الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ليبيا حيال الامتحان الصعب

1 نوفمبر 2011 13:22
حين اندلعت الثورة في ليبيا، كاد العرب والعالم ألا يصدقوا أن هذا "المستحيل" يمكن أن يتحقق. وطوال الشهور الثمانية الماضية تفاعل الاجماع الدولي -وهو اجماع مزمن، صامتاً أو معلناً- على ضرورة انتهاز الفرصة التي سنحت أخيراً للتخلص من نظام موتور غير متوازن ومن طاغية سخّر البلاد وثرواتها ليصنع لنفسه صورة مقبولة في الخارج. ولأجل هذا الهدف جرى التغاضي عن كثير من الظواهر المقلقة التي انبرت إلى الواجهة خلال سعي الثوار وتدافعهم إلى المشاركة في الواجب المستجد، بل الواجب المنتظر منذ عقود. واقعياً لم تكن تلك الظواهر غريبة أو مستغربة في بلد عاش أهله اثنين وأربعين عاماً تحت القمع والقهر. فكل شيء بدأ بتظاهرة سلمية تداعى إليها الشبان علناً، وقوبلت برد وحشي متوقع من جانب قوات النظام، وهكذا فمنذ الساعات الأولى برزت ضرورة الدفاع عن النفس، وبالتالي ضرورة الحصول على السلاح حيث يوجد في ثكن كتائب القذافي ومستودعاتها. أحرقت المراحل في ساعات، وتعسكرت الانتفاضة لتصبح ثورة، ولتصبح المعادلة: ننتصر أو نموت. هذا بلد وشعب كانا في طور بلورة النسيج الوطني، بعد انتهاء الاستعمار الإيطالي وتوحيد الأقاليم الثلاثة، عندما استولى القذافي ورفاقه على السلطة ليوقفوا المسيرة الطبيعية ويدفعوا بالبلد والشعب نحو مصير آخر، بل نحو كارثة أمكن لها أن تستمر لأربعة عقود. كان النظام الآتي بانقلاب عسكري يدعي القومية والعروبة، والتقدمية والطهر الثوري، والعدالة الاجتماعية إلى حد إلغاء الحواجز والفوارق بين الطبقات والفئات. لكن محصلة هذه الشعارات الطنانة، كما تتبدى اليوم بعد زوال النظام، تظهر أنه أعاد البلد والشعب إلى ما كان عليه خلال فترة الاستعمار، وما قبله. إذ أجازت له تقدميته أن يفاقم التمايزات القبلية ليستغلها في عملية الإطباق على السلطة، كما زينت له قوميته أن يبقي على التقوقعات المناطقية ويمارس التمييز في التعامل بين المناطق وأهلها، أما العدالة الاجتماعية التي طالما ثرثر بها في تنظيراته فانتهت إلى إفقار الليبيين وحرمانهم من الاستفادة من ثروة البلاد، وأخيراً ترجم "الطهر الثوري" بكمٍ من الأجهزة الأمنية الفاسدة التي طبقت كل أنواع التعذيب لمن بقوا في الداخل وكل أنواع الإجرام لمن انتشروا في المهاجر يأساً واضطراراً. في ظل الدكتاتورية القذافية، ضاعت معالم اليقين أمام أبناء الشعب. فهنا حاكم مستبد صنع لنفسه ولعائلته وزبانيته سلطة يرتعون فيها، ولم يأبه لصنع دولة أو وطن. لذلك كان من الطبيعي أن تبرز الثورة معالم الأمراض والانقسامات التي زرعها النظام في المجتمع، سواء تفكيكاً لنسيجه أو انهياراً لروابطه. وفي ظل ضياع اليقين كانت القبلية والمناطقية من معالم الحفاظ على الهوية والانتماء، خصوصاً أن النظام صادر الهوية الكبرى وراح يقولبها وفقاً لما يخدم تسلطه. وفي ظل القهر والقمع واحتقار كرامة الإنسان الليبي كان من الطبيعي أيضاً أن لا يبقى سوى الانتماء الديني الذي أصبح، كما في معظم دول الاستبداد، عرضة لمتاجرات شتى، ولم يلبث كثيرون أن اتخذوا منه أداة لاجتراح سلطة موازية. لكل ذلك تبدو ليبيا بعد التحرير مثيرة للهواجس والمخاوف. فمع وجود الخطر على الثورة توحد الليبيون ولم يعطوا أولوية لتمايزاتهم وانقساماتهم، ورغم وجود خطر على المستقبل يبدو التنافس على اقتسام الدولة المقبلة نذيراً لسيناريوهات مخيفة. فحيثما حل الثوار حاولوا "تسجيل" انتصارات، باسم قبائلهم أو مدنهم، خصوصاً في طرابلس التي يريدون مواطئ نفوذ فيها، وكذلك في "سرت" التي لم تتم السيطرة عليها ـ إلا بمعركة مدمرة. صحيح أن المجلس الانتقالي استطاع تأمين قيادة للثوار رغم الصعوبات التي واجهها ممن تسلحوا وقاتلوا تحت اسمه، إلا أن هيمنة المقاتلين على الأرض سرعان ما نقضت سلطة المجلس عبر نقض شخصي للعديد من أعضائه، ولأسباب تعود عملياً إلى أحد عوامل النزاع والتنافس، القبيلة والمنطقة وصعود التيارات الإسلامية وهي كثيرة. ومع وجود السلاح بوفرة هائلة يمكن أن نتخيّل احتمالات التفجير. وهذا السلاح انتشر في أي حال ليخترق كل الحدود الليبية، إذ كان هناك مستودعات هائلة ودخلتها جماعات معروفة وأخرى مجهولة. حتى أن المخاوف الواقعية من أن يكون تنظيم "القاعدة" استفاد من فوضى التسلح تكاد توازي المخاوف من نشوء تنظيمات أخرى مماثلة. كان الملف الأمني وراء طول الزيارة التي بام بها رئيس الوزراء التونسي الباجي قائد السبسي عشية الانتخابات. وفي مصر تبذل محاولات لحصر السلاح وتحديد الأماكن التي استقر فيها. لكن الجميع يترقب الآن ولادة الحكومة الانتقالية في ليبيا وخطواتها الأولى لإحياء الجيش والأمن، من دون أن يفقدوا الأمل بأن الليبيين سيجتازون الامتحان الصعب لبناء دولتهم. فالكلمة الآن كلمتهم، وقد باتوا حيال قدرهم ومصيرهم. عبدالوهاب بدرخان كاتب ومحلل سياسي - لندن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©