الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«حجر الصبر».. من صوت الرواية إلى صدى الشاشة

«حجر الصبر».. من صوت الرواية إلى صدى الشاشة
18 أكتوبر 2012
إبراهيم الملا (أبوظبي) - ماذا يمكن لزوجة عاجزة ووحيدة أن تفعل بزوجها المصاب بطلقة نارية استقرت في رقبته، وجعلته مشلولا وفي شبه غيبوبة، وغير قادر على الحركة والكلام أو إبداء أية ردة فعل تجاه ما يدور حوله ؟ وكيف يمكن لهذه الزوجة المسؤولة عن طفلتيها البريئتين أن تبقي زوجها في منتصف الطريق بين الحياة والموت، وبين الإحساس اليقظ والصمت المطلق، كي يشعرها على الأقل بالأمان وبوجود طيف أو ظل لرجل في بلد مثل أفغانستان المبتلية بالخراب والقتل والفوضى والفقر، وسط حرب مستعرة تكاد لا تنتهي؟. هذه الأسئلة الشائكة والمسوّرة بحالات إنسانية مكبّلة ومتأزمة حد الاختناق، يتناولها الروائي والمخرج الأفغاني المقيم في فرنسا عتيق رحيمي (مواليد 1962) من خلال فيلمه “حجر الصبر” Patience stone المعروض ضمن مسابقة آفاق جديدة في الدورة السادسة لمهرجان أبوظبي السينمائي الدولي. عودة إلى السينما يعود رحيمي للسينما بعد ثماني سنوات من إخراجه لفيلمه الأول المقتبس من روايته: “الأرض والرماد” التي أصدرها في العام 2002 ضمن ثلاث روايات كتبها باللغة الفارسية، قبل أن يصدر في العام 2008 روايته المدهشة: “حجر الصبر” التي كتبها هذه المرة باللغة الفرنسية وحاز من خلالها على جائزة الغونكور التي تعد من أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا، وتناولت روايته التي نقلها إلى الشاشة في العام 2012 بفيلم يحمل العنوان ذاته، واقع المرأة الأفغانية المحاصرة بجحيم المعارك والتسلّط الذكوري والأفكار المتبلّدة والقاسية، وتنسلّ الرواية بشفافية وألم إلى التفاصيل الأنثوية المتوارية بين الشعرية والرعب، والحب والجنون، والقداسة والتهتّك، والكوابيس الرابضة تحت أحلام ناجية تكابد وترفرف فوق أزيز وغبار وصخب حرب طاحنة وعبثية لا تميز بين العدو والحليف، وتستبيح الأرواح البريئة بأبشع صورة ممكنة. وفي سياق مشابه لتجربة المخرجة الإيرانية مرجان سترابي المقيمة في فرنسا والتي قدمت فيلمين مثيرين للجدل هما: “بيرسوبوليس”، و”دجاج بالبرقوق” والتي تعاونت فيهما مع المخرج الفرنسي فنسنت بارونو، فإن عتيق رحيمي استعان في كتابة سيناريو الفيلم بالفرنسي جان كلود كاريير، وبمشاركة طاقم فرنسي مختص بالتصوير والمونتاج والموسيقا وتصميم المناظر السينمائية للفيلم الذي صورت مشاهده بالكامل في المغرب. اعتمد رحيمي في نسج خيوط الرواية والفيلم على حكاية شعبية شفهية متداولة في أفغانستان وإيران وبعض دول الخليج عنوانها: “سنك صبور” بالفارسية أو “حصاة الصبر” كما تلفظ باللهجة المحلية الدارجة في الإمارات، والتي كانت عنوانا لكتاب أصدره قبل سنوات الشاعر والباحث الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني، ضمن مرويات شعبية كثيرة وثّقها وجمعها أثناء لقاءاته مع كبار السن وأثناء ترحاله وتجواله في مناطق وبيئات محلية بعيدة ونائية. وتتلخص حكاية حجر أو حصاة الصبر، في خرافة متناقلة عبر أزمنة بعيدة عن امرأة وحيدة ومعزولة ومحتشدة بالاعترافات والأسرار، لا تجد أمامها غير حصاة كبيرة كي تنفّس وتنفث فيها آلامها وأحلامها وحكايتها ومروياتها الحبيسة والمحظورة التي لا تستطيع أن تحكيها للبشر، حيث تظل الصخرة تستمع وتمتص وتتشبع بكلمات المرأة، حتى تتصدع وتنفجر في لحظة مدوية بعد أن تنتهي المرأة من آخر كلمة كانت حبيسة في صدرها، ما يمثل في النهاية خلاصا للاثنين من قول فائض ومسترسل حد الارتياح، ومن استماع حاضن ومكتمل حد التهشّم. امرأة بلا اسم وفي معالجة إخراجية متصلة ومنفصلة في ذات الوقت من هذه الحكاية الشعبية القديمة، نرى الزوجة الشابة والجميلة التي لا نعرف اسمها طوال زمن الفيلم ـ إمعانا ربما في الإسقاط الجمعي على كل النساء المحاصرات في أفغانستان ـ وهي تعتني بزوجها المستلقي على ظهره بعينين مفتوحتين وحواس غائمة وسط غرفة متواضعة وخاوية سوى من رف يعلوه القرآن، ومساند متناثرة وزجاج مغذي يحتوي على ماء وسكر، معلق كيفما اتفق في الجدار ويخرج منه أنبوب يستقر في فم الزوج، كحيلة مؤقتة وبدائية كي يبقى الرجل على قيد الحياة ولو إلى حين. تقوم بدوره المرأة الحائرة الفنانة الإيرانية المعروفة غولشيفتي فرحاتي، والتي تماهت كليا مع الدور لدرجة أنها بذلت جهدا نفسيا شاقا للتخلص من آثار وأصداء الشخصية التي تغلغلت فيها ـ كما أشارت لنا بعد انتهاء عرض الفيلم ـ وكانت آثار هذا التقمص بارزة في دورها المتقن والمستفيض لنقل وترجمة التوهان العاطفي والجنون الخفي والهذيان الحارق، والمشاعر المرتبكة المتلاطمة فيها. تبدأ اللقطة الأولي في الفيلم بكادر أفقي أنيق يعبر برفق وأناة على ستارة مليئة برسوم لطيور محلقة، مع موسيقا تجمع بين الشجن والبهجة، ولكن سرعان ما تنسحب هذه البهجة في اللقطة التالية عندما نرى الزوجة المنكسرة والمذعورة وهي تقلب السبحة بين يديها، وتمتم بأدعية خافتة حتى لا تفقد زوجها المقاتل في إحدى الفرق الجهادية الأفغانية، والذي تحول الآن إلى كائن متخشّب ومحروم من التعبير والمشاركة، وكأنه حجر أصم يشبه: “حصاة الصبر” في الرواية الرمزية، ومن هنا أيضا تنطلق الشعرية المجروحة في الحوارات، واللعبة المدوخة للسيناريو عندما تبدأ الزوجة في بث مروياتها الجريئة المشوبة بالخجل والتردد، لتعبّر عن مشاعرها المدفونة منذ عشر سنوات، عندما ارتبطت بزوجها القوي والشرس والتي لم تستطع طوال هذه الفترة أن تتواصل معه ذهنيا وعاطفيا بشكل سوي، لأنها كانت مجرد متاع جسدي وشهوة عابرة لرجل مشغول بمعاركه ونضالاته في ساحة الحرب الأبدية التي لا يقطعها أفق لهدنة أو سلام. وعندما تنتقل الكاميرا في المشاهد التالية إلى خارج المنزل المتهاوي الذي يجمع المرأة وطفلتيها وزوجها المشلول، نكتشف حجم الدمار المحيط بهذا الحي العشوائي المتهالك الذي لا يمكن أن يفرز سوى أشباه بشر ساقتهم أقدارهم إلى الجهنم الأرضي، وبامتياز لا يحسدون عليه، فالميليشيات المقاتلة التي لم تجد عدوا حقيقيا تقاتله أصبحت تبحث عن الخونة الذي هربوا من المواجهات الأولى والمبكرة مع العدو، ويصبح هذا الحي رغم خرائبه المتراكمة، هو خط مواجهة جديد، وإلى ساحة حرب وتصفيات وحشية وعمياء، ورغم لجوء المرأة وأطفالها بصحبة جيرانهم إلى أقبية وملاجئ أرضية بدائية، إلا خطأ بسيط في تدبيرات التخفي هذه قد يؤدي إلى مجزرة بشعة، وهو ما يحدث فعلا مع جيران المرأة الذين تحولوا بعد خروجهم إلى جثث مسلوخة وغارقة في دمائها. تقتنص المرأة لحظات الهدنة السريعة والخاطفة كي تعود للاعتناء بزوجها، وسرد حكاياتها الكثيرة والمتشعبة حول طفولتها وعنف والدها والتي يجسدها الفيلم من خلال مشاهد (فلاش باك) متناوبة ومكثفة تستحضر الحرمان الكبير من الحب والحنان والألفة التي لم تناله المرأة في طفولتها، ولم تظفر به أيضا مع زوج صارم وعنيف، اختارها كبضاعة مكملة لعقد النسيج الاجتماعي المتوارث، والذي كان مجرد ديكور خارجي يخفي وراءه الكثير من أشكال الاضطهاد والاستبداد والحرمان والخيانة، وهو ما يتكشف تدريجيا من اعترافات المرأة لحجر الصبر البشري المستلقي أمامها، والذي هجره أخوانه وتركته أسرته لمصيره الغامض والمحفوف بالمخاطر، ومع مداهمة مجموعة من المقاتلين الشرسين للمنزل، تخفي المرأة زوجها وراء ستار عازل، ويتعاطف معها أحد المقاتلين ويزورها في مرات عديدة كي ينفس هو الآخر عن شهواته الجسدية المكبوتة، بعد أن تخبره بأنها أرملة مومس تبيع جسدها كي تغطي تكاليف طفلتيها اليتيمتين. وفي المشهد الأخير للفيلم تبوح المرأة لزوجها الصامت بسر خطير حول اضطرارها لخيانته بعد سنتين من زواجهما عندما لم تنجب منه مخافة أن تتهم بأنها عاقر، بينما كان زوجها هو الذي يعاني من مشكلة العقم، فعدم إنجابها سيترتب عليه كارثة اجتماعية حقيقية لأنها ستكون منبوذة، ولن يتزوجها أحد بعد ذلك وسط مناخ شكوكي وإقصائي على الدوام في مجتمع تقليدي لا يرحم ولا يتفهم ظروف المطلقات، ولذلك ـ وكما تبوح لزوجها ـ استعانت بخالتها التي أشارت عليها بحل غريب ولكنه أخرجها من مأزقها الكبير، وتمثل الحل في مشاركتها النوم مع رجل معصوب العينين في غرفة معتمة تماما بحيث لا تتعرف هي أيضا على ملامحه، وكي يكون هذا الرجل المجهول هو وسيلة حملها والحفاظ على حياتها العائلية من التشتت والتيه في مجهول الإرث الاجتماعي الذي ينطوي على مخاطر عظيمة. ومع لحظة انتهاءها من هذا الاعتراف المدوي، تدب الحياة في جسد الزوج، وينقض عليها محاولا خنقها، بينما تعالجه هي بطعنة من خنجر تخفيه دائما وراء ظهرها، في مشهد تعبيري ودراماتيكي فاجع، يدلل على أن حجر الصبر انفجر وتهشّم أخيرا بعد امتص كل أسرار وعذابات وقصص المرأة الأفغانية المقموعة وراء ستار صلب وأسود من المواريث البالية والمغلقة على مكبوتاتها ومراراتها. والتي تشير إليها عبارة مؤثرة ترد في الفيلم و تبوح بها الزوجة من جانب واحد عندما تقول: “الذين لا يتقنون الحب، هم الذين يصنعون الحروب”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©