السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحلةٌ لإنتاج المعرفة الإنسانيّة في الحضارات الأولى

رحلةٌ لإنتاج المعرفة الإنسانيّة في الحضارات الأولى
17 مارس 2009 02:50
للكتاب حكاية تاريخية تمتد جذورها مع فجر الحضارات الأولى، حيث ساهموا في إرساء دعائم حضارات دول كانت لها صولات وجولات في صفحات التاريخ، ودول سادت ثم بادت· ولعلّ أولى الحضارات الإنسانية في العالم نجدها قد انطلقت من أرض الرافدين في الحضارة العراقية القديمة، حيث نستعرض ما أبدعه أصحاب تلكم الحضارات الأولى للإنسانية جمعاء من معارف وعلوم ونتاج ثقافي وفكري من الكتب والمكتبات وغيرها· لعلّ أولى الحضارات التي نبدأ معها حكاية رحلة الكتاب هم ''السومريون'' الذين أرسوا أقدم الحضارات المتقدمة في بلاد الرافدين في العراق القديم في سفر الإنسانية والذين عاشوا في النصف الثاني للألف الخامسة قبل الميلاد· وخلال القرون التي تلت الهجرة السومرية نمت الدولة وتطورت في الفنون والعمارة والعلوم· ويعتبر الحاكم السومري الملك إيتانا (Etana) ملك مدينة كش أوّل مَن وحد بلاد سومر منذ عام 1800ق·م· وجاء في الموسوعة الحرة: أن ظهر بعده (ميسكياجاشر) ملك مدينة أوروك ''الوركاء'' جنوب مدينة كش، وقام بالسيطرة على منطقة تمتد من ساحل سورية على البحر الأبيض المتوسط حتى جبال زاجروس· وخلفه ابنه إنمركار عام 2750 ق·م· واستولى على مدينة أراتا بشمال شرق بلاد الرافدين· وفي عام 2700 ق·م· قام إنمبارجاسي Enmebaragesi ملك دولة إتانا بكش بالسيطرة على بلاد سومر· وانتصر على دولة عيلام Elam، وأقام معبدا للإله إنليل بمدينة نيبور التي أصبحت المركز الديني والحضاري لسومر· وفي سنة 2670 ق·م· انتهى حكم إتانا بكش بعد سقوطه على يدّ ميزنباد ملك مدينة أور التي جعلها عاصمة بلاد سومر· لكن بعد موته بسطت مدينة أوروك نفوذها السياسي عليها بواسطة جلجاماش (2700 ق·م· ـ 2650 ق·م·) الذي دارت حوله الملحمة العراقية الشهيرة جلجامش· وقد أشاد السومريون في العراق حضارة متقدمة بكلّ نواحي الحياة، ومنها تشربت كلّ الحضارات الكبرى التي تطورت في الشرق الأوسط· إلاّ أنّ السومريين سُرعان ما اختفوا من مسرح التاريخ بعد أن فقدوا استقلالهم السياسي أواخر الألف الثالثة قبل الميلاد، وتلاهم من بعدهم الأكاديون والبابليون والآشوريون في العراق القديم··· وقد أظهرت التنقيبات الأثرية في العراق منذ الماضي عن وجود المدن السومرية، وعن أقنية الريّ، وعن الهياكل الضخمة، وعن آلاف الرُّقم الطينية التي نُقشت عليها الكتابة المسمارية أو الكتابة التصويرية ـ الصورية ـ وأصبحنا منذ تلكم الاكتشافات المُععلنة المدروسة نتبين مدى عمق وأصالة ودور السومريين في رفد الحضارة بكلّ جديد ومُبتكر، وعلى رأسها كما يعترف علماء الآثار الكتابة والكِتاب والمكتبات عندهم· ويحدثنا د· الكسندر ستيبتشفيتش في''تاريخ الكتاب'' عن السومريين ودورهم في إرساء أبجدية الكتابة والكتب والمكتبات التي اشتهرت عندهم، فيقول بأنّ: السومريين هم الذين قاموا أولاً باستخدام الكتابة للتعبير عن الفكر، مع أنّ هذه الفرضية تعتبر الأكثر شيوعاً· وإنّ أقدم الشواهد على الكتابة السومرية في العراق هي تلك الرُّقُم الطينية الصغيرة التي نُقِشَت عليها الكتابة التصويرية والتي تعود إلى منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد· وربما يكون السومريون قد بدأوا بالكتابة قبل هذا التاريخ على مواد أخرى ذات تركيبة عضوية، وأن تكون هذه المواد قد تحللت وتلاشت للأبد· مدرسة وورشة للكتابة لقد تمّ العثور على مئات الرُّقُم الطينية التي نُقِشَت عليها الكتابة التصويرية وهي الأقدم التي طورها السومريون في مدينة أوروك ـ الوركاء ـ جنوب العراق اليوم، وهي ترجع إلى منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد· وفي ذلك الوقت كان أهل سومر يستعملون حوالى 2000 إشارة تصويرية، إلاّ أنّ هذا العدد أخذ يقلّ تدريجياً نتيجة لتزايد ارتباط الإشارات بالأصوات حتى وصل عددها إلى 500 ـ 600 إشارة وذلك خلال الألف الثانية قبل الميلاد· وبعد ذلك بفترة تغير شكل الإشارات السومرية في حدِّ ذاته على مرّ القرون المتعاقبة، فالأشكال الأساسية ـ المرحلة التصويرية ـ ستنتظم في إشارات لا تشبه كثيراً الأصول الأولى التي تطورت منها· وكان ممّا ساهم في التطور الموروفولوجي لتلك الإشارات الطريقة الجديدة لكتابتها على الطين الطريّ بواسطة أقلام رفيعة من القصب أو الخشب والتي كانت تتحرك على الطين إشارات طويلة على هيئة مُثلث تشبه المسامير، ومن هنا جاءت تسمية هذه الكتابة أيضاً ''الكتابة المسمارية''· وقد نجح أهل سومر في تطوير هذه الكتابة إلى حدّ أنّهم استطاعوا أن يُدونوا بها أدقّ المفاهيم التجريدية وأرقّ المشاعر الإنسانية· وكان السومريون يحتفظون بالرُّقُم الطينية في أماكن خاصة داخل المعابد أو القصور الملكية أو في المدارس· وقد تمّ العثور على بقايا هذه المكتبات أو مراكز الوثائق في المدن السومرية الكبيرة كلكش وأوروك ونيبور··· وكشف عالم الآثار الأميركي س· ن· كرامر عن أحد النصوص المدونة على رقيم طيني محفوظ في المتحف الجامعي في فيلادلفيا ـ ولاية بنسلفانيا الأمريكية ـ عبارة عن فهرس لإحدى المكتبات، يعود تاريخ هذا الرقم الطيني إلى حوالى سنة 2000 قبل الميلاد، الذي عُثِرَ عليه في بقايا مدينة نيبور، المركز الديني والثقافي للسومريين حيث اكتشف أيضاً الكثير من الرُّقُم الطينية بالإضافة إلى ورشة للكتابة ومدرسة بحالة جيدة· ووجد على الوجه الأمامي والخلفي للرقيم الطيني المُكتشف سجلاً لأثنين وستين كتاباً في موضوعات مختلفة، وأنّ الكتب الثلاثة عشر الأخيرة تنتمي إلى مجموعة ''الحكمة''· الكتابة عند البابليين بابل هي عاصمة المملكة البابلية لإمبراطوريتين بابليتين، وكان السومريون أقدم سكان بلاد بابل في العراق القديم· وقد ورد ذكر بابل في القرآن الكريم ''وما أنزل على المَلكينِ ببابلَ هارُوتَ ومارُوتَ''· وذكرت الموسوعة الحرة أنّ المدينة كانت مركزًا دينيًّا وتجارياً لبلاد بابل· وتعني كلمة ''بابل'' في اللغة الأكادية ''باب الإله''، وسماها الأقدمون بعدة أسماء منها ''بابلونيا''، أرض بابل ما بين النهرين وبلاد الرافدين، وصارت بابل بعد سقوط سومر قاعدة إمبراطورية بابل، وقد أنشأها الملك حمورابي حوالي 2100 ق·م· التي امتدت من الخليج العربيّ جنوبًا إلي نهر دجلة شمالاً، وقد دام حكم الملك حمورابي 43 عاماً، حيث ازدهرت فيها الحضارات البابلية والذي يُعدّ عصره العصر الذهبي للبلاد العراقية· البابليون أحباء الكتابة لقد وهب البابليون عن السومريين حُبّ الكتابة، بل إنّ الأساتذة البابليين قد تفوقوا على السومريين· ففي عصر الازدهار الكبير، خاصة خلال عهد الملك حمورابي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، توصل البابليون إلى إنتاج كتابي ضخم ممّا دفع عالِم الآثار الألماني ر· غولدوى، الذي قام بعملية التنقيب في العاصمة بابل، إلى أن يطلق على البابليين ''أحباء الكتابة'' وفي الواقع أنّ عدد الرُّقُم الطينية البابلية التي تمّ العثور عليها فيها حتّى الآن يتجاوز 600 ألف رُقٌم تتضمن مختلف الموضوعات· وتشير تلك اللُّقى الآثارية المُكتشفة في العاصمة البابلية إلى أنّ أهل بابل كانوا يُدونون وينسخون الرُّقُم في ورشٍ خاصة ويحفظونها في المكتبات أو في مراكز الوثائق والخزائن الخاصة التي كانت تنتشر في المعابد وفي قصور الحُكّام· وتمّ اكتشاف مكتبات من هذا النوع تحتوي كلّ واحدة منها على عشرات الألوف من الرُّقم الطينية، في مدن كيش وسبار وفي بقية مراكز الثقافة في بابل· مكتبة أيبلا المركزية استعمل أهل بابل الكتابة المسمارية والرُّقم الطينية، كما استعملتها شعوب أخرى في بلاد الرافدين في العراق وفي البلدان المجاورة له، وتمكن بعض هذه الشعوب من إنجاز كتابي ضخم وتنظيم جيد للمكتبات فيها وفق أحدث الطُرق في الحفظ والتبويب والفهرسة· وحول دور وأهمية المكتبة المركزية في ايبلا ذكر الكسندر ستيبتشفيتش بأنّه قد تم اكتشافها في تل مردوخ، الذي يقع على بعد 55 كم في جنوب غرب مدينة حلب السورية، حيث كانت تقوم في الأزمنة القديمة القوية والغنية ايبلا، وففي عام 1947م كشفت الحفريات الأثرية التي كان يقوم بها منذ العام 1964م خبراء من جامعة روما، عن مكتبة أو مركز للوثائق في حالة جيدة، بحيث يمكن القول إنّ هذه أقدم مكتبة تمّ اكتشافها حتى الآن في الشرق الأوسط وخلال الأبحاث الأركيولوجية الكثيفة تمّ اكتشاف بقايا القصر الملكي الكبير الذي كان يحتوي على قسمين خاصين بالكتب، ومن هنا أخرج العلماء 17 ألف رُقم طيني مدوّنة بالحروف المسمارية ولكن في اللغة المحلية، أي في اللغة الأيبلية· وتشير المراجع التاريخية إلى أنّ هذا القصر الملكي قد تهدم العام 2250 قبل الميلاد نتيجة للحريق الذي شبّ خلال هجوم الملك الأكدي نرام سين· ونتيجة لهذا الحريق فقد التهمت ألسنة النيران الرفوف الخشبية التي كانت تحمل الرُّقُم الطينية، ممّا سبب تساقط هذه الرُّقُم فوق بعضها البعض وهذا الحدث قد ساعد علماء الآثار على إعادة تصور كيفية توزع هذه الرُّقُم في ذلك العهد· إذ اتضح لهم بأنّ هذه الرُّقُم الطينية ـ محتويات المكتبة ـ كانت مُرتبة الواحد وراء الآخر بحيث كان من الإمكان تصفحها، كما نتصفح اليوم البطاقات المُفهرسة في أية مكتبة، أما بالنسبة للرُّقُم الطينية الكبيرة، التي كانت تختصّ وتتعلق بشؤون الإدارة والدولة، فقد كانت تُسند على الجدار في الأرضيّة· واشتملت الرُّقُم الطينية على سجلات مختلفة لحُكّام ايبلا، ورسائل تاريخية وأناشيد وأعمال أدبية بالإَضافة إلى عدد كبير من المعاجم الأيبلية ـ السومرية والحكايات الميثولوجية والأمثال، كما عُثِرَ من هذه النصوص على أكثر من نسخة واحدة! كتب أوغاريت في الشام كانت مدينة أوغاريت تتقاطع الطرق التجارية والمؤثرات الحضارية للعالم في الشرق الأوسط قديماً· فقد أوجد التجار والدبلوماسيون والكهنة وأصحاب الغايات من مصر والحيثيين والبابليين والآشوريين والقبارصة تجمعاً شرقياً وحضوراً معروفاً في شوارع هذه المدينة· وفضلاً عن تلك العلاقات فقد كانت أوغاريت تتبادل الرأي ومعرفة كلّ ما يحصل في البلدان الأخرى، ممّا كان يخلق فيها شرطاً مثالياً للمركز المتواصل والخلاّق الذي تبرز فيه الأفكار الجديدة والذي يضمن لنفسه الاستمرارية والتواصل الثقافي والفكري مع الآخرين· وعثر العلماء الفرنسيون على كنز نفيس العام 1939 برئاسة ك· شافير، وبشكل واسع ومنظم في رأس شمرا· ومن بين الأشياء التي اكتشفوها في هذا الموقع الرُّقم الطينية الكثيرة التي نُقشت عليها الحروف المسمارية للغة مجهولة حتى ذلك الحين ـ اللغة الأوغاريتية ـ وبالإضافة رُقم كثيرة بلغات تلك الشعوب التي كان أهل أوغاريت يقيمون معهم صلات تجارية ودبلوماسية، وعُرِفَ فيما بعد بأنّ ما تمّ العثور عليه في موقع شمرا إنّما هو ألواح ورُقم تتضمن نصوصاً أدبية وقانونية ومعرفية ودينية· وقد استدل المُنقبون الآثاريون بأنّ تلك الألواح والرُّقم لا يمكن أن تُنجز إلاّ بتوفر ورش للكتابة ومدارس للكُتّاب ومكتبات لحفظها، حيث اكتشفت البعثة مكتبة وورشة للكتابة في البناء ذاته، ومن خلال الكتابات الجدرانية اتضح لديهم أنّ البناء كان مقراً مخصصاً لسكن ومكاتب رئيس الكهنة في أوغاريت· وكان هذا الرئيس يحتفظ في مكتبته بكتب دينية وثقافية، نظراً للمنصب الرفيع الذي يحتله، كما عثروا على معاجم ورسائل غير عادية بعنوان ''معالجة الحصان المريض''! أما في العام 1959م· فاكتشفت في أوغاريت مكتبة خاصة أخرى، مُوزعة على قسمين، ووجد الآثاريون فيها معاجم كثيرة ونصوصاً فلكية وأدبية، ومن بين هذه كان هناك مقطع للحكايات السومرية ـ البابلية الشائعة عن كلكامش· مكتبة الملك آشور بانيبال بعد توالي السنين وتطور الحياة، تطورت أوسع وأهم مكتبة في بلاد الشرق الأوسط القديم، تلك المكتبة الضخمة الشهيرة التي أسسها بعناية فائقة الملك الآشوري آشور بانيبال التي تولى الحُكم عام 669 ـ 627 قبل الميلاد· أما حكاية هذه المكتبة الآشورية الملكية الضخمة، فقد عُثر عليها مُصادفة في بداية التنقيبات الأثرية في العراق، فخلال العام 1845 ـ 1851م كان الدبلوماسي الإنجليزي الشاب أ· هـ· لايرد كونجيك بالقرب من مدينة نينوى ـ الموصل شمال العراق ـ حيث تمّ اكتشاف العاصمة الآشورية نينوى· وقد أكتشف لايرد البلاط الملكي للملك الآشوري سنحاريب (705 ـ 681 قبل الميلاد)، ووجد ما سمّاه ''غرفة السجلات''· وقد تابع عمله بعد ذلك هـ· راسم خلال الأعوام 1852 ـ 1854م، وفي الأعوام 1877 ـ 1881م، الذي اكتشف بقايا قصر الملك آشور بانيبال ومكتبته الضخمة التي تحتوي على أكثر من 20000 رقم طيني! لقد أبانت تلك المكتبة بأنّ الملك الآشوري آشور بانيبال قد هيأ فريقاً كبيراً من الكُتّاب الذين كلفهم بأمر مَلَكي بأن ينسخ عدّة مرّات كل نصٍّ قديم يتمّ الحصول عليه· وقد كان الكُـتّاب يسجلون بكلّ فخرٍ أصل وقِدَم الأصلي: ''نصّ منسوخ من بلاد آشور التي هي مصدر النصّ الأصلي''، أو ''حسب أحد الرُّقم من بابل''··· وهكذا إنّ هذه الإشارات وغيرها تكشف عن كبير الجهد والتنظيم الذي تمّ بها نسخ النصوص القديمة لمكتبة آشور بانيبال· وبالإضافة إلى هذا فقد تمّ ببساطة نقل الكثير من الرُّقم من المدن الأخرى للإمبراطورية الآشورية إلى هذه المكتبة في نينوى بالعراق، حيث نُقلت مكتبة كاملة من مدينة كالح إلى نينوى! ثم يذكر بأنّ الملك آشور بانيبال الذي كان يحبّ الثقافة، فإنّه كان يهتم ويشرف أيضاً بنفسه على أن يتمّ نسخ كلّ الرُّقم القديمة التي يمكن العثور عليها في أرجاء إمبراطوريته أو نقلها إلى مكتبته، ففي إحدى رسائله إلى أحد المسؤولين في مدينة بابل تجده يأمره بقوله إليه: ''ابحثوا في الرُّقم القيمة التي لا يوجد منها نسخ في بلاد آشور وأرسلوها لي· لقد كتبت الآن إلى رئيس الهيكل ومحافظ المدينة في بورسيبا عنك، وعليك الآن يا شادان أن تحفظ الرُّقم في مقرك بحيث لا يتجرأ أحد على أن يسرق منها شيئاً· وحيثما تجد أيّ رُقم أو أيّ نصٍّ يمكن أن يُناسب قصري فخذهُ وأرسله إلى هنا''! وكان لكل رُقم في مكتبة الملك الاشوري الضخمة ما يشير إلى مضمونه وإلى ناسخه وما شابه ذلك· وفي نهاية كلّ رُقم نصّ منقوش بواسطة قالب أو خاتم نحو: ''رُقْم رَقَم··· في صفِّ··· قصر الملك آشور بانيبال، ملك العالم، ملك بلاد الآِشوريين''· الطين مادة الكتابة بعد تلك السياحة التي أشرنا إليها عن الحضارات المتعاقبة في إنتاج الكتابة والكتاب والمكتبات عند السومريين، والبابليين، وفي مملكة ايبلا، وأوغاريت، وعند الآشوريين، لابد لنا من ذكر حقيقة متعلقة بالإنتاج المعرفي والثقافي آنذاك، ألا وهي بيان أدوات الكتابة التي كان ذلك الإنتاج الفكري والثقافي يستمد ديمومته وآفاق تقدمه كرائد في سُلّم الحضارات الأولى التي عُنيت بالكتابة والكتاب والاهتمام بالأوعية الثقافية لهما ممّا يدللّ على الفكر الوقّاد لتلك ألأقوام التي أحبت المعرفة منذ بواكير عهدها وفجر سلالاتها الأولى التي أشعت على الإنسانية بخالد الفكر، وعظيم الإنجاز والإبداع في شتى مناحي الحياة العامة· فقد كانت مادة الطين المتوفرة بسهولة عند تلك الأقوام هي صاحبة الفضل الأول في ثقافات الشعوب الأولى، نتيجة لمقاومة الطين للظروف المناخية والتقلبات الجوية، وبالتحديد إلى صلابته المعروفة· فكان سكان سومر وبابل وآشور وأكد وغيرهم في الحضارات العراقية القديمة يأخذون ''الطين'' وهي المادة الخام لصنع الرُّقم من ضفاف نهريّ دجلة والفرات، بينما كانت طريقة صنعها غاية في السهولة· ففي البداية كان الطين يوضع في إناء مع الماء بغرض تصفيته بحيث يسقط الحَصَى والمواد الثقيلة الأخرى نحو الأسفل بينما يطفو على السطح القشّ وفتات الخشب وغير ذلك من الشوائب الموجود في التراب· وفي هذه الحالة كان يُلقى ما يطفو على السطح بحيث كان يسهل أخذ الطين بعد فصله عمّا هبط منه إلى الأسفل· وعلى هذا النحو كان العراقيون القدماء يتمكنون من الحصول على الطين النقي الخالص الذي يستعملوه لصناعة الرّقم ويكتبون عليها ما يشاءون· أما عن احجام وقياسات تلك الرُّقم الطينية فكانت تختلف من واحد إلى أخرى، فهناك رُقم تتراوح قياساتها بين 5 و6 سنتيمتر، و20 و25 سنتيمترا من حيث الارتفاع، وكان الكُتّاب ينقشون الإشارات على الطين النقي، ثم كانت تُوضع الألواح المكتوبة والمُنجزة تحت أشعة الشمس إلى أن تجفّ· أما الرُّقم التي تتضمن اتفاقيات تجارية هامة ووثائق للدولة وأعمالاً أدبية ومعاجم مختلفة، أو أي نصّ مُخصص للاستخدام العام، فقد كان يتمّ شيِّها لحمايتها من التشوّه والتبديل
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©