السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأب ميشال سبع: القوميّة مظلّتنا

13 نوفمبر 2014 02:44
حاوره ــ أحمد سليم فرحات * من وجهة نظركم، ما الخلفية التي تقف وراء تعميم ظاهرة الإرهاب الدموي المتجلبب بالدين، في أجزاء لا يستهان بها من منطقتنا العربية – الإسلامية؟ ** أول إرهاب عرفه التاريخ، كان إرهاباً باسم الدين، وتوظيفاً لبعض تعاليمه في غير مقاصدها. وما يميز الإرهاب عن القتل في الحروب، هو أن من يمارسه، يظن أنه يقوم بعمل صالح يكسبه رضا الله، والفوز بنعيم جناته. في حين أن القتل في الحروب، يحدث في معرض متواليات معارك الدفاع أو الهجوم، نتيجة أوامر عسكرية، إنفاذاً لاستراتيجيات و خطط حربية تخصّ دولاً، إما هي التي ترسم للحرب، وتنفذها، أو هي التي يقع عليها فعل الحرب، فتمارسه دفاعاً عن البلاد والعباد. وإذا كان القتل في الحروب له قواعد ومعاهدات يحترمها العسكر غالباً، فإن الإرهاب لا قواعد له، ولا معاهدات، ولا قوانين، لأنه عبارة عن تنفيذ «لأمر إلهي قطعي». في بلادنا، أطلّ الإرهاب مجلبباً بالدين، أول ما أطل، من خلال الدولة اليهودية الأولى، عندما ادعى أربابها، أنهم ينفذون أمر الرب. وأمر الرب يقضي (من وجهة نظرهم طبعاً) بقتل كل نفس تناهضهم، أو تقف حجر عثرة إزاء مشاريعهم السياسية.. ولا تمييز في ذلك بين ذكر وأنثى، وطفل وشيخ، وبريء ومتورط. كما أن ترجمة «أمر الرب»، تجيز لهم هدم وحرق وإبادة كل ما هو قائم، من منازل وبهائم وحظائر وزرع وضرع تعود للآخر الزنيم. وعندما جاءت المسيحية، التي هي في الأساس دين يدعو إلى المحبة الخالصة، عادت هذه الديانة السماوية، مع الملك قسطنطين في القرن الرابع، لتلبس ثوب اليهودية السياسية الباطشة، وراحت تنكل بالجماعات والشعوب.. وطال تنكيلها حتى الكنيسة نفسها. إذ نجح قسطنطين، ابن الجنرال الروماني (أدخلته والدته هيلانة في المسيحية، فظل متمسكاً بها شكلاً، لا جوهراً) في جعل المسيحية حزباً سياسياً، وإيديولوجيا عصبيّة وعُصابية لدولته، وحوّل جموع المسيحيين بالتالي، إلى مجرد وقود في أتون حروبه، لإنجاز مشروعه الدولتي الإمبراطوري باسم السيد المسيح. وقد اعتبر البعض هذا الأمر بمثابة السقطة الأولى للمسيحية عبر التاريخ، ولمّا تزل تداعيات هذه السقطة مستمرة إلى يومنا هذا. وبظهور الإسلام، دين الفطرة والرحمة والاعتراف بالآخر، وحرية معتقده، خصوصاً من أهل الكتاب، بدأ النبي العربي انتهاج سياسة العفو، والتسامح، وعدم اللجوء إلى العنف، اللهم إلا في حالات ردّ الاعتداء، والدفاع عن النفس. على أن «الدولة الإسلامية»، بمعنى التديّن السياسي، وخلال مراحله التاريخية المعروفة، ابتداء من الأمويين، وانتهاء بالعثمانيين، (قدموا الصورة الأسوأ) هي من مارست الإرهاب المنظم باسم الدين، فاستبدّت ونكّلت بجماعات وشعوب بحالها. لكن ما هو أخطر وأفدح من هذا كله اليوم، هو انتشار إرهاب «الجماعات الدينية» الشاذة، في غير بلد عربي وإسلامي، وقيامهم بارتكاب كل مستفظع الجرائم تحت صيحات تزوير اسم الجلالة. ويعمد بعض دعاة هذه الجماعات الإرهابية إلى اجتزاء آيات قرآنية وأحاديث نبوية، وتفسيرها على نحو مغلوط تماماً، والهدف طبعاً تغطية مشاريع وسياسات مشغّليهم الكبار، داخل الحدود وخارجها، ممن يستهدفون إثارة الفتن، وإشعال حروب الغرائز الدينية والطائفية المؤدية إلى تفكيك الأوطان وخرابها. وخطورة هؤلاء الدعاة، وجيوش المضللين الملتحقة بهم، تكمن في أنهم يعملون على تمزيق وحدة النسيج المجتمعي والجغرافي والثقافي والحضاري للأمة. مثل هذه الفئات الإرهابية وجدت فيها الدول الاستعمارية ضالتها، وأداتها الفتاكة غير المسبوقة، خصوصاً لجهة القتال بواسطتها عوضاً عن جيوشها.. موفرة بذلك الدم وغضبة شعوبها عليها. فلَتان* ما مسؤولية المرجعيات الدينية الوسطية والحقيقية هنا.. الأزهر الشريف، مثلاً، بتاريخه العريق والموثوق؟ ** بعض المرجعيات الدينية، المنشقة ضمناً عن الأزهر، والتي انتدبت نفسها، من زمان، لمهمات أخرى، سياسية في الغالب، اعتبرت نفسها هي المرجعية الدينية البديل، وبالتالي أسقطت كل ما عداها من مرجعيات، مهما كانت موثوقيتها وإجماع الناس عليها. وأمام هذا الفلتان السائد، وانعدام المقاييس، صار أي «أمير»، أو «رجل دين» كيفما اتفق، ينال من الأزهر الشريف بما لم يسبق أن حصل من قبل مع هذا الصرح الديني المحترم، والمستمر على اعتداله، ووسطيته، منذ أكثر من ألف ومائة عام. * إلام تعزو هذا الانتشار الواسع لظاهرة الإرهاب بفوضاها الدموية السائدة اليوم؟.. للجهل؟ للفقر؟ لغياب السياسات الرسمية الوطنية والقومية بعيدة المدى؟ ** إلى أمور كثيرة. أولاها ضياع البوصلة القومية على مستوى رسمي وشعبي عربي عام، وخصوصاً تجاه تطورات عملية الصراع مع أعتى أعداء الأمة: إسرائيل، وتبدّد فرص قيام أي استراتيجية قومية موحدة، ولو بالحد الأدنى. ثم سرعة تلقف أعداء الأمة للحراك الشعبي (ما سُمّي بالربيع العربي) وتوجيهه، نحو مزيد من الفوضى الشاملة، والاقتتال الأهلي، أو حروب التفكيك والتذرير، الآيلة بالضرورة إلى ترجمة مشروع تقسيم المنطقة وإعادة رسم خرائطها الجيو- استراتيجية من جديد. طبعاً، الفقر والجهل والأمية، بوجهيها الأبجدي والمعرفي، وقصر النظر السياسي، والنفخ ببوق العصبيّات الطائفية والمذهبية، والقبلية والجهوية، كلها أمور أسهمت في إذكاء روح الفوضى والإرهاب الدموي الفظيع السائدة. لكأنما هناك مايسترو واحد يدير تخلفنا، وجهلنا، وتسميم قوة مناعتنا القومية والحضارية. القومية.. مظلتنا الأخيرة * من هو هذا المايسترو في رأيك؟ وما سبب تمسكك بالفكر القومي إلى هذا الحد في زمن انحساره؟ **أعتقد أن بعض الدول التي لا تاريخ راسخ لها في الحضارة، كالولايات المتحدة، كانت تخشى للغاية، خصوصاً بعد الثورة الفرنسية، نهضة القوميات في أوروبا. وهذا يشي بأن ذهنية المهاجرين الخارجين على القانون، لا يمكن أن تستوعب فكرة القومية بإرثها التاريخي الحضاري. لذلك حاولت الحكومات الأميركية المتعاقبة، تأليب الشعوب ذات العراقة الحضارية والتاريخ على سلطاتها.. تارة بتشجيع بلدانها على الانخراط في اتحادات غير متجانسة، تفقد خلالها هذه البلدان، عرى قوميتها وارتباطها الثقافي الجذري بها.. وطوراً بتغذية عوامل الإيديولوجيات الدينية والطائفية والسياسية المناوئة للفكرة القومية. وهذا تماماً ما وجدت فيه إسرائيل بغيتها. لذلك عملت إسرائيل مع المايسترو الأميركي ودول غربية أخرى، بطرق عدة، على إسقاط وبعثرة كل محاولة لقيام نهضة قومية حقيقية. وما هذه الفوضى المنظمة، وتفشي الإرهاب الدموي، والحروب الأهلية والطائفية والمذهبية المستمرة في بلداننا العربية، إلا دليل دامغ على ذلك. أما سبب تمسكي وإيماني بالفكر القومي في زمن انحساره، فلأنه الأمر الوحيد الذي أراه يعصم الأمة من مزيد من تفككها وانهيارها. والأمة أحوج ما تكون إلى هذا الفكر اليوم وأكثر من أي وقت مضى. لا نهضة لنا إلا على أساس قومي، فالقومية هي مظلتنا الأولى والأخيرة، وسيعود إليها كل من أهمل فكرتها، لأن البديل عنها ببساطة، هو الكارثة الكبرى بعينها. * هل أنت متفائل بالقضاء على الإرهاب الدموي، خصوصاً وأننا نراه يتعاظم على مستوى عربي وإسلامي أكثر من أي وقت مضى؟ ** لا شك في أن إعلان إسرائيل أنها «دولة يهودية»، والإصرار على طلب الاعتراف بها على هذا المستوى، يضمر رغبة أكيدة لديها في الدفع بقيام دويلات دينية ومذهبية في المنطقة العربية، وخصوصاً المجاورة لها، لتبرر بذلك وجودها في إقليم طوائفي ضعيف تكون هي السيدة المطلقة فيه. كما تضمن إسرائيل من وراء طرح «يهودية الدولة» تحقيق ترانسفير جديد للفلسطينيين من داخل أراضي العام 1948، على أساس أنهم غير يهود. وقد علّق نتنياهو نفسه، بعد دعمه المطلق لإعلان «اسرائيل دولة يهودية»، قائلاً: «إننا أمام سايكس بيكو جديد في المنطقة، من شأنه أن يترجم حقنا التاريخي بقيام دولة الشعب اليهودي». مثل هذا المطلب الصهيوني، سيزيد ولا شك، من تفاقم ظاهرة الإرهاب في بلداننا، لأن الإرهاب باسم الدين، هو الأداة الأساسية الأكثر فاعلية لبلورة قيام تلكم الدويلات الطائفية الصافية، والتي هي بالضرورة مصلحة إسرائيلية قاطعة، سواء أدَرى ذلك المتحاربون السذّج، أم لم يدروا. ولا شك أن رموز مشغّلي الحروب الطائفية والمذهبية في بلداننا، وفي الخارج، يدركون أسرار وأبعاد هذه اللعبة الجهنمية، واستهدافاتها الكبرى. إن الإرهاب باسم الدين، لا يمكن التخلص منه والقضاء عليه، إلا بقيام الدولة المدنية القومية العلمانية الجامعة، والتي تقوم على فصل الدين عن الدولة، خصوصاً لجهة إبطال ذرائع تجار الدين، ومشوهي قيمه الروحية العليا. وأرى أن هذه الدولة المنتظرة هي الضمان الأكيد والثابت لحقوق وحريات جميع الأديان والطوائف والمذاهب في بلداننا. محنة المسيحيين* لنتكلم عن المسيحيين العرب في عصر الإرهاب الدموي.. يبدو أنهم مستهدفون أكثر من غيرهم، مع أنهم أصل أهل هذه الأرض.. ما تعليقك؟ ** أنا لا أقول إن المسيحيين هم الأصل هنا، على الأقل من الناحية الدينية وتجذرها في المنطقة. فهناك الكنعانيون والآراميون والآشوريون والفراعنة (مثالاً لا حصراً) قبلهم. والمسيحيون في الشرق اليوم، هم كغيرهم من سكان المنطقة المسلمين، يخضعون للظروف السياسية الظالمة إياها. ثمة هجمة على المنطقة تأخذ من الدين والطائفة والمذهب والقبيلة لبوساً لها. والإرهاب والتخلف والفقر إحدى أعتى أدوات تشكّلها البغيض. إذن، المنطقة كلها مستهدفة، بمسيحييها ومسلميها. لكن كون المسيحيين العرب أقلية في محيطهم العام، تظهر صورة مأساتهم أكبر.. طبعاً هذا الكلام لا يلغي في النتيجة، مسؤولية الجميع، وواجبهم تجاه المستجدات السلبية والخطيرة التي تمر بها المنطقة. وأقصد بالجميع هنا، المسيحيي والمسلمين وسائر الأقليات الدينية والإثنية، فضلاً عن العلمانيين والليبراليين واقوميين واليساريين... إلخ. واليوم، وفي ظل حرب المجتمع على ذاته في بعض الدول العربية والإسلامية، نعم المسيحي بدأ يشعر أن لا مكان له في بلاده. إرادة صهيونية* يلاحظ في المدة الأخيرة دعوات روسية، سياسية وكنسيّة، لمسيحيي سورية بالهجرة إلى البلاد الروسية، وحتى إعطائهم جنسيات وجوازات سفر روسية مسبّقاً.. ما تفسيرك لهذه الدعوات المستجدة؟ ** الإرادة في هجرة المسيحيين العرب من بلدانهم، هي إرادة صهيونية في الأساس، حيث يرى البعض ضرورة عدم الضغط على المسلمين في الشرق، لأجل حماية الأقليات المسيحية فيه. وعندما يتضاءل الوجود المسيحي، حدّ الانعدام الديموغرافي تقريباً لهم، (وهو ما لا نريده أن يحصل) ساعتئذ سيزداد الضغط الغربي السلبي على المسلمين، ويأخذ مداه من الأذى والضرر، بمختلف الأشكال والأدوات. * لكننا نلاحظ في الآونة الأخيرة أن «الكنيسة العربية»، بدأت تتخذ إجراءات جدية وصارمة، من شأنها أن تحول دون اتساع نزف هجرة أبنائها من أوطانهم.. البطريركية المارونية مثلاً، منعت بيع الأراضي والعقارات لغير المسيحيين.. ما تعليقك؟ ** هذا صحيح ونتمنى أن تتسع الظاهرة أكثر، ليس من باب فئوي أو عنصري، وإنما من باب حفظ ثروة التنوع الديني والروحي في قلب الأمة الواحدة، خصوصاً أن بطش الإرهاب الدموي لم يستثن أحداً، لا بل إن وطأته تشتد على المسلمين، في بعض الأحيان، أكثر بكثير مما تشتد على أشقائهم المسيحيين في البلد الواحد. وهذا ما يجعل الوعي الشعبي المشترك، بين المسيحيين والمسلمين معاً، يزداد أكثر، واللحمة الوطنية تتماسك، بالرغم من كل ما يجري. مسؤولية الجميع* برأيك، ما مسؤولية المسلمين تجاه إخوانهم المسيحيين في مثل هذه الظروف التاريخية العصيبة، التي تمر بها بلداننا الجريحة؟ ** هي، مسؤولية ذاتية كبيرة، لأن مشكلة الإرهاب تكاد تكون بنيوية عند بعض المسلمين المتطرفين، ولا أقول هنا الإسلام، لأن هذا الدين العظيم، لا يحتكر فهمه أهله الثقات فقط، وإنما كل من يشاء الاطلاع على تعاليمه السمحاء، بعقل معرفي ناضج، وقلب متعمق ومنفتح. وهنا لا أكون مزايداً إذا ما دعوت، أنا المسيحي، أشقائي المسلمين، ومن بوابة الحرص على الدين الحنيف نفسه، إلى معالجة وتفكيك كل قضايا التطرف في هذا الدين (وفي الدين المسيحي أيضاً)، والبحث في دواعيها، وعوامل إذكائها، ورسم المعالجات لها، لأن التطرف هو العدو الأول والأخطر للإسلام وصورته الاعتدالية العادلة، ولحضارة أمتنا الواحدة. إن ما يجري الآن حقيقة، هو أكبر مذبحة تشويه للإسلام منذ ظهوره وحتى اليوم. وقد حاول العاهل السعودي الملك عبدالله، أن يجري أكثر من محاولة لمعالجة هذه القضية المعقدة، أولها دعوته إلى مؤتمر دولي في بلجيكا، لإعطاء الصورة الصحيحة والحقيقية عن الإسلام المعتدل أمام المسيحيين جميعاً. والثانية في مؤتمر إسلامي جمع فيه الملك كل الطوائف والمذاهب الإسلامية، كي تعمل على حوار جدّي في ما بينها، والثالثة، عندما سمّى الملك نفسه في بيان واضح صريح أسماء جماعات إرهابية بعينها، في محاولة منه لفضحها وعزلها والدعوة إلى إدانتها، وإعمال القانون للاقتصاص العادل منها. وإذا ما حذت باقي الدول العربية والإسلامية حذو السعودية هنا، ممثلة بأعلى الهرم فيها، فإن فرص انتشار الإرهاب ستضيق وتنحسر شيئاً فشيئاً لمصلحة الإسلاميين المعتدلين. وأعتقد أن إنشاء صندوق مالي ضخم كصندوق جورج مارشال بعد الحرب العالمية الثانية، لدعم إنشاء مدارس وأكاديميات يُدرّس فيها الدين الإسلامي، وفق منهج علمي معتدل ووسطي، خصوصاً في بلاد آسيا الإسلامية، يمكن أن يمنحنا مزيداً من الرجاء في رؤية إسلام معتدل، ويحارب بدوره، ومن موقعه، الإرهاب على نحو أقوى وأنفذ. لعبة جهنّمية الإرهاب باسم الدين، هو الأداة الأساسية الأكثر فاعلية لبلورة قيام الدويلات الطائفية الصافية، والتي هي بالضرورة مصلحة إسرائيلية قاطعة، ولا تراجع للصهاينة عنها، سواء أدَرى ذلك المتحاربون السذّج، أم لم يدروا. ومما لا شك فيه أن رموز مشغّلي الحروب الطائفية والمذهبية في بلداننا، والخارج، يدركون أسرار وأبعاد هذه اللعبة الجهنمية، واستهدافاتها الكبرى. الأب ميشال سبع: شروط الخلاص من الإرهاب الأب البروفيسور ميشال سبع، رجل دين مسيحي من نوع خاص في لبنان والمشرق العربي. تخاله وأنت تجلس إليه، رجل دين مسلماً أيضاً، فضلاً عن أنه ليبرالي علماني قومي بامتياز. موسوعي المعرفة من ذلك الطراز من المثقفين الفلسفيين الكبار، يمتد علمه إلى الأساطير والحضارات القديمة علاوة على كونه مفكراً سيو - استراتيجي إقليمي، ودولي، تتطعّم رؤاه العلمية دوماً بمسحة فلسفية تأويلية نافذة، تغذيّها، بالطبع، مخيلته الأوسع من مخيلة شعراء وأدباء كبار في بلداننا. يرى الأب سبع، وأمام هول ما يجري، ضرورة تحييد الدين عن الدولة، لمصلحة الدين نفسه، وحفظاً له من وظائف التسييس الضيق والمدمر للمجتمعات والأوطان.. تماماً كما يحدث اليوم في غير مكان من العالمين العربي والإسلامي، حيث يُزج بالدين في بازارات السياسة واستراتيجياتها الخبيثة المبنية على الحروب الغرائزية والعبثية، التي تحطّ به، مع الأسف، في أسفل قيعان التجريم، والتبربر، والتوحش، والقتل المجاني، وسفك الدماء بطرق ولا أبشع. لا يعرف الأب سبع كهنوتاً مغلقاً، ويصرّ على نقد ونقض كل أسباب الجمود والتعقيد، والجهل والتجهيل، الذي يلحقه بالأديان السماوية، خبراء التحريف والمسخ والفتن المقيمة والجوالة. إنه يؤمن بالدولة المدنية القومية الجامعة، كحافظة دائمة لكل الأديان وحريات الاعتقاد بها، والمثبّتة بالطبع، لمبادئ المواطنة والدمقرطة والعقلانية واحترام الخصوصيات الثقافية للإثنيات والقوميات الأقلوية الأخرى، ما يعزز، في المحصلة، من مناعة الأمة نفسها، ويؤهلها لمواجهة كل أنواع الأخطار المصيرية التي تحيق بها، وما يحاك ضدها من قبل الدول الاستعمارية، التي حاولت باستمرار منع قيام أي نهضة قومية حقيقية، عبر تغذية عوامل الإيديولوجيات الدينية والطائفية والسياسية المناوئة للفكرة القومية. وما هذه الفوضى المنظمة، وتفشي الإرهاب الدموي، والحروب الأهلية والطائفية والمذهبية المستمرة في بلداننا العربية، إلا دليل دامغ على ذلك. كما أنه يربط ما يحدث بالصهيونية، وتأتي دعوة إسرائيل العالم إلى الاعتراف بها كـ (دولة يهودية) في هذا السياق، حيث تضمر رغبة أكيدة لديها في الدفع بقيام دويلات دينية ومذهبية في المنطقة العربية، وخصوصاً المجاورة لها، لتبرر بذلك وجودها في إقليم طوائفي ضعيف تكون هي السيدة المطلقة فيه. الأب ميشال سبع من مواليد العام 1948. بروفيسور في علم الاجتماع السياسي، ويترأس إدارة مجلة «آفاق جامعية» منذ نِشأتها في منتصف السبعينيات إلى اليوم. يعمل حالياً، إلى جانب إدارته للمدرسة البطريركية في بيروت، أستاذاً مشرفاً في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية. كما يترأس لجان المؤتمرات الدولية في المركز العالي لحوار الحضارات في لبنان. عمل كاهن رعية مدة ربع قرن.. وهو مرسل خاص، ودائم، لبطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام إلى البلدان العربية. ألّف الأب سبع العديد من الكتب منها:«مدخل إلى علمنة الإيمان»، و«الجيوبوليتيك الأنطاكي»، و« الفكر السياسي في بلاد الشام»، و«كلمات أقلوية تبحث عن قارئ»...إلخ. وصدرت له أبحاث عدة مطولة في حضارات مصر، وبلاد ما بين النهرين، وبلاد الشام. باختصار، يتمتع الأب سبع برصانة العقل، ورصانة العاطفة، وحتى رصانة الخيال. إنه شخصية قوية بالمنطق المعرفي للأمور.. ولا يتراجع البتة داخل نظام نفسه، ولا أمام الملأ، عن قناعاته الإيمانية التنويرية الحضارية. التقيناه مؤخراً في مكتبه في المدرسة البطريركية في بيروت، وكان هذا الحوار المطوّل، حول دراما الوقائع والمستجدات الراهنة في المنطقة، وبخاصة منها الإرهاب، وتزوير الدين، وحروب الدم، وانقسامات الأمة على نفسها، وثقافة الانتحار والتكفير، وإلغاء الآخر... وكذلك حاورناه في تلكم المحاولات الحثيثة والمبرمجة، لرسم خرائط جيو- استراتيجية جديدة لأوطاننا... وقضايا أخرى كثيرة تجدون تفاصيلها في ثنايا هذا الحوار الثر الذي أجراه الزميل أحمد فرحات في بيروت. طالع صفحة 2 الإرهاب المسيحي بعد الثورة الفرنسية (1789- 1799)، انتهت عملياً سلطة الكنيسة، ولم يعد لديها أي أطروحات تقوم على القمع والإرهاب. لكن بعض الكنائس البروتستنتية التي غالت في العودة إلى العهد القديم، ولدرجة أنها أصبحت شبه مسيحية يهودية، أو يهودية مُتمسحنة، باتت شديدة التعصب ضد سائر الأديان غير المسيحية، وضد مختلف الطوائف الأخرى، بما فيها المسيحية المغايرة لها. والكنيسة البروتستنتية ليست بعيدة عن دعم الصهيونية العالمية المطّرد، وبالتالي فإن لديها مسؤولية مباشرة وغير مباشرة، عن تغذية الإرهاب الصهيوني المتمسحن عالمياً. ومن هنا بإمكاننا القول، بإرهاب «مسيحي» نعم، يطلع من وسط هؤلاء. كادر مع حوار الأب سبع/ ص1 شبكة أمان بات الإرهاب، مع الأسف، يرتبط بصورة المسلمين المتطرفين هذه الأيام، ولا أقول الإسلام البتة. فهو دين أجلّ وأسمى. كما أنه أرفع بكثير من أن يُزج اسمه في بازارات السياسة والحروب العبثية، بدأ بعض الشباب المسيحي في أوروبا وأميركا، يلتحق بجماعات الإرهاب المتفلتة في بلداننا، مشهراً «إسلامه» على طرازهم المتطرف والدموي.. ظناً منه بأنهم يمثلون الدين الحنيف، بينما هم (أي جماعات الإرهاب) في الحقيقة، عنوان الخطر الأكبر والأدهى والأعتى على الإسلام والمسلمين، عبر تاريخهم الحضاري العميق والمتسامح في المنطقة. وعليه فإن أي ارتفاع في نبرة صوت البابا ضد الإرهاب والإرهابيين هنا، ستكون له تداعياته على المشهد برمته، إذ سيفسر موقفه على أنه ضد الإسلام والمسلمين ككل، ما سينعكس سلباً على وجود ما تبقى من مسيحيين في هذا الشرق الجريح. وإذا ما أتيحت للفاتيكان من جديد آليات تعاون مختلفة وفعّالة مع الإسلام المعتدل، تشكل بديلاً للتطرف الإسلاموي السائد، فإنه يمكن القول إذ ذاك بإمكانية وجود شبكة أمان واطمئنان في المنطقة، ليس للمسيحيين فقط، وإنما لمجتمع الأمة ككل، بأديانه وطوائفه ومذاهبه وجميع الفئات العلمانية أو اللادينية فيه. الأب ميشال سبع حوار بلا جدوى * ماذا عن الحوار الإسلامي – المسيحي في ما خصّ قضية الإرهاب الدموي المتفاقمة حالياً؟ ** لا أرى أي جدوى من الحوار الإسلامي – المسيحي. هو ليس أكثر من شكل تعبيري عن إرادة العيش المشترك، اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً قدر الإمكان. أما الحوار الديني المنتج والجريء بين الجانبين، فهو مستحيل حتى اللحظة.. ولا يكفي القول إن المسيحية والإسلام، يعبدان رباً واحداً، إذ أن هذا الرب الواحد هو مشترك مع اليهود.. ومع ذلك، فنحن في صراع مفتوح مع اليهود الصهاينة. * ما الذي تقصده بالحوار الديني المنتج والجريء هنا؟ ** اقصد الحوار لإظهار المشتركات بين العقيدتين المسيحية والإسلامية، والتي يمكن للعقلاء الكبار، من الجانبين، إظهارها، والدعوة إليها، بغير عقد تاريخية سلبية مسيطرة على الوعي الديني في كلا الجانبين. ولا مجال هنا للتوسع بها، لأنها تحتاج إلى مباحث فقهية ولاهوتية معمقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©