الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابن دريد.. أعلم الشعراء وأشعر العلماء

ابن دريد.. أعلم الشعراء وأشعر العلماء
3 نوفمبر 2011 16:39
يمثل أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي العماني البصري ظاهرة ثقافية فريدة كونتها معرفة علمية وأدبية فاعلة، ومؤثرة في حركة الزمان والمكان؛ تميزت بجغرافية الانتماء والعطاء. ولعل الناظر بإمعان في تراث ابن دريد يجد الجواب لفرادته بين العلماء بالشاعرية وتميزه بين الشعراء بالعلمية... ألا وهو “اختيار” ابن دريد لتصريف علميته اللغوية في أسلوبية شعره، وتصريف شعره في قدرته اللغوية. ولد ابن دريد في البصرة سنة 223 بإجماع المصادر والمراجع، رحل إلى عمان سنة 257 وقضى فيها اثني عشر عاما مؤثرا ومتأثراً ثم عاد إلى البصرة، ومنها ارتحل إلى فارس سنة 295 بدعوة من ابن ميكال ليكون معلماً لولده، ومنها يستدل على ما كان لابن دريد من صيت في علم العربية وتعليمها فنال فيها شهرة ومكانة هيأت له أن يتقلد النظر في “ديوان الإنشاء” للإمارة كما هيأت له وفرة المال الذي أعانه على إنجاز أهم مؤلفاته “جمهرة اللغة” وأجمل أشعاره وهي (المقصورة)، ثم أوصل جغرافية المعرفة إلى بغداد سنة 308 شيخا نيّف على الثمانين ليجعل من حاضرة بغداد العلمية محطته الأخيرة حتى وفاته سنة 321 هـ. مهاد الشعر والشاعرية لقد تمكن ابن دريد لسعة دائرته العلمية والتعليمية من أن يوجد آصرة إبداعية بين “معجمه اللغوي” وإلهامه الشعري؛ طّوع المعجم إلى صوغ فني تتماهى فيه حرفيّة اللغوي وفنيّة الشعر، فاختار انزياح قاعدية اللغة ومثالية البنى النحوية إلى بنيان أسلوبية معدولة بلغة المجاز والدلالة باللغة إلى “معنى المعنى”، وهذا يعني أن الشاعر “يستنفذ إمكانيته اللغوية في توليد بنيات أسلوبية متميزة” وعليه ركزت الأسلوبية على “الاختيار” كمدخل لقراءة النص. تميز بقوة الذاكرة وسرعة الحفظ ومجالسته لأهل العلم معلماً ومتعلماً، ويذكر “انه تصدر للعلم ستين سنة” حتى حقّ فيه القول: “ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء”، وهذه السمة لم تكن معتادة إلا عند القلة بين العلماء الذين وازنوا بين النزعة الفكرية والنزعة الوجدانية وقد اختار “أبو الطيب اللغوي” لهذا التوازن بين المعرفتين عند ابن دريد وصف (التزاحم) قال: “ما ازدحم العلم والشعر في صدر أحد ازدحامهما في خلف الأحمر وابن دريد”. ولابد لنا في هذا الموضع أن نذكر موقف النقاد من شعر العلماء فقد ذكر ابن قتيبة 276 هـ أن أشعار العلماء كالخليل بن أحمد الفراهيدي “بينة التكلف ليس فيها شيء جاء عن اسماح وسهولة كشعر الأصمعي وابن المقفع خلا خلف الأحمر فإنه كان أجودهم طبعا وأكثرهم شعراً”. ومن صدف الأحكام النقدية أن تقترن مقدرة ابن دريد الشعرية بمقدرة خلف الأحمر عند أبي الطيب، ولذلك كان يقال “ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء”. وقد عدّ المسعودي ابن دريد شاعر المكان والزمان بقوله: “كان ابن دريد ببغداد ممن برع في زماننا هذا في الشعر، وكان يذهب بالشعر كلّ مذهب، فطورا يجزل وطورا يرق وشعره أكثر من أن نحصيه”. ومن المحدثين وصفه عبد السلام هارون بالقول: “كان عالما وطبيعة العلم في معظم الأمر تعارض طبيعة الشعر... لذلك كان من النادر أن يجتمع العلم والشعر في صدر واحد، لكن الأقدمين شهدوا لابن دريد بالشعر وحفظ التاريخ لنا أقوال كثير من العلماء في ذلك لغة الشعر وأسلوبية الاختيار”، ولعل تماهي لغة المعجم والشعر في حيّز فكري واحد عند ابن دريد جعل للغة الشعر عنده خاصية من أولى خصائص الأسلوبية، يقول عبد السلام المسدّي: “إن الرصيد المعجمي يتزاحم على لسان المتكلم عندما يهم بالكلام فإذا اختار مفردة... انسحبت مرادفاتها من السلسلة الكلامية... وقد استغل هذا المتصور المزدوج في الدراسات الأسلوبية منذ بلور جاكبسون نظريته في تعريف الأسلوب بكونه (إسقاط محور الاختيار على محور التوزيع) مع الأخذ بنظر الاعتبار المكون الثقافي للشاعر (إذ لا يمكن إدراك لغة الشعر وفاعليتها تبعاً لتصورات لغوية عامة لا تضع في اعتبارها فاعلية التجربة الشعرية وخصوصيتها وفرديتها) التي ميزت لغة الشعر عند ابن دريد بظاهرة رد العجز على الصدر، والجناس الاشتقاقي والاستبدال في مفردات اللغة واشتقاقها والتكرار وغرابة التشبيه... كل ذلك يدخل في خصوصية اختياره وتوزيع مفرداته في بنياته الأسلوبية”، ذلك أن الاختيار الواعي يخضع بالضرورة لمعطيات اللغة وسننها ولقواعد النحو وأصوله... إن أهمية أن يكون اللغوي شاعرا ترتكز على مبدأ أساسي: إن موضوع الشعرية ليس اللغة على وجه العموم بل شكل من أشكالها، وقدرة الشاعر على توليد هذا الشكل من عموم اللغة هو الإبداع بذاته ولأن ابن دريد يجمع بين اللغة وفن الأدب، ومبدع الأدب ينطلق أصلا من ثروة لغوية يختزنها في رصيده المعجمي فيصنع فيها لغة جديدة وبهذا يمكن القول إن أثر اللغة في شعرية ابن دريد هو قدرته على جعل نصه الشعري لغة من لغة أي أنه (مبدع كلمات) تتجلى في قدرته على تخليص الكلمات من قيود الاستعمال النفعي، بإدخالها في تجاور سياقي إبداعي له خاصية الشعر لا المعجم. لذلك توزع اختيار ابن دريد اللغوي بين التعليم الذي اقتضى الحكمة وأغراض الشعر الأخرى التي قيدت إبداعه أحيانا كالمديح، حيث يقتضي توخي الفهم والإفهام ومراعاة مقتضى الحال في استقبال النص واستجابة المتلقي... اختيارات الرواية أما اختياره في مجال الرواية فهو اختيار في دائرة أوسع وإذا أمكن القول في الأسلوب بأنه “محصلة من الاختيارات المقصودة بين عناصر اللغة القابلة للتبادل”، فمن المحتم أن يكون هذا الاختيار معبراً عن قدرة الشاعر على تصريف اللغة القابلة للتبادل في مجالات متنوعة تعزز دائرة اختياره (في إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة)، على حد تعبير أهل البلاغة وهذه الطرق يمكن حدّها في اختيارين: ـ اختيار نفعي: محكوم بالمقام حيث يعمد الشاعر إلى إيتاء كلمة أو عبارة على أخرى لأنها أكثر (مطابقة لمقتضى الحال)، عندما يتوخى الشاعر استجابة “المتلقي” ولاسيما في مقام المدح والغزل... والحكمة في مجال التعليم... ـ واختيار قاعدي أو مثالي: يخضع لقوانين النحو ويرتبط هذا الاختيار بإيثار الشاعر كلمة على كلمة أو عبارة على عبارة لأنها أفصح أو أدق في التعبير عن الغرض وإصابة القصد... ولذلك تلح النظريات الأسلوبية على إبراز مبدأ الاختيار في كل عملية خلق فني، إذ هي تنفي عفوية الحدث الأدبي اعتماداً على أن كل صوغ لساني فني هو ضرب من الاختيار الواعي يستقصي به إثبات آليات الوسائل التعبيرية الملائمة لغرضه مما تمده به اللغة، فاللغة مادة الشعراء في الصوغ الفني للقصيدة، ويتفاوت الشعراء في أسلبة هذه اللغة بفعل ذاتي ليعكس تجربة الشاعر وقدرته على تحويل تصوره وخياله إلى صور (فالقصيدة لا تعني ولكن تكون)، وهذه الكينونة خصوصية كل شاعر في اختيار مفرداته وتراكيبه وقدرته التخييلية على توليد الأبنية الإبداعية على رأي من شبه الأسلوب (بالمرآة العاكسة لشخصية المنشئ الفنية وطبيعته الإنسانية) وعليه قول ابن دريد في توصيف الشاعرية: بالشعر يبدي المرء صفحة عقله فيعلن منه كل ما كان يكتمُ وسيّان مَن لم يمتط اللّب شعره فيملك عطفيه وآخر مفحم فالشاعر “ذو لب” يمتلك عطفي الشعر “اللغة والتخييل” وإلا فسيان شاعر بلا شاعرية ومفحم؛ وعليه فإن العلماء بالشعر يعلمون (أن اختيار ألفاظ الشعر ليس بالأمر السهل لأنه اختيار يخضع لعدة معطيات) أهمها أن يكون الاختيار مراعياً المقام (المتلقي) وثقافته، وهذا ما أدركه النقاد في السياق الزمني للنقد بدءاً من ابن سلاّم الذي وصف الشعر (بأنه صناعة وثقافة كسائر أصناف الصناعات يعرفها أهل العلم بها) وانتهاء بمن قال: (بأن الشعر صناعة واعية) وهذه الصناعة يثقفها وعي الشاعر وقصده فمرّة يُغلّب اللغة باختيار غريب اللغة ومرّة يغلّب الذات... فيرق ويبالغ ولاسيما في قصائد المدح والغزل... حيث تتجلّى ذاتية الشاعر وفرديته في الغرضين فبلوغ الغاية عند الممدوح مقصد استثنائي لدى الشاعر لا يقبل المنافسة... ليجزل له العطاء كما يقول ابن قتيبة، والغزل لغة مختارة لاستمالة القلوب لأن (الحب لائط في القلوب) وهو غرض لا يقبل المنافسة أيضاً، غايتان تأنق الشعراء بهما وتألقوا في غلوهم بصورهما... يقول ابن دريد: حجر بن أحمد فارع الشرف الذي خضعت لغرّته طُلَى الأعناق قبّل أنامله فلسن أناملاً لكنهن مفاتح الأرزاق وانظر إلى النور الذي لو أنه للبدر لم يُطْبَع برَيْنِ محاق وليس أدل على المبالغة في المدح من قوله: فارع/ الشرف، خضعت/ الأعناق... أنامله/ مفاتح الأرزاق، وقال في موضع آخر: فأنت السماء التي ظلّها إذا أزال أعقبه الصيلم وأنت الصباح الذي نوره به ينجلي الحادث المظلم وأنت الغمام الذي سَيْبُهُ ينال الثراء به المعدمُ فمن نال من كرم رتبة فيومك من دهره أكرم فأنت السماء/ الصباح/ الغمام... على سبيل التشبيه المؤكد... وليس بعد المبالغة مبالغة في أن يكون نائل الكرم في يوم... يغنيه كرم دهره... ولكن في أغراض الشعر الأخرى يكون خيار اللغة ودلالاتها على القصد هو ديدن الشاعر في تجربته وواقعيته... ويتجلى ذلك في سوق الحكمة في الرثاء.. من ذلك قوله في رثاء الطبري: من صاحب الدهر لم يُعدم مجلجلة يظل منها طوال العيش منكوبا إن البلية لا وفر تزعزعه أيدي الحوادث تشتيتاً وتشذيبا فمجلجلة/ وتزعزعه/ مقترنة بحوادث الدهر ونكباته (تشتيتا وتشذيبا) مناسبة في اختيارها للرثاء. وقال: ومن يعدم الصبر الجميل فإنه وجدّك لا من يعدم الأمر مُعدِمُ إذا أجشمت جياشة مصمئلة قفت إثرها دهياء صماء صيلم على أنني والحكم لله واثق بعزم يفضُ الخطبَ والخطبُ مبهمُ وصف وقائع الدهر بما يلائمها من الألفاظ/ أجشمت جيّاشة، مصمئلة/ دهياء/ صماء صيلم... ليست سوى اختيار معجمي خبير، كأنه يلابس دلالة الألفاظ دلالة حافة موحية بظلال الألفاظ الجياشة بقرائن الخطب والخطب “مبهم”، لقد كان ابن دريد يتحرى غريب اللفظ في شعره ويستقصي دلالته في اختياره. يقول ابن دريد: سألت أبا حاتم السجستاني عن اشتقاق “ثادق” اسم فرس فقال: لا أدري، وسألت الرياشي فقال يا معشر الصبيان إنكم لتعمقون في العلم، وقال: سألت أبا عثمان الأشنداني فقال: هو من ثَدَق المطر من السحاب إذا خرج خروجاً سريعاً نحو الودق، وحكى ابن دريد أيضا، قال: سألت أبا حاتم السجستاني عن قول الشاعر: وجفر الفحل فأضحى قد هجف واصفر ما اخضر من البقل وجف فقلت ما هجف؟ فقال: لا أدري، فسألت الأشنانداني فقال هجف: إذا التحقت خاصرتاه من التعب وغيره والأشنانداني من علماء البصرة روى عنه ابن دريد كتاب “معاني الشعر” وشرحه... ولعله آثره بين من كان يأخذ عنهم لمكانته اللغوية ومن ذلك قوله: أنشدني أبو عثمان الأشنانداني يصف ناراً: وشعثاء غبراء الفروع متينة بها توصف الحسناء أو هي أجمل دعوت بها أبناء ليل كأنهم وقد أبصروها معطشون قد أنهلوا قال: جعلها شعثاء لتفرق أعاليها بالدخان، كأنها شعثاء الرأس، وغبراء يعني غبرة الدخان. وقوله بها توصف الحسناء، فإن العرب تصف الجارية فتقول كأنها (شعلة نار)، وكأنها (بيضة روضة) يقول: بها توصف الحسناء أو هي أجمل حُسناً منها، والمتينة المشرفة و(المعطش) الرجل الذي عطشت إبله. وقوله (دعوت بها أبناء ليل) و”أبناء الليل” كناية عن طرّاق الليل من الضيوف، ويعني أضيافاً دعاهم بهذه النار. وليس هناك داع وإنما دعاهم بضوئها، فلما رأوها كانوا من السرور بها كأنهم معطشون قد أنهلوا، و(الناهل) أيضا الذي سقى إبله أول سقية (من الأضداد). الاختيار وسجال القوافي وتشير الدراسات إلى طبيعة اختيار ابن دريد لقوافيه محاكاة للشعر الجاهلي، من قبيل مقارنة قصيدته الصادية بقصيدة عدي بن زيد العبادي والتي مطلعها: أبلغ خليلي عبد هند فلا زلت قريباً من سواد الخصوص يقول أبو العلاء على لسان راويته ابن القارح في رسالة الغفران: أحسنت والله لو كنت الماء الراكد لما أسنت: وقد عمل أديب من أدباء الإسلام قصيدة على هذا الوزن وهو المعروف بأبي بكر بن دريد قال: يُسعد ذو الجد ويشقى الحريص ليس لملق من قضاء محيص أين ملوك الأرض من حمير أكرم من نصت إليهم قلوص فما كان لأبي العلاء أن يناظر بين شاعرين يقف الزمن بينهما شاهداً على فضل السابق على اللاحق لو لم يكن ابن دريد قد ارتقى بشعره إلى أصول الشعر الراسخة في ديوان العرب... إن شهادة أبي العلاء الشاعر هي شهادة نقدية لمكانة ابن دريد بين شعراء عصره، تنبني عليها أول خاصية لابن دريد الشعرية وهي (اختيار المركب الصعب) في بناء القصيدة وتلك خاصية كان الشاعر ابن دريد يستعين عليها بالعالم ابن دريد فيمدّه بمخزون ثقافي ثرّ وحصيلة لغوية كبيرة مكنته من مركب القوافي الصعبة مثل قافية الثاء، والصاد، والضاد، والطاء، والظاء، كقوله على قافية الثاء: أماطت لثاماً عن أقاح الدمائث بمثل أساريع الحقوف العثاعث ولاثت تثني مرطها دعص رملة سقاها مجاج الطل عب الدثائث فإن لا تكن بتت نياط فؤاده فقد غادرته في مخاليب حنابث وتتوالى قوافيه على هذا المنوال بغرابة لا يجلّيها للفهم إلا معاجم اللغة وأهلها: وهل يحفل البحر اللُّغام إذا غمى فطاح على تيارها المتلاطث والمتلاطث لا يعرفها إلا ابن دريد وأهل اللغة وتعني: المتلاطم.. واللغام: الزبد.. وغمى: غمر. على أن قافية الثاء من القوافي التي لا تُحمّد لازمتها الموسيقية عند ابن سنان الخفاجي، قال: وأنا أكره من قول كثير بن عبد الرحمن صاحب عزّة: وما روضة بالحَزن طيبة الثرى يَمُجُ الندى جثجاثها وعرارها وكره ابن سنان ذكر “الجثجاث” لأنه اسم غير مختار قال: “ولو أمكنه ذكر غيره كان أليق” وقال: ولا أحب أيضا تسمية أبي تمام صاحبه “علاثا” في قوله: قف بالطلول الدارسات علاثا أضحت حبال قطينِهِنَ رثاثا وإن كان الروي قاده إلى ذلك، فليت شعري من حذر عليه القوافي واقتصر على الثاء دون غيرها من الحروف قال: “وليس يغفر للشاعر لأجل ما يلزم به نفسه... واعتمد تكلّف النّصَب طوعاً واختياراً وهوى وقصداً” ثم أردف القول: والبدوي صاحب الطبع في هذا الفن أعذر من القروي المتكلف والقياس على هذا الحكم في قول ابن دريد: ونضت عن الغصن الرطيب سوالفاً يشب سناها لون أحوى جثاجث وحسبك يا ابن سنان بعد هذا قوله: متماكث/ عثائث/ الدلائث/ المغائث/ الطرائث... وهكذا يجري سيل الثاء في قصيدة من اثنين وتسعين بيتاً لم يُبق في “جمهرة اللغة” ثاء إلا جاء به في أعقد صوغ فني وأمتن أسلوب عزز قدرته التي ميزته بين شعراء عصره. من بنياته الأسلوبية لعل أسلوب ردّ العجز على الصدر يعد ظاهرة أسلوبية واضحة في بنية شعره، ومن سمات تلك الظاهرة الاستدراك على الصدر في العجز كقوله: ليس السليم سليم أفعى حرّة لكن سليم المقلة النجلاء نظرت ولا وسن يخالط عينها نظر المريض بسورة الإغفاء وقد وظّف بنية ردّ العجز على الصدر توظيفاً معرفياً بصيغة ما يعرف “بالجناس الاشتقاقي” والتكرار/ السليم/ سليم المقلة النجلاء؛ نظرت/ نظر المريض؛ وفي ما يُقصر ويُمَدّ والمعنى مختلف وهو من نوع الجناس الناقص قال: لا تركننّ إلى الهوى واذكر مفارقة الهواء... يوماً تصير إلى الثرى ويفوز غيرك بالثراء وهكذا يتناوب المقصود والممدود في تجانس اللفظ وتباين المعنى، رجا/ الرجاء، الصفا/ الصفاء، الفتى/ الفتاء، السنا/ السناء، الخلا/ الخلاء، النسا/ النساء، العشا/ العشاء، الخوا/ الخواء، العَر/ العراء، الحفا/ الحفاء، النقا/ النقاء، الفَرا/ الفراء، الحيا/ الحياء، الورى/ الوراء، النجا/ النجاء، الدوا/ الدواء، وحى/ الوحاء، السفا/ السفاء، البرى/ البراء، الفنا/ الفناء، العمى/ العماء، الجلا/الجلاء، الفضا/ الفضاء، الذكا/ الذكاء، القفا/ القفاء، الملا/ الملاء، الجدا/الجداء، الصبا/ الصباء، الكرى/ كراء، الإبا/ الإباء. وللتكرار خاصية تعبيرية في السياق الشعري تشكل نغماً موسيقياً يقصده الشاعر (وأكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعاني)، قال مكرراً لفظة “قرطاه” في ثمانية أبيات: قرطا مهري العنان وشيكا فحري لمهري التقريط قرطاه نعم المؤازر في الرد ع لأخلامه ونعم الربيط قرطاه أحوى احم عليه لتمام الذكاء والعنق ليط قرطاه لمقلتيه شعاع ولراديه في اللجام غطيط وفي تعريضه بالباهلي اللغوي كرر (ما) الاستفهامية في ثمانية وثلاثين بيتاً ابتدأها بقوله: فيا للناس ما الزيم إذا فُصِّل أو دُهدق وما التتميم في الميسـ ـر إن جُمع أو فرقَ وما الكهدل في الحيــ ـل والكافر في اليملق وفي هذه القصيدة تجلّى اختيار ابن دريد كل صيغ غريب اللغة وحوشي الكلام وقد تعمّد ذلك لأن الآخر المتقصّد في تلقي القصيدة لغوي فأراد أن يجعل من القصيدة عرضاً لمعجمه وتعريضاً بمن يخاطبه... ومن صيغ التكرار، تكرار لفظة (أم) الاستفهامية، و(إن) التوكيد كررها في اثنين وعشرين بيتاً في قصيدته التي وسمها بعنوان “في أخلاق الناس” ابتدأها بقوله: وإن عاينوا حبراً أديباً مهذبا حسيباً يقولوا إنه لمخاتل... وإن مات قالوا لم يمت حتف أنفه لما هو من شر المآكل آكلُ وجرى هذا المجرى في تكرار (أم) و(أي) و(كيف) ومن الظواهر الأسلوبية المطردة في شعره استعمال (لو) في مواضع متعددة، أحصينا منها عشرين موضعاً اختارها الشاعر لتجلّيه صور مستحيلة الوقوع كقوله: فلو أن حياً كان قبراً لميت لصيّرت أحشائي لأعظمه قبرا ولو أن عمري كان طوع إرادتي وساعدني المقدار قاسمتك العمرا ومن مبالغاته التي تدخل في سياق تكرار (لو) قوله: ولو حمى المقدار منه مهمة لرامها أو يستبيح ما حمى تغدو المنايا طائعات أمره ترضي الذي يرضى وتأبى ما أبقى قيل: (البيتان من غلو ابن دريد في مقصورته) من أفانين شعره وندخل في أسلوبية الاختيار عند ابن دريد وفنه وامتلاكه ناصية الفن الشعري، ومن ذلك تفرده في نظم “المثلثة” و”المربعة” وهما عمل فني هندسي محكم لم يشع في الشعر العربي القديم ولم يُعرف لأحد من الشعراء غير ابن دريد هذا الضرب من ضروب النظم المتسم بموسيقى خاصة، يتردد فيها حرف القافية في بداية كل بيت من أبيات المربعة وكأن القصد منه إشاعة التناغم الصوتي لأجراس حروف المعجم على أنه في المثلثة “اختار” عالم الحكمة مصوغاً في قالب موسيقى طريف، عدّه أحد الباحثين إضافة إلى التراث الشعري العربي منذ الجاهلية ولاسيما ما عُرف به شعراء القرن الثاني مثل “صالح بن عبد القدوس” الذي يمكن أن يتشابه نَفَس ابن دريد في شعر الحكمة مع نفَسه وتجربته في الحياة. يقول ابن دريد في مثلثته التي اتخذ الحكمة موضوعاً لها: ما طاب فرع لا يطيب أصله حمى مؤاخاة اللئيم فعله وكل مَن واخى لئيماً مثله من آمن الدهر أتى من مأمنه لا تستثر ذا لبد من مكمنه وكل شيء يُبتغى من معدنه لكل ناع ذات يوم ناعي وإنما السعي بقدر الساعي قد يهلك المرعيَّ عتبُ الراعي وهكذا تستمر المثلثة واحداً وثلاثين مقطعاً بنيت جميعها على بحر الرجز في نفس شعري صاف يصوّر ثقافة ابن دريد وخلاصة تجربته في الحياة التي تضيف إلى اختياره الشعري (الحكمة) في قالب موسيقي أخاذ تفرد في إضافته إلى ديوان الشعر العربي. وأبدع ابن دريد فن (المربعة) الذي لم يشع في الشعر العربي القديم ولم يقع لأحد غير “ابن دريد” النظم على هذا النمط الموسيقي وذهب الدكتور أحمد درويش إلى القول: “إن كثيرا من علماء العروض المعاصرين لم يصلوا إلى هذا الفن ولم يصنفوه بين الإمكانيات التي عرفها الشعر العربي لتنويع القافية”، وبيّن أن “مربعة” ابن دريد تختلف اختلافاً تاماً عن أي نظام عرفه الشعر العربي، ولها نظامها الخاص أجمله في النقاط الآتية: يتكون كل مقطع من أبيات المربعة من أربعة أبيات أي ثمانية أشطر. يعتمد كل مقطع قافية موحدة يتكرر حرف القافية في أوائل الأبيات فيما يمكن تسميته بنظام “القافية المعكوسة”. تتوالى مقاطع المربعة على نظام توالي الحروف الأبجدية، وهكذا تصبح المربعة تسعة وعشرين مقطعاً أي مائة وستة عشر بيتاً. يلتزم كل مقطع منها بحراً معيناً. تدور المقاطع كلها حول الغزل، ويقدم كل مقطع فكرة مستقلة؛ توحدها علاقة موضوعية من خلال اتباع هيكل بنائي محكم على النحو الآتي: (الهمزة) أول البيت وقافيته: أبقيت لي سقماً يمازج عبرتي مَن ذا يلذ مع السقام لقاء أشمت بي الأعداء حين هجرتني حاشاك مما يشمت الأعداء أبكيتني حتى ظننت بأنني سيصير عمري ما حييت بكاء أخفي وأعلن باضطرار أنني لا أستطيع لما أجن خفاء حتى ينتهي بحرف (الياء) قائلا: يرجى اصطباري وأي اصطبار يكون لقلب عميد جريّ يقول إذا ما الهوى شفه لقد خص قلبي بداء دويّ يبيت على مثل جمر الغضا وإن بات فوق مهاد وطيّ ينام الخلي وما للشجيّ رقاد إذا طال نوم الخليّ وبلواه قدر لا فكاك منه إلا “مجاورة الترب” فأي اصطبار يرجى/ لمن شفه الهوى/ بداء دوي/ وكيف يواتيه الرقاد/ على مهاد/ مثل جمر الغضا/ ويختم حكايته بقاعدة أهل الهوى الأزلية/ ينام الخلي/ وللشجي طول السهر. وكأنه بذلك يستحضر رائعة الشاعر الجاهلي الأسود بن يعفر النهشلي التي مطلعها: نام الخلي وما أحس رقادي والهم محتضر لديّ وسادي فيما اصطلح عليه اليوم بـ”التناص” والمتون تستدعي المتون عند أهل العلم بالشعر وصنّاعه “وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم بها”، وبحرف الياء آخر حروف الأبجدية تنتهي “المربعة” بغنائية شاجية تستلب الألباب وتثير الإعجاب، بفن شعري أبدعه ابن دريد الذي ملك ناصية “اللغة” والشاعرية فأغنى مغاني قوافيها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©