمين للتقريظ، يأخذه فينسبه إلى الماضي. لو كان الأمر على هذا القدر من البساطة، لما تطلّب منّا أكثر من أن نقلب، ببضعة مسوّغات أسلوبية، تقريظ الحكمة رثاء لها. ولكن هيهات. كيف يمكننا أن نقلب ما في «التّقريظ» من الحجاج مثلا؟ كيف يمكننا أن نقلب إلى الرّثاء تخوّفات النّهاية؟ كيف يمكنُنا أن نقلب إلى الرّثاء رثاءً يقوم في قلب التّقريظ: يكاد لا يخلو اليوم حديث عن الفلسفة من قول في موتها ونهايتها، أو في ضرورة تجاوزها، أو في الانعراج عنها، أو في سرد تاريخيتها كإفضاء إلى نفيها. فيبدو تاريخ الفلسفة ركب موتها، وعمل التّذكر الضّروري للحداد عليها، وكفى. على هذا النّحو تجري الأمور في الفلسفة: أنها ليست في كلّ مرة إلا إعلان موت، يتفاوت بحسب ما يكون الحداد عليه باتا ونهائيا، أو حاملا لأثر من الفائت، عالق بالذّاكرة كالعرض. ذلك أن رثاء الفلسفة إما أن يكون رثاء جذريا، أو أن يكون تعديدا لمناقب لا نستطيع مغادرتها، ولا السّلوة عنها، كما قال الكندي. ولعل هذا الفرق الذي لمسنا الآن هو الذي يفصل بين التّقريظ والرّثاء. إنّ تقريظ الفلسفة موقف لا يريد مغادرتها، ولا يريد الحداد عليها، ولذلك فهو مجرّد تعديد لمناقبها، ولا حاجة في التقريظ إلى أن يكون مرحا، وكم من تقريظ ركب إيقاع النوى. ولذلك فإذا ما تحدّثنا اليوم عن رثاء الفلسفة لزمتنا المغادرة، لا على جهة الخلط بما قد يوحي أنها كانت، أو أننا عدمناها، فليست تلك إلا من صنوف الحنين التي تذكي جذوتها، وتوقد من جديد شعلتها، وإنما على جهة التّرك. هل نقبل أن نترك الفلسفة؟ رثاء الفلسفة مغادرة لها إذن. ولكن إلى أين سنغادر إذا ما نحن تركنا الفلسفة؟ سأشير ها هنا إلى تمشيين اثنين في المغادرة والتّرك، أصف أحدهما وصفا، وأجرّب الثاني تجريبا: فأمّا التّمشي الأوّل فسأسمّيه أسلوب المغادرة إلى الابتداء الآخر، وأنموذجه هيدغر عن نهاية الفلسفة وابتداء الفكر. وأما التّمشي الثّاني فسأسمّيه أسلوب المغادرة إلى النّفس، والانسحاب إلى عنصر النفس، وأنموذجُه شعري، هو رثاء أبي الطيب جدّته. *** لن أطنب في الحديث عن التمشي الأول الذي يقبل أن يلّخص – على نحو إجمالي جدّا ودون أية تضاريس، في جملة القضايا الأساسية التالية: أولاً: لقد كانت الفلسفة لحد اليوم هي الميتافيزيقا، أي هذا الضرب من التفكير الأساسي، أعني الذي همه التأسيس: الفلسفة، تعني الميتافيزيقا. والميتافيزيقا تتعقّل الموجود في جميعته – العالم، والإنسان، والله- ناظرةً نحو الوجود، أي مثبّتةً للنظر في توجهه نحو تمفصل الموجود في الوجود. هي تتعقل الموجود، موجودا، على جهة التّمثل الذي مهمّته: أن يؤسّس، وذلك لأنّ وجود الموجود قد تمظهر منذ بداية الفلسفة وحتى ضمن تلك البداية على أنّه أساس (أرخي، سبب، مبدأ). ثانياً: تتمثّل نهاية الفلسفة في اجتماع أقصى إمكاناتها: مما يعني أنّه لا ينبغي لنا أن ننتظر تجدّد الفلسفة ضمن ابتداء يواصل أسلوبها الميتافيزيقي. ثالثاً: تتمثّل مهمّة الفكر لدى هذه النهاية في أن يترك الميتافيزيقا: «ربما كان ثمة فكر أكثر اصطبارا من هذا الزبد الهائج الذي لا رادّ له من العقلنة، وأكثر اصطبارا من التحامل الذي تمثّله السيبرنيطيقا. ولعل هذا التحامل هو هو الذي يكون ذروة اللامعقول»، فتبدو مغادرة النّمط الميتافيزيقي من التّفكير وفق هذا النص سعيا نحو فكر لا يقوم على ثنائية المعقول واللامعقول، ولا يؤدي إلى هيجان المشروع التقني وخروجه عن كلّ سيطرة. هكذا تكون «مهمة الفكر، لدى نهاية الفلسفة، أن يترك الفكر السائد حتى هنا، لينتهي إلى تحديد الشأن المخصوص الذي للفكر». إن مغادرة الفلسفة تعني إذن مغادرة نمط من التفكير، ولكنها في نفس الوقت مغادرة إلى عنصر التفكير، أي إلى ضرب من المواصلة داخل الهو هو. *** أما التّمشّي الثاني فهو التمشّي الذي يجرّب المغادرة كانسحاب إلى عنصر النفس، أي كمغادرة لموضوعية الموت التي هي موت الآخر، ولو كان هذا الآخر قريبا حميما. فينعقد الرثاء انحسارا للموضوعية، ومغادرة للخارجية المعطاة، إلى ضرب من الإقامة في النّفس التي تعطي العلاقة بالعالم استئنافا له وطرقا على باب إمكانه: «وإني لمن قوم كأن نفوسهم بها أنف أن تسكن اللّحم والعظما». هذا الأنموذج الشعري الذي يعطيه أبو الطيب هو في زعمي أنموذج المغادرة إلى النفس... أي إلى الإقامة على حوار مع النفس لكل إمكان جديد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©