الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أغاني الراويات...

أغاني الراويات...
13 نوفمبر 2014 13:05
في خمسينيات القرن الماضي بدأ النقد الأدبي في فرنسا يتعرف على العلاقة الوثيقة بين الرواية والموسيقى. ومما يذكر لميشيل بوتور في كتابه (بحوث في الرواية الجديدة) إلحاحه على أن يطلع الروائيون على بعض المفاهيم الموسيقية، وعلى أن يطلع الموسيقيون على بعض الروايات، فالرواية والموسيقى فنان، يوضح أحدهما الآخر، ولابد في نقد أحدهما من الاستعانة بألفاظ تختص بالآخر. وحسبي أن أشير هنا إلى ما يعنيه الإيقاع للرواية، وإلى ما تعنيه لها أيضاً البوليفونية كخطوط لحنية – حيوات روائية... ومن أسف أن هذا كله، نقداً وإبداعاً روائياً، لا يزال شاغلاً ثانوياً. وإذا كنت سأعود إلى ذلك مفصلاً في مقام آخر، فالتركيز هنا سيكون في الغناء وعناصر الموسيقى، وفي الرواية في الإمارات العربية المتحدة. نبيل سليمانكان الغناء موضع عناية ما من قبل (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني، وبه، ومن بعده. كما كان الغناء في الشعر موضع عناية ما، ومن ذلك الكتاب المنسي (الفن الغنائي عند العرب) للكاتب السوري المنسي نسيب الاختيار. وللاختيار أيضاً (معالم الموسيقى العربية) و (الفولكلور الغنائي عند العرب). ويبدو أن هذا الموضوع كان يشغل الجو الأدبي والنقدي في سورية قبل ستين عاماً، إذ كتبت فيه مثلاً منور محاسني (أثر الغناء في تطور الشعر وذيوعه) وخصه جودة الركابي بفصل خاص في كتابه (في الأدب الأندلسي – 1957)... أما الغناء في الرواية، فحديث آخر. «طروس» سارة الجروانلنبدأ الحديث، مثلاً، مع رواية سارة الجروان (طروس إلى مولاي السلطان – الكتاب الأول الحَدَال – 2009)، حيث اللعبة التي تلعبها الروايات المعنية هنا بعامة - أعني لعبة التناص – والمتناصات هي من الشعر العامي المغنّى، وما أكثر سوانح ذلك. فهذه موزة بنت مزاحم (زوجة الشيخ عتيق) تجهش وتنشد: «صيحي بالسبلة وابكي حولين وابكي على فراق راعيجي». وفي موطن آخر تنشد صقعة شما مفاخرة بابن عمها الشيخ عبيد بن جمعة الذي نفي إلى الدمام بعد سقوط واحة البريمي بيد البريطانيين. ومما أنشدت صقعة شما ما صار أهزوجة وقصيداً يغنيه الشباب، مثل: «حافظ على من قابل الجيش وقت الضحى والدم رايب أهل السلاسل والمناقيش وادعسوا تحت السرايب». وما غنت صقعة شما أبياتاً قديمة، كانت الألسن تتناقلها بغرض (تقزيز الدروب) أي بغرض التسلية والترفيه، ومنها: «ظبي بلادنا حلو لعيان / ظبي في ذي الدار بتبّه». كما تنشد ناعمة أبياتاً تجعل دموع الشيخ المنفي تسيل في موقف آخر: «بنصيح وبنبكي ع الزراريب / واليوم جدياناً ثمنها». وقد وصفت الراوية استماعها لأول مرة إلى (الرزفة) في العرس، والغناء الذي يؤديه الرجال والنساء متشابكي الأيدي، وهم يرقصون. بالطبع تقوم المفردات المغرقة في المحلية، ونادرة التداول، عائقاً بين القارئ غير الخليجي وبين هذه الحركة الروائية: الغناء. وإذا كان شرح الكاتبة للمفردات يلتف على ذلك العائق، فهو أيضاً يبطئ أو يبرد من تفاعل القراءة مع الغناء. وهذا الأمر عميم، حيث حضرت العامية وأغرقت في المحلية، في الأمثال أو الحوارات أو الغناء وما ماثل في لعبة التناص الروائية، والأمثلة وفيرة في المغرب والجزائر والسودان، بخاصة، وعلى العكس من ذلك هي لعبة التناص مع الغناء الدارج بثوب الفصحى. «زنجبيل» صالحة غابشيأتي الغناء حركة أقل ثانويةً في رواية صالحة عبيد غابش (رائحة الزنجبيل)، حيث يعزف المطر أغنيته الشتوية، وحيث الرواية هي أغنية حنين. وفي فقرة (الحيرة)، حيث تذهب الأستاذة الجامعية في الاقتصاد علياء الغافي إلى بلد السماكين والشعراء: الحيرة، تتحول الأغنية الشهيرة (كم تذكرت سويعات الأصيل / وصدى الهمسات ما بين النخيل) إلى إيقاع تتوزع وتنتظم به هذه الفقرة. وبعد خيبة علياء الغافي بالزواج، وإيقاع زوجها بها، تنشد من قصيدة للشاعر القطري عبد الرحيم الصديقي: «جاملت أنا الدنيا على حسابي، وجاملت أنا جروحي وجاملت أنا الكذبة وكل ما فتحت عيني أشوف أنا الوحدة». ولا تنسى الرواية أهازيج البحارة العائدين ظافرين بعد غياب شهور في أعماق البحر. «طوي» مريم الغفلي يتضاعف اشتغال الغناء في رواية مريم الغفلي، (طوي بخيته – 2009) حيث يعسر التواصل لولا الهوامش الشارحة، كما سبق مع رواية سارة الجروان. ففي (طوي بخيتة) تأتي هذه (الشلّة) التي رفع بها سلطان والد بخيتة صوته: «بالحفظ يامن شدْم الدار وانْوى المشام أو طيبْ لوفوق». وقد رد عليه ابن عمه راشد في تناغم ساحر، وهما اللذان تشاركا (الشلات) كثيراً: «ياسيرْ معكم مثل من سار يتبع طِريجْ مِرْ به شوق» فأكمل سلطان: «ولفي قبلكم عينه وسارْ وادعي بقلبي همّ وخفوق». وفي الرواية أن مصبح يتذكر زوجته الميتة (اليازية) وينشد: «هاج الغرام وفاضت العين عبرات دمع كما ديل الطها الهاطلات». وقد حددت الكاتبة في الهامش المصدر الذي استقت منه هذا الشعر، وهو (تراثنا من الشعر الشعبي – الجزء الأول). كما يخاطب مصبح النخلة التي تستوقفه بعذوقها التي تنوء بحملها: «ياحشكاره شوف الدهر خلاج فارقتي لجْ وليفه مثل الونيس أخداجْ». أما بخيتة نفسها فقد رددت من شعر أحمد بن سليم، بعدما نجت من ذبح والدها لها: «أبكي والأفاخت ونيني / وأنوع مفيوع أو مغبون». أما في رواية مريم الغفلي (بنت المطر - 2009) فيكون الحضور الغنائي الأكبر لمحمد عبده، والأمر نفسه يحدث في (نداء الأماكن .. خزينة ـ 2013) مع ملاحظة أن حضور الغناء وفعله في هذه الأخيرة يتراجع، مفسحاً المجال لمتناصات من أشعار بدر شاكر السياب وفاروق جويدة ومانع سعيد العتيبة وإبراهيم محمد إبراهيم. «آيباد» صالحة عبيدومع رواية صالحة عبيد (آيباد الحياة على طريقة زوربا – 2013) تغادر الرواية أفق الإمارات إلى مقام آخر للرواية، هو القاهرة، وإذا بالغناء في الرواية يرمح في المقام الجديد، عالمياً ومصرياً، فصوت أندريا بوتشلي يطبطب على قلب الراوية، وفي دار الأوبرا تصدح الأوركسترا بعرض زوربا. ومن عرض إذاعي قديم كتبه صلاح جاهين، ولحّنه سيد مكاوي في ستينيات القرن العشرين، تصدح دار الأوبرا بعرض باليه (الليلة الكبيرة) التي تلخص احتفالاً بالمولد النبوي في أحياء شعبية فولكلورية، حيث الملهم هو الحفل الشعبي، من عازف الدف إلى غناء الراقصة، ليقوم، كما تصف الرواية، عرض شرقي أصيل، تنوعت فيه الآلات والأصوات والعوالم الملونة. ويتعزز في موقع آخر من الرواية، هذا حضور الغناء الشعبي، والموسيقى الشعبية. ففي إحدى يوميات الراوية القاهرية، تمضي إلى حي الحسين الشعبي، حيث تنطلق من مكان غير معروف أغنيات شعبية الطراز، تمثل للرواية تلوثاً ضوضائياً، فتتذكر (المسكين) المطرب الشعبي أحمد عدوية في بداية ظهوره، والهجوم الحاد الذي تعرض له. وإذ تقارن الراوية هذا الطفح الغنائي الشعبي الرائج الآن، بغناء أحمد عدوية، ترى الأخير «عبد الحليم وقته المنصرم». «ضلع» لولوة المنصوري أما في رواية (لولوة) أحمد المنصوري: (خرجنا من ضلع جبل -2014) فالحضور هو للموسيقى، وليس لواحد من عناصرها، وحيث لا يتعين الفضاء الروائي إلا بجبل جيس الذي تؤسطره الرواية، كما تؤسطر البلدة التي لا تسميها. في هذا الجو الأسطوري تتساءل الراوية عما إن كانت الموسيقى تجدي نفعاً في برء بلدتها من دمويتها ومن وباء جنون عظمتها. وستكرر الراوية تساؤلها في منتهى الرواية. وكالسؤال الأول، هو الثاني: استنكاري، وبالتالي لن تجدي المقطوعات الموسيقية نفعاً في علاج بلدة دموية كبلدتها، حيث يتعطش الرجال للدم والجريمة، ولا تعرف البلدة سوى ضرب الطبول وقت الضجر، استئنافاً لمعركة بدأت منذ زمن بين الإنسان وقرينه، حين كان البشر يقرعون الطبل ليتعارك الرجل مع شريكه الخفي. فمعركة الإنسان الدموية تبدأ بدق الطبول تهيئة لمذبحة الحروب الفردية، لمعركة إنسان مع شيطان. ومقابل كل ذلك، ترى الموسيقى تشكل الإنسان وتتشكّل إنساناً، عبر شخصية هيثم في الرواية. فهيثم وحده، كما تسرد الراوية؛ مقطوعة موسيقية تعزف نفسها على أصابع السماء. وروح هيثم الموسيقية الهائمة في الخيال والألوان والأمواه تستطيع أن تكون رسول محبة بين الناس. لكن (بلدتنا) كما تتابع الراوية، حرمت على نفسها ترانيم هيثم، بينما خطب الخطيب بتحريم الموسيقى، لأنها من مزامير الشيطان. والخطيب نفسه يتخفى خلف الجبال، ويخطب في الرجال مؤكداً على دق الطبول لتجيش شياطين الحروب. وبالمقابل تؤكد الراوية على أن الموسيقى وحدها لا تعرف التشدق، ولا تبو إلا إلى قلب عصفور، كما تداعب ارتعاشات عشبة، والموسيقى إذن هبة الطبيعة، فيما تؤنسن الطبيعة كما ترقى بالإنسان. وبعد، فليس يخفى أن المدونة التي جرى تناولها محدودة بخمس روايات لخمس كاتبات، وأغلب الروايات قد صدر خلال السنوات الخمس الماضية، حيث بدت الحدود الدانية للغناء في الرواية، إذ لم يتحول إلى عنصر أساس في البنية الروائية. والأمر نفسه بالنسبة للرواية التي عرضت للموسيقى بعامة، وليس لعنصر الغناء وحده فيها. وعلى الرغم من ذلك، فالرهان هو على غواية هذا الأفق الثري والفسيح للرواية، أفق الفن، وكجزء من الرهان الأكبر على ما هو قادم بين الرواية والفنون في الإمارات العربية المتحدة كما في سائر البلاد العربية. محمد عبده.. و«بنت المطر» الحضور الغنائي الأكبر في رواية مريم الغفلي «بنت المطر» لمحمد عبده. ومنه أن لطيفة بعد زواجها من العجوز، تستمع الى محمد عبده في الراديو، يشدو بأغنية حركت مواجعها، فأخفتت الصوت حتى لا يضبطها أحد بما هي فيه، واستسلمت لكلمات الأغنية التي سحبتها بعيداً: «يا مسافر للجفا والوصل يبكي عليك وين عهدك بالوفا للخفوق اللي يبكيك لي جناح ولك جناح ولا نطير إلا سوا». وفي مقام آخر من الرواية، يهرع محمد إلى سيف الذي تصدح من راديو سيارته أغنية محمد عبده الوطنية: «الله يا دار زايد كيف محلاها يا ناس حلوة وقلبي مغرم فيها». وإذ يتأمل الصديقان أبوظبي الساحرة، يتنهد محمد عميقاً، مستذكراً لطيفة، ويردد أغنية محمد عبده: «عشاق بالساحل الغربي فليت في بحرك شراعي يا موج هون على قلبي داعيه من شطكم داع». وبعد موت العجوز الذي ابتليت لطيفة بالزواج منه، وبعد زواجها من محمد، يدندن بأغنية محمد عبده: «ولهان بالحيل ولهان خليت وقتي انتظار».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©