الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القناص الذي أدركَ القصيدة..

13 نوفمبر 2014 02:45
الطائر ما تبقى من ريشه لن تعثر عليه أبدا. الطائر الذي أفلت من مخلب الليل وحطَّ على غصن قلبك لم يفرد جناحيه ولم يغنِّ. كنت تركض بين الحارات وعلى الأرصفة والشوارع، بلا وجهة أو سبب حتى ظن الناس أنك المجنون لكنك كنت تخشى أن تهدأ دقات قلبك قليلا تخشى على الدم أن لا يسقي الشجرة وأغصانها. كنت تضم الفوانيس إلى صدرك حتى تغشى الضوء عينيك فلم تبصر وإذا ما تململت من فرط الضم كنت ترى سريان الهزة في الجناحين، وتساقط الثمر على الزجاج المغبش بأنفاسك. ولأنك صدقت أن العاصفة ستسألك عن الطقس قبل المجيء كنت تفكر أن صفعة واحدة في وجه الهواء كفيلة باسترداد فكرة الطيران من ماضي العصافير لكن ما حدث هو العكس تماما: جاء الطوفان جاءت سفن حربية وطائرات جبال شاهقة، وطرق وعرة. لكن المذعور الذي أطل من نافذتك، هو من أطلق تلك الرصاصة الآن الطيور تدور حولك حيارى لا تدخل لا تخرج تنتظر صوتك كي يقف على قدميه. أقول لها..أقول لها: هناك حيث تقفين كل يوم في البقعة ذاتها في الركن المخصص لسيارات الأجرة أحببتك. أقول لها: يوم لم أستطع نطق اسمك كاملا، وكانت يدي تتعرق في يدك وكان الحرف المتبقي منه يتزلج على ثلج ضحكاتك، ولا يسقط أحببتك. أقول لها: حين أوضحت لي بعبارة موجزة أنك لا تحبين العدسات اللاصقة عندما تنظرين إلى حياتك. أحببتك. أقول لها: يوم كنت تعزفين على آلة الكمان في الحفلة ذاتها وكانت خصلات شعرك تضرب وجه قصيدتي وتعود سالمة إلى مكانها أحببتك. أحببتك إلى درجة أنني لم أجرؤ على الاحتفاظ بأنفاسك في القبل كاملة في حديقة منزلي غرست بعضها وأهديت للهواء الذي يعبر الممرات بعضها الآخر. أشبهك يا أبيما كان لي أن أكون كما تريد يا أبي عرفتُ ذلك يوم جلبتَ إلى المنزل غيمة أوشكت على الموت بعدما اصطدم مطرها بطائرة مسرعة. الألم على المقعد حمولة زائدة لا تتسع لها شاحنة أيامك. هو رجيع ينتظر العودة إلى خزينة الله بإشارة من إصبع الملاك الجالس على يمينك يا أبي. عرفت ذلك يوم أزحتَ الغبار عن فكرة النهار في ذهني وغمرت بالمياه فكرة الضجيج التي تأتيني من جهة ما من حياتي. عرفت ذلك يوم أجّلتَ جرحك ولم تلتفت إلى الذباب الذي جاء يطالبك بحصته المعهودة. ولأجلي فقط رميتَ له الطعم كاملا جهة المستقبل كي يذهب وينتظرك هناك. عرفت ذلك يوم دسست تحت وسادتي كتاب «كليلة ودمنة»، وأخذتُ بعدها كل ليلة أفتحه وأستخرج منه: شجرة أو شجرتين أو أكثر حتى امتلأت غرفتي بالحطّابين. وحين نهرتني عن فتحه مرة أخرى تعللت بالبكاء. عرفت ذلك يوم أجلستَ أخي الأكبر على مصطبة قديمة أسفل الدرج وقلت له أن يصطاد الضوء قبل أن يصل إلى السطح ثم أوصيته أن لا ترتجف يداه. عرفت ذلك منذ أن اعتذرت لك الفراشة حتى تكون دليلك إلى الوردة. عرفت ذلك كله. لكني لم أزل أشبهك يا أبي! عندما تحدق ...إلى الصديق الشاعر أحمد الملا ...في اللحظة التي كنت تحدق فيها إلى عدسة الكاميرا في اللحظة ذاتها كنت سأقول لك: لنغير وضعية التصوير كأن تتوسل إلى الشجرة التي من خلفك كي تتبادلا الأدوار: هي تجلس مكانك لتقرأ الشعر، وأنت تقف مكانها على هيئة المصغي إلى جذوره في التربة. كأن تقنعها أيضاً أن تنادي على اسمك لحظة التصوير؛ لأن الصوت هو المسمار الذي تثبت من خلاله الصورة على جدار الذاكرة. في اللحظة ذاتها كنت أريد الهبوط في وديان حياتك أتخيَّر مجموعة من النظرات أنت أودعتها في العيون التي لا يصيبها الهلع من مرأى الذئب. النظرة التي تلتقطها العدسة الآن، لن تعود إلى عينيك فكيف لي أن أجدل الضوء بأصابع مرتعشة إذا عادت اللمعة ثانية واستقرت في واديك؟! قناص القناص هو من يملك يدين ماهرتين في التصويب، وعينين أحدُّ في نظرهما من عيني الصقر إلى فريسته. وأنا لا أملك هذه، ولا تلك. في صغري كنت أسمع إحداهن من اللاتي اشتهرن بالفراسة، وهي من جيراننا المقربين، تقول ?مي، وهي تشير إليَّ من بعيد: ابنك هذا سيصبح قناصا! لم أفهم معنى الكلمة، ولا أمي أرادت الاستفسار منها عن المعنى، فلم تبد أي رد فعل، واكتفت بضحكة كتومة تنم عن الدهشة والحيرة. كبرت وانتظرت أن تتحقق تلك النبوءة، بعدما أدركت ماذا تعنيه الكلمة. لكنني لم أحصل على الإشارات. كنت في بعض الأيام أذهب مع والدي إلى مزرعة جدي، أصنع لي بندقية من خشب، وأتسلق بها جذع نخلة، وأحاول أن أصوب على الهواء، على شيء يتكثف داخلي يشبه القطن المتناثر من شرفة. لكنني أراه مثل يد تلوح لي أن أصوب عليها من بعيد. كبرت ولم أعد أهتم بالموضوع، بل نسيته تماماً. إلى أن بدأت أنزع الأقفال عن أبواب الشعر الذي في داخلي، وكان هدير أمواجه من القوة، أن تحطمت الأبواب، عندها صعدت ربوة عالية ولم تكن في يدي سوى القصيدة، وقلبي وسط اللجة يغرق. القناص الذي بيده القصيدة عرف بعد فوات الأوان أن القصيدة ليست سوى رصاصة الرحمة التي ينبغي أن يطلقها على قلبه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©