الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المؤدّب.. قطب تنويري

المؤدّب.. قطب تنويري
12 نوفمبر 2014 21:45
وقع عليّ خبر موته كالصاعقة. لم أكن أتوقع رحيله بمثل هذه السرعة. ولكن يبدو أن السرطان الذي أصابه فجأة أجهز عليه خلال بضعة أشهر فقط. كان من أفضل من عرّف الفرنسيين بالوجه المشرق للثقافة العربية. كان عبدالوهاب المؤدب من كبار التنويريين العرب على المستوى العالمي. وكان يجمع في شخصه بين التنوير العربي والتنوير الفرنسي بشكل موفق وناجح جداً. هاشم صالحتتوقف هذه المقالة عند الجانب الأهم والأشهر من حياته وأعماله: تحليله للموجة الأصولية. ومعلوم أنه شخّص مشكلة أهل الإسلام أو (مرض الأصولية المتطرفة) التي أصابت المجتمعات الإسلامية في عدة كتب متتالية منذ 11 سبتمبر وحتى اليوم. وأعتقد أنه كان الأكثر جرأة وعمقاً ووضوحاً من بين المثقفين العرب. العنف في مظهره الديني في كتابه الأخير: (رهان للحضارة أو على الحضارة)، يواصل تشخيصه للمشكل والداء العضال. فماذا يقول؟ إنه يقول لنا إن الإسلام العظيم (مريض) بأصوليته المتطرفة. وهذا المرض يتمثل بكلمة واحدة: ممارسة العنف الأقصى باسم الله والدين. فالمتطرفون يخلعون المشروعية الإلهية على أعمالهم الإرهابية من ذبح أو قطع للأعناق أو تفجيرات عشوائية تحصد المدنيين بشكل عشوائي كيفما اتفق.. إلخ. هنا يكمن (مرض) مجتمع الإسلام المعاصر بالضبط. ولكنه يعترف بأن هذا العنف ليس حكراً على الإسلام وحده. فهو موجود في اليهودية والمسيحية أيضاً. بل وفي أديان الشرق الأقصى التي اشتهرت بأنها روحانية صرفة: كالبوذية والهندوسية. انظر ما فعله البوذيون بالمسلمين في بورما، مثلاً، لكن الدلاي لاما اعتذر عنها مؤخراً، ودعا إلى إيقافها فوراً. ولكن لنبق داخل دائرة الأديان التوحيدية. فهنا نلاحظ، كما يقول المؤدب، فرقا واضحاً بين النصوص اليهودية والإسلامية من جهة، والنصوص المسيحية من جهة أخرى. فالأولى أميَل إلى العنف كثيراً من الثانية. ولكنه مجرد فرق نظري. فعلى مستوى التجربة العملية المحسوسة والممارسة التاريخية لا يوجد فرق كبير.. كيف؟ لندخل في التفاصيل قليلا. على مستوى النصوص المقدسة نلاحظ أن الإنجيل خال من العنف ومليء بآيات التسامح والسلام إلى حد الاستسلام. ولكن التوراة والقرآن يحتويان على آيات قتال عديدة. من هذه الناحية فالقرآن أقرب إلى التوراة وان كان يحتوي على آيات سلام وتسامح وغفران أكثر بكثير. ولكن يمكن القول إن الحرب التي شُنت باسم الله والمقدس الأعظم كانت توراتية قبل أن تصبح قرآنية. فهناك مجازر وقعت بعد عودة بني إسرائيل إلى الوثنية، وإبان معركة فتح جريشو (أريحا). فلم يوفروا رجلاً ولا امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً ولا حتى الدواب! كلهم مروا بحد السيف بدون أي شفقة أو رحمة. (يوشع.6.21). يستنتج عبدالوهاب المؤدب من ذلك ما يلي: فيما يخص العنف المقدس أو العنف الديني، فإنه يرى أن هناك تفسيرات لبعض آيات القتال التي جيشت المسلمين ضد اليهود والمشركين. هذه الآيات في رأي عبدالوهاب المؤدب، هي التي تهيج متطرفي «القاعدة» و«داعش» حالياً وتعطيهم قوة دفع معنوية هائلة وجرأة لا تكاد تصدق على القتل والذبح. لأنهم يعتقدون أن الله راضٍ كل الرضى عما يفعلون! وهنا تكمن المصيبة الكبرى. هناك فرق واحد بين اليهود والمسلمين فيما يخص ممارسة العنف، كما يقول المؤدب، وهو أن اليهود يحصرون العنف ضمن إطار (الأرض الموعودة) كما يسمونها، في حين أن بعض المسلمين أكثر تعميما. فمتطرفوهم يعتقدون بأن الإسلام ينبغي أن يسود البشرية كلها طوعاً أو كرها. وهذا مخالف لروح الإسلام وجوهره. فقد انتشر عن طريق القرآن والإشعاع لا عن طريق السيف والعنف على عكس ما يتوهمون. والآن ماذا عن الإنجيل والمسيحيين؟ قلنا آنفاً إن (حرف) الإنجيل، أو نص الإنجيل، خال من آيات العنف. ولكن الشيء الغريب العجيب هو أن المسيحيين مارسوا العنف بأقصى ما يكون على مدار التاريخ. لنتذكر هنا ليس فقط الحروب الصليبية وإنما أيضاً وبشكل أخص محاكم التفتيش ثم الحروب المذهبية الكاثوليكية - البروتستانتية التي تقدر ضحاياها بعشرات الملايين. فكيف نفسر هذا التناقض الصارخ بين النظرية والتطبيق؟ انهم بكل بساطة خانوا كتابهم المقدس ومبادئ دينهم أو انحرفوا عنها. يستنتج عبدالوهاب المؤدب من كل ذلك النتيجة المهمة التالية: التذكير بعنف المسيحيين لا يقصد منه التخفيف من عنف المسلمين حالياً. وإنما يقصد منه لفت الانتباه إلى شيء أساسي جداً: وهو أن البشر ليسوا بالضرورة مخلصين لمبادئ دينهم التأسيسية على عكس ما توهمنا النظرة الساذجة والمثالية واللاتاريخية للأديان. وبالتالي فإذا لم يكن المسيحيون قد التزموا عبر التاريخ بالطابع السلمي المحض لكلام الإنجيل، فانه يمكن للمسلمين ألا يلتزموا بالطابع العنيف لبعض النصوص التي تبقى قليلة في نهاية المطاف. يمكنهم أن يحيّدوها عن طريق التفسير التاريخي والفلسفي الجديد. ولكن هذا التحييد لا يمكن أن يتم إلا بعد أرْخَنة النص: أي ربطه بسياقه التاريخي للجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي. ولكننا نعلم أن المسلمين لا يزالون يرفضون ذلك حتى الآن خوفا من أن يفقد القرآن الكريم طابعه الإطلاقي الذي يتجاوز الزمان والمكان. بل وفي منظورهم التقليدي فانه غير مرتبط بأي زمان محدد أو مكان محدد وإنما يحلق عاليا فوق التاريخ البشري ويخترق العصور وكأنه لم يظهر في مكان ما وزمن ما.. إذا ما بقينا محصورين بهذه النظرة القروسطية القديمة للقرآن فان ذلك يعني أن آيات القتال ستظل سارية المفعول إلى أبد الآبدين. وبالتالي فلا يمكن أن يتوقف العنف باسم الله حتى تعتنق البشرية كلها دين الإسلام، أو حتى ترفرف راية الإسلام فوق الإليزيه، والبيت الأبيض، و10 داوننغ ستريت، والكرملين، كما يقول المتطرفون الجهلة. مطلوب قراءة تحيّد العنف خلاصة القول؛ أعتقد شخصياً اعتقاداً جازماً أن النبي الأكرم لم يكن يحب العنف على الإطلاق، كما تفعل بعض الحركات المتطرفة التي تنسب نفسها إليه زوراً وبهتاناً. ولذلك فعار على بعض الغربيين أن يصوروا النبي بشكل كاريكاتوري على هيئة بن لادن أو البغدادي أو الزرقاوي أو بقية المتطرفين الذين شوهوا سمعة الإسلام في شتى أنحاء العالم. ولكن هناك مشكلة في فهم النصوص وينبغي علينا قراءتها مجدداً بغية تحييد الشحنات العنفية فيها. وهذا ما حاولنا فعله في الصفحات السابقة من خلال استعراض بعض أطروحات المفكر التنويري الراحل عبد الوهاب المؤدب. فالنبي الكريم صبر طويلا على العنف والإيذاء ولم يرد على عدوان القرشيين طيلة سنوات وسنوات. ولكن عندما شعر بأن الدعوة أصبحت مهددة فإنه اضطر إلى حمل السيف دفاعاً عنها لأنها كانت أغلى عليه من روحه. كان يحمل قضية تتجاوزه وكان مستعدا كبقية العظماء في التاريخ إلى أن يضحي بنفسه من أجلها. وبالتالي فآيات القتال والتكفير كانت إجبارية لا اختيارية. لقد كانت بمثابة رد فعل على موقف الآخرين العدواني الاستهزائي الرخيص. إذن ينبغي أن نموضعها ضمن سياقها التاريخي في تلك الفترة لكي نفهمها على حقيقتها. وهذا يعني أنها نسبية لا إطلاقية. بمعنى أنها ليست ملزمة في كل زمان ومكان إلا ضد الطغيان وذلك على عكس آيات التسامح والمحبة والغفران. وأعتقد أن هذا هو موقف عبد الوهاب المؤدب. فجوهر رسالة الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، هو حب الخير للبشرية جمعاء وليس فقط للمسلمين: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). أقول ذلك بشرط أن نفهم القرآن على حقيقته وأن ندرس سيرة الرسول الأعظم بشكل موضوعي لا عدائي مسبق ومغرض كما يفعل بعض الاستشراق الرخيص. هذا لا يعني أننا سنحذف آيات القتال من القرآن. أبدا، معاذ الله. القرآن سيبقى كما هو إلى أبد الآبدين لا يحذف منه حرف ولا يضاف إليه حرف. ولكن حتى الإمام محمد عبده كان يعترف بأنه يحق لنا ألا نضع كل الآيات القرآنية على المستوى نفسه. فهناك آيات مطلقة تصلح لكل زمان ومكان وهناك آيات نسبية مرتبطة بظروف عصرها. وعلى هديه سار المفكر السوداني الشهيد محمود محمد طه عندما قال إنه توجد آيات كونية/ وآيات نسبية. والأولى في قسم كبير منها مكية، والثانية في قسم جزئي منها مدنية. وعلى أي حال فلو لم يكن الإسلام هو دين الخير العميم والسلام ومكارم الأخلاق لما انتشر كل هذا الانتشار، ولما أصبح ديناً عالمياً كونياً بامتياز. مسلمو الغرب يجيب عبدالوهاب المؤدب عن سؤال: هل الوسطية هي الحل؟ قائلاً: إن دعوة بعض الدول والشخصيات الإسلامية لمواطنيها إلى تحاشي الغلو والتطرف والالتزام بالوسطية الواردة في القرآن شيء محمود جداً. ولكنه غير كافٍ على الأقل بالنسبة لمسلمي أوروبا الذين يعيشون في بلدان علمانية تؤمن الحرية الدينية بالكامل: أي حرية التدين أو عدم التدين على الإطلاق. ولذا ينصح المسلمين في الغرب بالتقيد بالقوانين المدنية للبلدان التي يعيشون فيها. فهم يعيشون في دولة مدنية حديثة لا دولة ثيوقراطية دينية قديمة. وهذا لا يعني أن يتنكروا لدينهم. فالمسلم يمكنه أن يعيش الروحانية الإسلامية الصافية بكل حرية إذا شاء، وهذا من حقه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©