الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الانطباع والطباعة..

الانطباع والطباعة..
3 نوفمبر 2011 16:38
افتتح في متحف الشارقة للفنون الأسبوع الماضي معرض “رحلة إلى بلاد فارس بدءاً من العام 1672 إلى 1851” برعاية الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، والذي يضم مجموعة نادرة من مقتنياته الفنية والتاريخية الخاصة يصل عدها إلى الاثنين وستين عملاً نادراً، وتنظمه إدارة الفنون بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، بالتعاون مع إدارة متاحف الشارقة وتمتد فعالياته حتى الحادي والثلاثين من نوفمبر الحالي. تتضمن هذه الأعمال “مجموعة آسرة من المشاهد والآثار التاريخية التي تزخر بها بلاد فارس على مر العصور، وأبرزها لوحات المدن، والقرى، والميادين، والأبراج، والقبور، والجسور، والمعابد الإغريقية، والأزياء، وغيرها من الموضوعات الجديرة بالتوثيق المرئي المطبوع، وبخاصة المشاهد المعمارية بما تتضمنه من تفاصيل وعناصر متنوعة تُعد مرجعاً أساسياً للمؤرخين والمشتغلين بالفنون الحضارية” بحسب ما جاء في تقديم الكتاب، بما يشير إلى أن القائمين على المعرض لا يدركون فحسب أهميته بوصفه وثيقة أنثروبولوجية تاريخية الطابع بسبب تلك التفاصيل التي تشتمل عليها اللوحات من حياة الناس وحراكهم اليومي في سبيل العيش في بلاد فارس خلال الفترة التي رصدها المعرض، بل يُضاف إلى ذلك الوعي بالأهمية الفنية الاستثنائية للأعمال التي تنتمي إلى واحدة من المراحل المبكرة التي دخل فيها فن الطباعة الحجرية “الليتوغراف” إلى عالم الفن التشكيلي والتطورات التقنية التي حدثت عليه حتى أصبح في فترة قصيرة يحتل أهمية استثنائية في إنتاج اللوحة إلى جوار التلوين، بنوعيه الزيتي والمائي، بما تمتلكه هذه التقنية الطباعية من إمكانية متعددة على التعبير الفني وبما تتمتع به خامتها من رحابة وطواعية في التعبير عن المخيلة والحس الفرديين. تقنيات أولية وبدءاً، تنتمي أعمال المعرض إلى ما بات يُعرف الآن بفن طباعة الكتب وفقاً لتقنيات أولية ترقى إلى إلى ما قبل اختراع آلة الطباعة على ما عهدناها في العصر الحديث بأشكالها وتقنياتها المختلفة. كانت طباعة الكتب آنذاك تتم بطريقة الطباعة الحجرية تحديدا، وقد بدأ هذا الفن مع جامعي اللوحات والمقتنين الباحثين عن غرائب الأعمال الفنية، وفي النصف الثاني من القرن العشرين تكوّنت حصيلة مدهشة من هذه الأعمال الطباعية ذات الطبيعة النفعية المباشرة: أي القراءة، لترتقي بعد قرون إلى مصاف العمل الفني من جهة والوثيقة التاريخية من جهة أخرى، حيث غالبا ما كانت هذه الرسوم مزينة برسوم الهدف منها تزييني أو توضيحي وغالبا ما تنطوي على شخصيات في مشهد عام أو شخصيات بعينها في موقف تعبيري. الآن، ترصد صالات عرض عالمية كبيرة الملايين من أجل معرض للوحات تكون للعرض فقط تتضمن أغلفة رواية “دون كيخوته” التي صدرت بالاسبانية واللغات اللاتينية الأخرى أو معرض واحد بأكمله يرصد دون كيخوته، الفارس النبيل والأهوج، ممتطياً صهوة جواده في رسم من الرسوم التزيينية داخل كتاب من الكتب ويكون نسخة غير أصلية. من الممكن قول ذلك أيضا عن الديكاميرون الإيطالية والأعمال المسرحية الإغريقية الخالدة. لقد بات هذا النوع من الأعمال التي تنتمي إليها “رحلة إلى بلاد فارس” يمثل جانبا من التجربة البشرية الفنية ولم يعُد حكرا على أحد ويأخذ قيمته المطلقة هذه من أن فكرة الفن، في حدّ ذاتها وفي جوهرها، مطلقة إنسانياً بعمق، ربما ببساطة لأنها تخييلية، وممارسة التخييل ميزة لكل الأمم وليس من اختراع شعب أو أمة ما. على هذا المستوى التقني الطباعي، تنقسم أعمال المعرض إلى طباعة حجرية وأخرى نحاسية، تقوم كل منهما على المبدأ الأساسي نفسه في نقل الصورة من المعدن، كالنحاس أو الفولاذ أو سواهما بحسب الغرض من إنتاج الصورة، أو من الحجر، وهي التقنية الأكثر قِدَما. في الأعمال المنفذة بالطباعة الحجرية غالبا ما جاء المشهد عاماً: أسواق ومزارات وقلاع ومساجد وأوابد وخرائب ومشاهد طبيعية مفتوحة، بينما اشتملت الأعمال المنفذة بتقنية الطباعة النحاسية فضلاً عن ذلك تفاصيل كثيرة للحياة اليومية في بلاد فارس، وكذلك الأدوات واللوازم التي كان أهل تلك البلاد يستخدمونها في حياتهم اليومية، وتمتُّ بصلة إلى المأكل والمبس والمأوى، إذ هي جميعا، ووفقاً للدرس الأنثروبولوجي، التعبير المكثف عن معتقدات الناس وأفكارهم وعلاقتهم بمجتمعهم وبالطبيعة من حولهم وكذلك موقفهم الجمعي من العالم الذي هو موقف ذو صبغة يختلط فيها الدنيوي بالديني. وبالطبع فإن أعمال المعرض غير ملوّنة، لكن ما يثير الاهتمام ويرفع من شأنها فنياً ليس التعبير عن العمق الثالث، الذي يبدو تراكبياً على الطريقة المصرية القديمة (مثل لوحة نحت يمثل فاتح علي خان وأولاده، ص 113 من كتاب المعرض) في بعض اللوحات، بل هي الظلال ما يلفت الانتباه بالفعل، وبناءً على ما توافرتْ عليه من الدقة أيضا، والتي قد تبدو عادية بالنسبة للناظر إلى هذه الأعمال التي واجه فيها فنان مجهول، غالباً، هذا الاختبار الفني القاسي. ففي الأعمال التي تعتني بإبراز العمارة بأنماطها التقليدية المحلية أو التي تنتسب لحضارات أخرى، تظهر الظلال عادية تماماً، لأن هذا النوع من الأعمال يتأسس بناء على المنظور، أي بناءً على نقطة التلاشي، ما يجعل المناطق ذات الظلال مُدْرَكة تماما من قِبَل مخيلة الناظر إلى العمل بناء على النقطة التي أخذ منها الفنان المشهد وجعل منها نقطة تلاشٍ رصد من خلالها المشهد. شخوص وظلال إنما في الأعمال الأخرى، وتحديداً عند رسم الظلال الخاصة بالشخوص في لحظة تحرّك، فتبدو الظلال تدرُّجاً لونياً رمادياً أو أنه بفعل القِدَم ومرور الزمن أصبح لوناً متوسطاً بين خلفية العمل والسواد التي يتركه الظل البشري في العادة على الأرض، وهو هنا بات أقرب ما يكون أصفر بلون الرمل الصحراوي أكثر مما أنه رمادي، في حين هو ليس بلون الرمل الصحراوي تماما، لكنّ ميْلَه إلى الأسود يحدد الظل بوصفه كتلة لونية متمايزة عن اللونين الأبيض والأسود اللذين هما لونَيْ الأعمال كلّها. وبمعنى ما، يصبح لون الظلال وما طرأ عليها من “تعتيق” طبيعي أشبه باللون المتَخَيَّل القادم من خارج اشتقاقات الدائرة اللونية الأساسية. قد تكون التقنية الطباعية، خاصة الفولاذية منها، قد أوجدت حلا ما لحضور الظلال في اللوحة، لكن مخيلة الفنان والتعتيق هما اللذان أعطيا الظلال ميزتها الأساسية بوصفها ظلالاً. ففي البعض من الأعمال التي تعتني بالمشهد المعماري بظلاله لا يلحظ المرء وجودا لظلال البشر الموجودين في المكان، حيث المبرر الأساسي لوجودهم لا يتعدى كونهم أشكالًا تمنح العمارة جلالها ومهابتها فهي ضخمة بالنسبة إليهم وعالية، بل ومتعالية حتى لو كانت مجرد خرائب، ومتطاولة جداً، عندما تتعلّق بوجود آثار معمارية للحضارة الإغريقية تحديداً، كما هي الحال في أكثر من لوحة العنوان: بيرسيبولس من كتاب يوجين فلاندين بدءاً من الصفحة 159 من كتاب المعرض وما يليها. وينبغي على الناظر إلى هذه الأعمال ألا ينسى أنها ذات وظيفية تزيينية بالمقام الأول، أي أن اقتناء الكتب التي تضمها آنذاك كانت تقليدياً أرستقراطياً أوروبياً قبل أن تخلّف أوروبا الصناعية ـ الرأسمالية الاقطاعَ ومنظومةَ تقاليده وراءها وتجعل كل ما لدى هذه الطبقة من امتيازات ترفيهية في متناول طبقات متعددة يتكون منها النسيج الاجتماعي مع اختراع آلة الطباعة وشيوعها، أيضا من الضروري الانتباه إلى أن الهدف منها أيضا كان توضيحياً للقارئ عبر تزويده بمتخيّل بصري إلى جوار المتخيّل الكتابي الذي هو أساس مادة الكتاب، حيث إن أغلب قرّاء تلك الكتب لم يزوروا المنطقة أبداً، بل تظلُّ محصورة في نطاق الرؤية المسبقة للشرق والصورة الحُلُمية المتخيلة عنه بأثر فاعل من الوصفين الأدبيين لهذا الشرق كما هما في الانجيل والتوراة والإيمانيْن المسيحي واليهودي الأوروبي على ما هما عليه آنذاك، أي أن هذه الرسومات، في نهاية التحليل، كانت تثير نوعاً من الغرائز الدينية تجاه المنطقة، ذلك الحنين المشبع بقُدسية ما وسمُوً أكيدٍ على الآخرين هما في الأصل إحساس عِرْقي ديني المنشأ، وهذا بالفعل ما يجعل الأعمال في المعرض تنحاز في الكثير منها وليس كلها، إلى الاستشراق الفني على وجه التحديد. يحتوي “رحلة إلى بلاد فارس” على مجموعة ليست هيّنة من الأعمال على هذا الصعيد وتحتاج دراسة حقيقية لها إلى التخصص في حقول معرفية مختلفة كتاريخ الفن وعلم الإناسة وسواهما. لنتخيّل أن طبيباً في أمستردام القرن السابع عشر يُدعى أولفيرت دابير، أي قبل وصول اختراع المطبعة إلى الشرق بمئة عام على الأقل، يستطيع أن يلف ويصدر مجاميع من الصور عن المنطقة وجوارها ومن بينها إيران الصفوية دون أن يغادر مدينته أبدا، بل اتكاء على تخطيطات وصلت إليه من بعثة سفراء دوق هولشتاين إلى إيران ومن خلال تخطيطات أعدها موظفو شركة الهند الشرقية الهولندية. لا شك أن هذا الصنيع لا يأتي به إلا العباقرة بالتأكيد، لكن الناظر إلى الأعمال من غير العباقرة، حال كاتب هذه السطور، يشعر ما إنْ تحطّ عيناه على أعمال أولفيرت دابير أن هذه التخطيطات للمدن ليست غريبة عنه بل تكاد تذكِّره بشيء ما. ولا يتعلق الأمر بالتقنية الطباعية وحدها، بل أيضا بالمدينة التي غالبا ما هي مدينة جبلية بتقسيمات طوبوغرافية واضحة تعبرها شوارع تجعل منها كتلا معمارية متراصة في المنتصف، إنما في الأطراف تبدأ تتسع المسحات بين البيوت والكتل المعمارية، وأما مركز المدينة فغالبا ما يكون مركزاً دينياً، إما جامع أو كنيسة. إن أغلب الأعمال الاستشراقية الطباعية قد صورت الأراضي المقدسة، أي فلسطين ومنطقة الحراك التاريخي والجغرافي للمسيحية الآرامية العربية فيما يُعرف بسوريا الطبيعية بالمصطلح الجغرافي، على هذا النحو، وإلى هذه اللحظة التي نحيا فيها يمكن لأي زائر أن يرى تلك المدينة الجبلية وفي مركزها كنيسة القيامة والمسجد الأقصى جنبا إلى جنب في لوحات طباعية استشراقية تعود إلى الفترة ذاتها، وينطبق الأمر ذاته على مدينة ذات أهمية حاسمة في التاريخ المسيحي، مثل انطاكية أو مدن أخرى مثل مأدبا أو الكرك في جنوب الأردن. أيضا غالباً ما صوّرت هذه الأعمال، ضمن المشهد العام للمدينة، السورَ المحيط وبوباته الرئيسية ومناخات الإبل ومرابض الخيل إلى خارجه، حيث يشعر المرء بالفرق بين الظل والنور والانقسام الحادّ بينهما الذي يصنعه الفنان من خلال الخطوط القاسية والواضحة التي تميّز أحدهما عن الآخر، إنما على نحو مثير للإعجاب حقا. وهذه هي حال مدينتي “كيشان” و”قم” بل و”مشهد” السلطانية و”دير بنت” وسواها في صور أولفيرت دابير الطباعية، حيث تتراوح قياسات الأعمال بين العشرين والأربعين سنتيمترا طولا وعرضا، أضف إلى ذلك الاستغراق في التفاصيل التي تصل إلى إبراز طيّات الأثواب التي يرتديها قادمون إلى هذه المدن هم غالبا في مقدمة الصورة، وإلى يمينها أو في منتصفها، وذلك ضمن هذه المساحة الصغيرة من النحاس المطروق بأزاميل خاصة. وباستثناء مصبّات الأنهار ومجاريها، تبدو الطبيعة المتخيّلة في هذه الأعمال فقيرة تماما، ثمة نباتات برية ذات طبيعة شوكية متناثرة أو أعشاب برّية استوطنت في الشقوق التي تفصل حجرا عن آخر في بناء متهدم، أو شجيرة يبدو أنها استكمال لبناء المشهد تشكيلياً لا طبيعيا أغلب الظن. أما المساحات الواسعة فهي للمنازل والقصور والقلاع، ربما هي هنا بمثابة الارهاصات الأولى لما يبدو عليه منزل “الحريم” أو قصرهن في المخيلة الاستشراقية الكلاسيكية، غير أن المرأة هنا لا تبين مطلقاً ولا تظهر إلا بما يشي بها لا بوجودها المكتمل كما هي في مراحل أخرى أكثر تطوراً من الاستشراق الفني.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©