الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الأعراف».. شعرية الصورة ترصد ثنائيات الحياة

«الأعراف».. شعرية الصورة ترصد ثنائيات الحياة
18 أكتوبر 2012
سلمان كاصد (أبوظبي) - في البدء لا بد لنا أن نكون في الجانب الأكثر وضوحاً في عملية التلقي، وأن نكشف عما يمتعنا حقاً في مشاهدة الفيلم السينمائي، وأعتقد أن ما هو يومي، بسيط، غير متداخل ومتشابك، هو ما يقربني شخصياً للنص الإبداعي، إذ أجد فيه براعة الصانع وحكمة الصنعة. أقصد باليومي أن تكون الحكاية مألوفة، تجدها في كل بلد وكل مجتمع، غير أن ما يجعلها غير مألوفة هو النص الإبداعي، وأقصد هنا السينما، وهذا هو التعريف الذي أريد به أن يتحول المهمل والعادي واليومي إلى استثنائي في العمل الإبداعي. والجانب الثاني والمهم أن السينما هي خطاب بصري لجمهور مفترض، لا تتحقق واقعية هذا الجمهور إلا حين يكون في تواصل مباشرة مع الفيلم خلال العرض، ومن هذا المنطلق يبدو ذلك الخطاب ناجحاً أم لا. وبعد كل ذلك أجد أن تمثل الخطاب البصري هذا روح الرواية ذاتها والتي تؤجل عادة الكشف إلى خواتيمها سوف يكسب ذلك الخطاب نبضاً حيّاً يأسر المتلقي ويشده إلى نهايته اللامتوقعة. كل رواية هي فيلم وبهذا الاتجاه نجد العناصر الأساسية الشكلية للعمل الروائي متجلية تماماً في النظم الشكلية للفيلم، إذ من المفترض أن يحتوي الفيلم على البؤر الثلاث، وهي البداية والذروة والخاتمة، كل واحدة منها تنبع من الأخرى في تصاعد درامي محسوس، وكأننا أمام فعل أرسطي ينطبق على كافة الفنون السردية والبصرية فيما بعد، ناهيك عن تمثلات الرمز وتشكلاته وتعدده في الفيلم بشكل واضح، والذي يحتاج حقاً إلى جهد ناقد ليكتشف تلك الرموز. حسناً.. لنقرأ هذه الطروحات جميعها في فيلم أرى أنه الأكثر شعرية في عروض مهرجان أبوظبي السينمائي بدورته السادسة مع ما يجاوره من أفلام تمتلك ذات الخصائص، وهي تمتع الفيلم السينمائي بخصائص شعريته البصرية والسردية، بالإضافة إلى شعرية جمالية متحققة في الصورة وحركة الكاميرا. وأقصد بالفيلمين هما “أعراف” أو كما جاء في المسمى الرسمي لمطبوعة المهرجان “أراف” أو “ما بين بين” وهو خطأ ترجمي أشار إليه الناقد عدنان حسين حين أحال التسمية “أعراف” إلى النص القرآني بسورة “الأعراف” وهي المنطقة بين الجنة والنار. أما الفيلم الثاني فهو “كل يوم” للمخرج البريطاني مايكل وينتربوتوم الذي أود الكتابة عنه فيما بعد كونه النسخة القريبة حقاً من أعراف من حيث تمثل الملامح الشكلية التي لها علاقة بالمضمون. حيرة الاختيار فيلم “أعراف” وهو من اخراج التركية ييشيم أوسطا أوغلو ومن تمثيل أوز كان دينيز ونسليهان أتاجول وباريس هاسيمان وايلجاز كوكاتووك ونهال يالجين قدم في المهرجان بوصفه العرض الأول في الشرق الأوسط. منذ البدء هي حكاية زهرة وأولجن... ولكن ماذا حصل فيها؟ زهرة واولجن شابان من قرية تركية منعزلة يعملان نادلين في مطعم على طريق الأوتوستراد، حيث تعبر الشاحنات والسائقون الغريبون والعابرون الذاهبون إلى مدن بعيدة. بين هذا القريب “أولجن” ابن القرية وذاك البعيد “ماهور” سائق شاحنة الحمولة تقع “زهرة” في حيرة الاختيار، وكلاهما يعيش رؤى متناقضة مع الآخر، حيث يحلم “أولجن” المهووس بالمسابقات التلفزيونية المربحة أن يفوز باحداها، ويمتلك بيتاً وسيارة وزوجة هي “زهرة”، بينما يحلم “ماهور” المسافر بشاحنته الكبيرة أن يستحوذ على “زهرة” وهو المسافر دوماً والمتنقل بين المدن أبداً. بين حلم السفر وحلم الاستقرار تعيش زهرة، ولكنها كأي روح جامحة لا تريد أن تبقى زوجة لفتى من قريتها التي تعيش برداً وجوعاً، وتفضل أن تنطلق بعيداً إلى عالم أكثر اتساعاً مع ماهور سائق الشاحنة. يمتلك أولجن الجذور ويفقد “ماهور” الأصول وخلال هذه الثنائية يتحرك الفيلم، حيث يمتلك أولجن الكلام ويفقد “ماهور” البوح، وكأننا أمام ثنائيات عدة، وهي بامكانها أن تولد ثنائيات عديدة أخرى، أهمها تفجر فحولة “ماهور” وخفوتها عند “اولجن” الذي لم يفصح عنها، هذا بالإضافة إلى ثنائية الغدر “ماهور” والوفاء “أولجن” وثنائية الحرية “لماهور” والسجن “لأولجن”، وربما أقول إن هناك ثنائية أكثر عمقاً وهي “الحياة” أولجن والموت “ماهور”. الثنائيات المتعددة تلك الثنائيات المتعددة تشكلت جميعها في هذا الفيلم الذي امتد لما يقرب من 124 دقيقة قدمت فيه المخرجة ييشيم أوسطا أوغلو كل إمكانياتها الشعرية في خطابها البصري الناجح بامتياز. قدمت المخرجة شخصيات ذات بنى غير معقدة، تتعامل مع العالم بوضوح وببساطة تفجر الرغبات. كان “ماهور” سائق الشاحنة، الشخصية العابرة دائماً يمتلك رجولة وجرأة استطاع ودون أن ينطق حرفاً واحداً أن يتملك “زهرة” في ليلة عرس أقيم في المدينة، حيث دعي من قبل صديقتها، ورقص ليلتها مع زهرة، هذا بالإضافة إلى ما قدمه “أولجن” الذي لم يستطع أن يستحوذ على “زهرة.. البجعة كما في رقصة بحيرة البجع”. ينسحب أولجن وتفقد زهرة عذريتها في مشهد تصويري يتكرر لأكثر من مرة ولأكثر من لقاء بين “زهرة” و”ماهور”، حيث لم تقترب كاميرا ييشيم اوسطا أوغلو من جسدي هاتين الشخصيتين، بل ظلت مسلطة على وجهيهما وبخاصة وجه “زهرة” الذي كان ملائكياً بما فيه من مسحة هادئة وجميلة وشاعرية. استخدمت المخرجة في تناولاتها لشخصية “زهرة” كلوزات مستمرة وبكثرة محسوسة” بدت هي الأداة المهمة التي لعبت عليها المخرجة في سبيل التأثير بالمتلقي. جمالية سرية تبدو الحكاية بسيطة وواقعية ومألوفة وليس فيها أي جديد على مستوى الصدمة، غير أن المخرجة استطاعت أن تقدم غرائبية السرد والتأملات البصرية التي أجبرت الكاميرا على التقاطها فشع الحدث بجمالية سرية لا تعرف كنهها سوى أنها نمط يقترب من القول الشعري، وهو يحكي قصة فتاة اسمها زهرة، اغتصبها رجل عابر اسمه ماهور وحين علم بحملها غادر بشاحنته على الطريق السريع. تضاءلت - في منظر بصري - تلك الشاحنة فتحولت إلى نقطة متأرجحة في ضباب الشتاء واختفت بشكل تدريجي وهي نقطة “ارصادية” و”رمزية” في الآن نفسه، تشير إلى اختفاء الرجل وهروبه. ما بين “اختفاء” الرجل سائق الشاحنة ماهور و”ظهور” الطفل ابن ماهور في بطن زهرة تتولد ثنائية جديدة تحفز الفيلم أو الحكاية على الاستمرار إلى نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات، حكاية بصرية لعبت على عنصر “التأجيل” لإبقاء المتلقي مشدوداً لشعرية الفيلم حتى في واقعيته المؤلمة. يبدو أن هُناك تشاكلاً آخر يتجلى في ثنائية أخرى وهي البراءة المفقودة والتشويه الحاصل، إذ حالما تعلم زهرة بحملها وبهروب سائق الشاحنة الذي تكلمت رجولته فقط ولم ينبس خلال علاقتها معه بكلمة واحدة فإنها تخبر “أولجن” بحملها وينتفض الاخير لرجولته التي بدأت تظهر فجأة محتجاً على سقوط “زهرة” المريع. صمت الكاميرا تترك أم أولجن بيتها احتجاجاً على الأب السكير، ويأخذ الغضب بعقل أولجن احتجاجاً على روح الغدر الأنثوي فيحرق بيتهم ويدخل السجن، وهنا تختار ييشيم المخرجة نهاية لشخصية “أولجن” بعد أن غيبت شخصية “ماهور” العابر السبيل، وتظل لديها شخصية “زهرة” في محنتها التي تختار لها مصير “الاسقاط” وتقودها إلى نهايات لحظة الاسقاط الأنثوي في “مراحيض” مستشفى القرية في مشهد سينمائي لم يستطع المتلقون أن يواصلوا فيه النظر حين سقط الطفل ذو الثلاثة أشهر على الأرضية، بينما موجة من دماء الولادة غزيرة عند أقدامها التي وقع عندها جسد الطفل الميت، وهنا تتوقف كاميرا المخرجة ييشيم عند وجه “زهرة” في لقطة مقربة جداً، امتلأت الشاشة بها لتفصح عن لحظة سكون هائلة بانتهاء الحكاية. وتلف زهرة جثة الوليد الميت بورق الحمام بحيوانية مرعبة لتلقيه عبر الشباك المفتوح إلى الخارج. كان أمام المخرجة أو لنقل كاتب النص الروائي حلان أو نهايتان هما النهاية المفتوحة والأخرى المغلقة، وعند لحظة إجهاض زهرة يفزع الجمهور من صمت الكاميرا والموسيقى ودهشة زهرة لما سقط منها في تأمل لروح الخلق، يختتم الفيلم نهايته مختاراً النص السينمائي المفتوح، غير أن المخرجة لم ترد ذلك، ولم تتوخ الصدمة “الألم” و”اللذة” الأرسطيان” نسبة إلى ألم ولذة أرسطو” بل وجدناها تتوجه نحو النهاية المغلقة التي لا تولد لذة و”ألماً” ولهذا السبب تتوجه إلى نهاية أخرى للحكاية، حيث تخاطب “زهرة” في رسالة تكتبها إلى “أولجن” وهو في السجن تعتذر له عما فعلته وخيانتها له وتريد العودة إليه، ويوافق “أولجن” لتنتهي الحكاية بزوج أولجن من زهرة التي أحبها وتقام مراسيم الزواج في السجن، هذه النهاية شرقية بامتياز وتركية بخاصة ولا تمتلك شعريتها، بل نجد فيها أن المخرجة قد أعادت النص السينمائي من سمته الشعرية الطافحة إلى واقعية فجّة. روح الصدمة أنا هنا لا أتحدث عن المفهوم الساذج للأمل في الحياة واشراق المستقبل والحنين إلى السعادة، كما جاء في الخلاصة المقدمة عن الفيلم إذ يبدو هذا الفهم لا يمت إلى البنى التركيبية للحكاية بصلة، حيث تمتلك الحكاية بعدها الشعري وتحولاتها الإنسانية والتي من المفترض أن تبقى على روح الصدمة في ذهن الملتقي فتختار المخرجة تلك النهاية المفجعة عند لحظ السكون التي تجلت بها كل روح الفيلم وعناصره ومكوناته. اختصرت المخرجة ييشيم مفاصل كثيرة من حوار السيناريو، وصار الشريط السينمائي هو المتكلم، إذ بدت الصورة أكثر تعبيراً عن اللغة، وكأنها اخترعت لغتها الخاصة الصامتة، حتى أنها قدمت شخصية “ماهور” سائق الشاحنة بفعل درامي لم يتكلم فيه مطلقاً، وكأن الصورة عبرت عن مشاعره اتجاه “زهرة”، ويذكر في ذلك برواية “صمت البحر” لفيركور، حيث أقام الضابط الألماني علاقة حب مع الفتاة الفرنسية دون أي حوار، أنه صمت بحر عيونهما. قدمت المخرجة ييشيم هذا العمل “الأعراف” بعد جهد في ميدان السينما بعد فيلمها “الأثر” 1994، و”رحلة إلى الشمس” 1999 وبعدهما فيلم “صندوق بندورا” بدعم مهرجان أبوظبي السينمائي 2009، وقد حصدت العديد من الجوائز في مهرجان سان سباستيان السينمائي. إنها مخرجة تستحق الاحترام حقاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©