الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قراءة سينمائية أميركية داكنة لمستقبل الأرض بحبكة روائية

قراءة سينمائية أميركية داكنة لمستقبل الأرض بحبكة روائية
19 أكتوبر 2012
إبراهيم الملا (أبوظبي) - ضمن عروض مسابقة آفاق جديدة تابع جمهور كبير من رواد الدورة السادسة لمهرجان أبوظبي السينمائي فيلم “وحوش البرية الجنوبية” Beasts Of The So thern Wild للمخرج الأميركي بن زيتلين في عمله الروائي الطويل الأول، والذي حاز من خلاله على جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان (كان) السينمائي في دورته الأخيرة التي عقدت في شهر مايو من العام الجاري، كما فاز الفيلم أيضا بالجائزة الكبرى في مهرجان (صندانس) بداية هذا العام. قارب الفيلم في بنائه المشهدي العام نظرة المخرج الخاصة والقاتمة حول مستقبل الحياة على كوكب الأرض، وعلى غرار الصياغات الخيالية المركّبة التي لا تخلو من تأملات جامحة وشفافة في آن، والتي رأيناها في أفلام شبيهة مثل: “ميلانخوليا” للمخرج الدانمركي لارس فون ترير، و”شجرة الحياة” للأميركي تيرانس مالك، فإن زيتلين في فيلمه: “وحوش البرية” يقرأ ويستشرف التبعات الكارثية لارتفاع درجات الحرارة على الأرض وذوبان جبال الجليد في القطبين الجنوبي والشمالي، وبالتالي ارتفاع منسوب المياه المالحة، لدرجة يمكن فيها أن ينتهي مصير قارات العالم إلى تحوّلها لجزر صغيرة ومعزولة ومتناثرة وسط محيط هائل، ويجابه البشر القليلون الباقون على قيد الحياة في هذه الجزر أنماطا شرسة من التبدلات البيئية، ونضوب الموارد الطبيعية، من نباتات زراعية وأسماك وحيوانات داجنة ومياه صالحة للشرب. طقوس يومية وفي إعادة مفرطة و”أبوكاليبسية” لمأساة العاصفة: “كاترينا” التي ضربت سواحل أميركا قبل عدة سنوات، تبدأ المشاهد الأولى في الفيلم لتهيئ حالة من الترقب المهيب لنذير الشؤم القادم في مكان منعزل ومحاصر بالمياه في الجنوب الأميركي، حيث نتعرف في هذا المكان المقفر والموحش على الطقوس اليومية المربكة والمنهكة التي تعاني من وطأتها فتاة سمراء صغيرة تدعى: “هاشبابي” ذات الست سنوات والتي تكافح الظروف الصعبة مع والدها المريض والمدمن على الكحول كي يحافظا على حياتهما ويصارعا من أجل البقاء رغم نقص وضمور ما تبقى لديهما من مأكل ومشرب ومأوى، خصوصا وأنهما على علم بقرب هبوب عاصفة قوية، يمكن أن تزيد وتعمق من وضعهما المأساوي، الذي لا يمكن أن يصمد أمام أي مشكلة أخرى أو أمام أي تفصيلة مفاجئة ومدمرة حتى لو كانت صغيرة وغير ملاحظة، فما بالك بالعاصفة القادمة والمدمّرة. وتتنقل المشاهد الملتقطة بعدسة ضبابية يطغى عليها اللون الأصفر، بين الأحراش المتيبسة، وتحوم في بيئة متهالكة وهشة وآيلة للمحو والزوال والخراب المميت في أي لحظة، ونستمع لآثار هذا الخراب القادم وننصت لأصدائه المرعبة والتشاؤمية من خلال الصوت الداخلي للفتاة الصغيرة وهي تخاطب عناصر الطبيعة الذاوية المحيطة بها، وكذلك عندما تخاطب والدها الغائب معظم الوقت بحثا عن المؤونة والطعام تجنبا لعواقب الأيام الصعبة والغامضة، وتأخذ الحوارات الداخلية نسقا أكثر دفئا وحميمية عندما تخاطب “هاشبابي” والدتها الغائبة، التي تركت المكان ورحلت فجأة بسبب سلوكيات الأب الفجة والعدائية، وبسبب إصرار الأب أيضا على البقاء في المنزل والصراع حتى آخر رمق كي لا ينهزم ذاتيا ويترك أرضه ومنبع ذكرياته والمكان الأول الذي اعتاد العيش فيه وقرر أن يكون هو المكان الأخير أيضا الذي يموت فيه. ومن هذه المنطقة العدمية والصادمة، يشرع المخرج في بناء مستويات ومسارات سردية متوازية للفيلم، ويجنح أحيانا نحو مسارات متباعدة عن البيئة الأصلية، كي تجوس كاميرته وتتجول في خيالات تنبؤية مزلزلة حول تصور المستقبل الكارثي والسريالي الفاجع على كوكب الأرض. ففي المسارات المتوازية التي تأخذ شكلها الواقعي والراهن، يكشف الفيلم عن المكابدات اليومية للأب والطفلة، والتي لا تخلو من صراع داخلي عنيف وعلاقة مشوشة بين الاثنين، فالأب يريد من ابنته أن تتحول إلى طاقة شرسة ويفرض عليها صفات وسلوكيات ذكورية كي يقوى عودها وتستطيع أن تجابه الحياة الصعبة القادمة لوحدها واعتمادا على غريزة البقاء التي يجب تنميتها والتدرب على أساليبها المنهكة، خصوصا وأن الأب يعاني من مرض عضال وقد يرحل عنها إلى مصيره الأخير خلال الأشهر القليلة القادمة. مستويات افتراضية أما المستويات الافتراضية والمنفصلة عن حبكة الفيلم الأساسية فتتجسد في الحوارات الناعمة للطفلة مع والدتها الغائبة جسدا والحاضرة روحا في منزل الأسرة المتهاوي قرب الساحل، وهي الحوارات التي تعكس كمية البراءة واللطف والنعومة التي تخزنها الفتاة في مشاعرها الفطرية، والتي يحاول الأب جاهدا أن يطمسها ويشوه ملامحها الأنثوية النضرة في دواخلها. وتتطرف هذه المسارات في انفصالاتها عن المسار الأصلي للفيلم عندما تستعين بلقطات أرشيفية ووثائقية تصوّر الانهيارات الجليدية، وصراع الكائنات المجهرية، ونمو وذبول الكائنات النباتية، وظهور وحوش متحوّلة وشرسة ونهمة للطعام في مناخات مرعبة وسرابية، وهي لقطات ومشاهد رأينا ما يشبهها في فيلم: “شجرة الحياة” للمخرج تيرانس ماليك، بأبعاد شعرية وميثولوجية داعمة ومعززة للخطاب الفلسفي في فيلم ماليك، بينما أتت هذه الاستعارات الرمزية في فيلم: “وحوش البرّية” وكأنها تتوسل القصدية الدخيلة والزائدة، دون أن تخدم وبشكل كامل مضامين ورسائل الفيلم. كما شكلت الانتقالات المشهدية المفاجئة في منتصف الفيلم عبئا جديدا على المعالجات الموضوعية للسرد، خصوصا عندما تدخل شخصيات جانبية عديدة داخل الإطار الأدائي، الذي لا يحتمل أصلا وجود أكثر من شخصيتين أو ثلاث لتكوين بنائه الدرامي العام، وتمثلت هذه الزوائد السردية في المشاهد التي رأينا فيها الحراس المدججين بالسلاح وهم يهبطون بطائرات عمودية، ويطالبون من تبقى من الأهالي في المناطق الجنوبية المنكوبة بضرورة المغادرة حتى لا تسحقهم العاصفة المنتظرة، وبعد نقلهم بالقوة يتم إيداعهم في مخيمات طبية مؤقتة. وفي مشهد تالي مجاني ويخلو من الواقعية والمنطق الدرامي، نرى الأهالي وهم يهربون تباعا من المستشفى ومعهم: “هاشبابي” ووالدها المشرف على الموت، حيث يعودون بواسطة حافلات كبيرة لا يمانع سائقوها في نقلهم مجدد إلى مواقعهم المنكوبة، دون أي تدخل أو صراع أو مطاردة مع موظفي الأمن في المستشفى أو مع حرس الحدود الذين يملأون المنطقة! عموما فإن فيلم: “وحوش البرية الجنوبية” حاول أن يقدم اقتراحات فنية مبتكرة، وان يبتدع مغامرة بصرية جديدة في أفق التجريب المشهدي والروائي لتيارات السينما المعاصرة، وحاول خلق مزيج متوائم بين الواقعية والفنتازيا، مع إعطاء مساحة للتحليل العلمي والاشراقات الأدبية والفلسفية، كي تمنحنا صورا متداخلة ومتناقضة للأمل والسوداوية، ولعنف الطبيعة وهشاشة البشر، التي لا تخلو بدورها من عناد وإصرار على التكيف مع الكوارث البيئية مهما استرسلت هذه الكوارث في تحطيم مكتسبات الحضارة الإنسانية والتقدم العلمي على كوكب الأرض، أو على ما سيتبقى من هذا الكوكب من آثار ولقى وأحافير عن تاريخ بشري حافل سوف يقرؤه عدد بسيط من الأقليات البشرية الصامدة بعد القيامة الكونية!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©