السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«عطور الجزائر» تصادم فكري وانتصار للمجتمع

«عطور الجزائر» تصادم فكري وانتصار للمجتمع
19 أكتوبر 2012
(أبوظبي) - من المستغرب حقاً أن يقدم مخرجو الشرق رؤية كاشفة لطبيعة العلاقة بين الحركات الأصولية المتشددة بمن فيهم الإرهابيون وتنظيمات الإخوان المسلمين وبين البنية الاجتماعية بكل أنواعها، تلك العلاقة غير التصالحية بسبب التشدد اللامعقول، والعسف الفكري والجسدي الذي تمارسه تلك الحركات ضد الحرية والديمقراطية والانفتاح الحضاري. وقد لمسنا هذا التوجه الذي تبناه مخرجو السينما في منطقة الشرق عبر مجموعة من الأفلام عرضت في مهرجان أبوظبي السينمائي بدورته السادسة، والتي تقترب عروضها من يومها الأخير، من خلال الفيلم الأفغاني “حجر الصبر” والتونسي “مانموتش” والجزائري “عطور الجزائر”، بالإضافة إلى الإشارة في فيلم “اللائحة” الأميركي لبيث ميرفي التي ترصد الإرهاب الذي واجهه العراقيون الذين كانوا يشتغلون مع الجيش الأميركي. ومما يلاحظ أيضاً أن المخرجين هؤلاء تناولوا الإرهاب من زوايا مختلفة، لكن أهمها أنها تمثل البيئة أو الحاضنة الفكرية في المجتمع الذي اخترقه هذا النمط الفكري (الجزائر، وتونس، وأفغانستان)، إذ حاولت هذه التناولات أن تجسد هذا الجانب من وجهتي نظر خاصة وعامة حيث تداخل فيها الذاتي والموضوعي، بما فيهما من تحولات كوننا نجد أن إحداهما تقود للأخرى في تبادل واضح للأدوار. الفردي والذاتي حسناً.. لنقرأ ماذا قدم فيلم “عطور الجزائر” الذي اشتغل فيه المخرج رشيد بن حاج على الفردي والذاتي ومن خلاله نفذ إلى الموضوعي والاجتماعي. يبدأ الفيلم بالماضي وبلقطات لطفل وطفلة في حديقة تحمل فيها الطفلة على ظهرها جسد الطفل الذي يريد أن يقتطف شيئاً وهما “مراد” و”كريمة”. يبدو أن رشيد بن حاج اتخذ بؤرياً زاوية إخراجية شاملة أصبح فيها السارد “كلي العلم” تارة وأخرى أصبح فيها “راوياً ممسرحاً” وهو كريمة ذاتها، أي أن هناك مسارين وهما: “عين الكاميرا” مرة و”كريمة مرة أخرى”، هذا بالإضافة إلى أن مشهد الماضي “طفلان يلهوان في حديقة” يصبح إرصادياً لما سيأتي لاحقاً من أحداث كون القصة متحققة بينهما فيما بعد، حيث تعيش كريمة في باريس (فرنسا) عام 1998 بعد عشرين عاماً من مغادرة الجزائر لتتشكل لديها ثقافة مختلفة عن ثقافة مراد الذي انحدر إلى ثقافة انحطاطية ليست لها علاقة بالحضارة والإنسانية حيث تنمو على القتل والعسف والموت وإبادة الآخر وتخريب البنية الاجتماعية. أفكار لا إنسانية كريمة فنانة فوتوغرافية مشهورة تحصد الجوائز، تستدعي فجأة من أمها بعد عشرين عاماً كي تعود للجزائر. سبق هذا الاستدعاء ذاك التذكر (الماضي/ الأرجوحة/ كريمة ومراد)، وكأن المخرج يخطط كي يعرض ـ عبر هذا المشهد الاستباقي ـ لقصة هذين الأخوين فيما بعد حيث يتضح أن مراد قد أصبح من جماعة الحركات الإخوانية التي اصطدمت بالبنى الاجتماعية وبشريحة مهمة في المجتمع وهي المرأة. من الذاتي والفردي يخرج رشيد بن حاج نصه الفيلمي إلى قضية الصدام الحاصل بين أفكار لا إنسانية ورؤى مجتمعية مسالمة. حاول رشيد بن حاج أن يبني عالمين يخصان كريمة وهما عالم غربي (باريس وعشيقها سيرج) وعالم شرقي (مراد والسجن وكريمة الأخت المرتبطة روحياً بأخيها السجين). تعود كريمة بعد عشرين عاماً لتتجلى أمامها كل إشكاليات ثقافتها الحاضرة وذكرياتها الماضية ومنها: 1- إشكالية علاقتها باللغة. 2- إشكالية علاقتها بأبيها الماضية. 3- إشكالية علاقتها بأخيها الحاضرة. 4- إشكالية علاقتها بصديقها سيرج عبر زاوية نظر (السارد المخرج/ عين الكاميرا/ كلي العلم)، إذ يكشف لنا رشيد بن حاج وفق معرفة كاميرته الكلية أن سيرج كان عارياً مع صديقة كريمة في باريس وهذا المشهد يذكرنا بقصة سالنجر “فم جميل وعينان خضراوان”. 5- إشكالية علاقة سامية بالأب المتبني لها قبل زواجها من مراد. الماضي/ الحاضر يلعب رشيد بن حاج على الماضي/ الحاضر في الآن نفسه حيث يرصد الحاضر بوصفه نتاجاً ويرصد الماضي بوصفه سبباً، وما بين السبب والنتائج يقود بن حاج أسلوبه السردي البصري لإخراج النص، حيث بدأ يختار المواقع المفصلية التي يقطع فيها سرد الحاضر ليزرع أو يزرق فيها سرد الماضي، واختار للماضي لوناً أسود (أبيض وأسود غالب على الصورة)، بينما اختار للحاضر اللون المتعدد في دلالة على الزمن وتصنيف الذكريات والحاضر وهو استخدام تقليدي. قدم رشيد بن حاج نصاً بصرياً جميلاً، واستطاع أن يكسر طوق ارتباط نجاح الفيلم بالممثلة العشرينية الجميلة إلى نجاح البطولة بقدرة الأداء وبمهارة الأسلوب وبعذوبة الشخصية حتى لو كانت بطلته على عتبة الأربعينات، وهذا ما تجلى بوضوح في اختيار الممثلة مونيكا غورتيون التي جسدت دور “كريمة”. كانت مواجهة كريمة لعالمين “الغرب” و”الشرق” ضرورة، حيث الارتباط اللاموضوعي/ اللا إلهي في باريس بين كريمة وسيرج، والاختيار اللاإنساني/ اللا إلهي للموت وتخريب ثقافة المجتمع وتشكلاته السيميائية والرمزية وفنونه وغنائه وتقاليده في محاولة لأدلجته باتجاه الفكر التشددي/ التدميري الذي درج على حمل السلاح لقتل الآخر. العين المبصرة مزج رشيد بن حاج في ذكريات كريمة بين كل ما جرى في ماضي علاقتها بمراد وأبيها وعمها (تعلم كريمة رواد بالكتاتيب)، و(قسوة الأب واضطهاده لسامية)، و(خلافات الأب والعم فيما بينهما) بحاضرها الذي وجدت فيه “تشوه مراد نحو الإرهاب من أفغانستان حتى الجزائر”، وغيبوبة الأب عن عالم الحاضر بسبب مرضه واستمرار القطيعة الإنسانية بين الأب والعم. لم يشتغل رشيد بن حاج على كاميرة “كريمة” ويجعلها العين المبصرة لكل الأحداث، بل أهملها طوال شريط الفيلم إلا في مشهدين وهما: أولاً حين دخلت المقهى مع السائق الذي كان ينقلها من المدينة إلى قلعة السجن في الصحراء والذي عاش أعواماً كناساً في صالة أوبرا في باريس وكان يسمع طوال الطريق سيمفونيات عالمية، واستخدمت الكاميرا ثانية في نهاية الفيلم عندما عادت إلى أحضان البنية الاجتماعية فاشتركت في مظاهرة نسوية ضد العسف حاملة طفلة “مراد” التي قتلت زوجته “سامية” على يد الحركات المتشددة الإخوانية. بدل أن يكون السارد (المخرج/ العليم) بكل شيء في الحاضر، وكريمة العليمة بكل شيء في الماضي، كان بالإمكان أن تصبح كاميرا كريمة العين المبصرة للحاضر بدلاً من عين رشيد بن حاج ليصبح السرد في النص السينمائي واحداً بين ماضيه وحاضره بعين كريمة ذاتها. مصائر متعددة بدا الفيلم طويلاً مفتوحاً على مصائر متعددة، على تحديات ورفض اجتماعي مقابل عسف فكري مارسه المتشددون، قدم رشيد بن حاج بانوراما “ذاتية” هي قصة كريمة وإشكالياتها الحياتية مع الأب، و”فكرية” عن تصادم البنى الاجتماعية الجزائرية مع الحركات الإخوانية، و”سوسيولوجية” حول تغييب دور المرأة في تطور الحياة الاجتماعية الجزائرية، و”سياسية” في إطار وجهة نظر الدولة من أفكار الإخوان والحركات المتشددة التهديب وما يقابلها من وجهات نظر دينية لطبيعة تشكل الدولة. مشهد “اغتسال كريمة” ما قبل الأخير الذي أوشك أن يختتم فيه رشيد بن حاج فيلمه حمل رمزية موروثية عن علاقة الاغتسال بالدرن الذهني والتخلص من آثام الماضي، ربما اقرأ هذه الدلالة ـ التي هي دينية أيضاً حيث توجد في كل الأديان السماوية والوضعية ـ ليحقق هذا المخرج هيمنة فكر البنية الاجتماعية على ذهن كريمة الذاتي وقبولها الانضمام إلى حياة المجتمع الجديدة عليها واستعادتها بطريقة أكثر نقاء حياة جديدة، حيث لابد للانضمام من الاغتسال بحثاً عن التطهير. استخدم رشيد بن حاج كسر “الجرّة” كدليل على القطيعة ويعد هذا الرمز جزءاً من منظومات الفكر الاجتماعي، حيث كسر الجرّة التي لا تصلح في جميع الأحوال فيما بعد. لعب رشيد بن حاج على إشكالية اللغة والانتماء للبنية الاجتماعية من خلالها، ولم يكرس هذه الإشكالية، إذ بدت ضعيفة حيث تعاملت كريمة التي ادعت أنها نسيت العربية باللغة العربية ذاتها فيما بعد، إذ لم تشكل لها عائقاً في التعبير. قد نتساءل: هل نجحت كريمة في مواجهة الواقع القمعي الذي تعرضت له في الماضي؟ هل اغتسلت في نهاية الفيلم لتتخلص من ذكرياتها المؤلمة وتستقبل عالماً آخر أكثر انفتاحاً؟ المهم أن رشيد بن حاج قد انتصر للمرأة الجزائرية بالرغم من كل العنف الدموي الذي تعرضت له “موت سامية” و”جرح المناضلة الشابة إحدى قيادات التظاهرات النسوية”. هذا الانتصار الحقيقي قد تحقق في الذات الفردية أولاً ليخرج إلى ما هو موضوعي اجتماعي. مشاهد مقطوعة وفي جميع الأحوال فإن الفيلم شكّل موقفاً أكثر موضوعية من كل خطابات الحركات الإسلامية المتشددة واستطاع عبر الشريط أن يواجه البندقية بالصورة بالرغم ما فيه من: 1- تطويل في زمن السرد عبر الماضي والحاضر. 2- تكرار في مشاهد الماضي. 3- عدم اقتناصه الموروثية الاجتماعية الأنثوية الجزائرية العميقة وكان من الضروري تعميق ذلك في الحفل النسوي بولادة زوجة مراد حيث لم يقدم رقصة كريمة في الحفل النسوي، إذ قطع على المشاهد لذة الاستمتاع بما هو موروثي جزائري. 4- لم يقدم العسف المقابل في القلعة ولم يقدم عسف الشارع وما يحصل فيه كي تكتمل الصورة، بل قدم مشهد العسف على الطريق الجبلي بعيداً عن البنية الاجتماعية العامة. قدم رشيد بن حاج فيلمه الأول “المعتدون” عام 1989، ثم “زهرة الصحراء”، ثم “توتشيا وشجرة المصائر المعلقة” و”ماريكا” و”للخبز فقط” وهو بعد ذلك جاء إلى “عطور الجزائر” بخبرة المخرج العارف بلعبة السرد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©