الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جلباب أبي

جلباب أبي
31 أكتوبر 2013 21:44
منح الله الناس الأرزاق والعقول، لكنهم جميعاً لم يرتضوا بالأرزاق ورفضوها وقالوا هل من مزيد ولا يشبعون ولو أعطاهم أودية من ذهب، وفي الوقت ذاته ارتضى الجميع بعقولهم أياً كان مستواها، بل وكل واحد يعتبر نفسه صاحب الفكر والحكمة وأنه دائماً على صواب والآخرون على خطأ ولا ينطبق هذا على الغرباء وحدهم، ولكن بين أفراد الأسرة الواحدة وخاصة بين الآباء والأبناء أو ما يسميه العلماء المتخصصون صراع الأجيال، باعتبار أن التطور في الحياة يجعل الخلافات أمراً طبيعياً، لكن عدداً كبيراً من الآباء لا يدركون ذلك ويعيشون في الماضي، ويرفضون أي رأي يخالف آراءهم ولا يسمحون للأبناء أن يعيشوا حياتهم حسب التطور، كما قال الإمام علي رضي الله عنه إن أبناءكم خلقوا لزمان غير زمانكم. رجال أشداء أنا وأبي مثال واضح لهذا الخلاف وبداية أشهد وأقر وأعترف بأن أبي هو في عيني أعظم رجل وأب في الدنيا كلها وفي الماضي والحاضر والمستقبل، فقد كان مثالاً للكفاح وتوفي أبوه وهو في السادسة من عمره وخرج للعمل وهو في هذه السن، وفي طفولته المبكرة عمل في حرف تحتاج إلى رجال أشداء أقوياء وتعرض لكل أنواع القهر والمهانة من أصحاب العمل، لكنه تحمل من أجل ان يحيا ومن أجل لقمة العيش، فلم يرث عن أبيه شيئا يذكر ويقيم مع أمه وأخته في بيت ريفي هو أقرب إلى الكوخ، ولا يجدون ما يظلهم من حرارة الصيف ولا ما يحميهم من أمطار وبرد الشتاء، ولم يكن وحده الذي يعمل وإنما كذلك أمه وأخته في أعمال شاقة لا تناسب النساء، لكن الحاجة أجبرتهم على ذلك واضطروا لقبول تلك الأعمال ليظلوا على قيد الحياة وتسير بهم وتقلبهم الدنيا على كل جانب بين يوم مر ويوم أشد مرارة أملاً في بزوغ شمس يوم جديد يودعون فيه الفقر الذي يلازمهم ويرفض أن يتركهم ويتشبث بهم وهم لا يريدونه ويدفعونه دفعاً وتزوجت أخته وحصل هو على مؤهل عال، وكان باراً بأمه إلى أن انتقلت إلى الرفيق الأعلى وأصبح وحيداً في الدنيا. وظيفة جيدة حصل أبي بعد كفاح أيضاً على وظيفة جيدة يحصل منها على راتب عال وأخلص وتفانى في عمله، وقد اعتاد بذل كل جهد وجنى الثمار بشكل يفوق ما كان يحلم به، وإن لم يخل الأمر من بعض العثرات في الطريق عندما تقدم لخطبة ابنة رئيسه المباشر في العمل عن طريق زميلة له، لكنه فوجئ بالرد الذي لم يحسب له حساباً رفضه الرجل لأسباب واهية غير مقنعة، حيث قال: إن ابنته لا تفكر في الزواج الآن وفي طريقها لاستكمال دراستها العليا للحصول على الماجستير والدكتوراه، وكذلك هناك اتفاق قديم لتزويجها من ابن عمها، وأبي يعلم أن هذا كله غير صحيح، وتأكدت ظنونه بعد ذلك بأن سبب الرفض أن رئيسه في العمل رآه غير مناسب لابنته، لأنه بلا حسب أو عائلة وهو عيب لا يد له فيه ولا يمثل نقيصة أو لا يعد عيباً أصلاً، لكنه تعلم من التجربة القصيرة وبدأ يبحث عن فتاة تناسبه. زميلته نفسها هي التي رشحت له عروساً أخرى من أسرة بسيطة كافح أبوها لكي تتعلم وتحصل على مؤهل جامعي تتسلح به في مواجهة الحياة، التقى بها ووجد فيها ما يريد ويتمنى وحمد الله على هذا النصيب، وتأكد أن المنع كان منحاً في حد ذاته، لأن ربه اختار له الأفضل، لكن المشكلة الأولى التي واجهت العروسين قبل أن تبدأ حياتهما أن كلاً منهما يعمل موظفا في مدينة مغايرة ولم يكن أمامهما إلا أن يقيم كل منهما في المكان الذي يعمل فيه ويلتقيا في عطلة نهاية الأسبوع أو أن يتنازل أحدهما عن عمله بالحصول على اجازة من دون مرتب، مع أنهما في أمس الحاجة إلى المال تحسباً لقدوم أطفال قريباً، ولقد اختارا الحل الأول بأن يظل كل واحد منهما في عمله، لكن بعد أشهر قليلة لم يستطعا أن يتحملا هذا الوضع الصعب، وقررت الزوجة التي هي أمي التنازل عن عملها مؤقتاً وحصلت على إجازة لتبقى معه بشكل دائم. لم الشمل واستقر المقام بأبي وأمي وهما يدخران كل ما يقع في أيديهما من مال قل أو كثر، وكلاهما قد تعلم الادخار ولا يعرفان الإسراف ولا التبذير، إلى أن تم نقل الزوجة إلى عمل في نفس المدينة التي يقيم فيها زوجها والتأم الشمل بشكل جيد حتى جئت إلى الدنيا وكانت حواديت وحكايات وقصص ما قبل النوم دائماً من واقع حياة أبي وأمي ولم تكن من الروايات أو القصص الخيالية، وقد كان الهدف منها واضحاً بأن أعرف وأتذكر باستمرار ما تعرض له كل منهما في حياتهما وأعيش في الماضي وأعرف ما أنا فيه من نعم، وكذلك إظهار حجم المعاناة التي عاناها كل منهما حتى وصلت أسرتنا إلى ما نحن عليه، ثم جاء إلى الدنيا أخي وأختي. أبي وأمي نبع للحنان الصافي ومثال للتفاني وحب الأسرة والتضحية من أجل الآخرين، ولهما حلم واحد وهو أن يريانا في أحسن حال واستقرار بلا معاناة كما عانى كل منهما من قبل وهذا شيء يحمد لهما بكل المقاييس، لكن من هنا أيضاً يبدأ الخلاف، على سبيل المثال أنا أحب لعب الكرة وهذا متاح لي في المدرسة وفي مركز الشباب ولم نكن من مشتركي الأندية، لكن أبي يرفض ذلك ويراه مضيعة للوقت وهو من اللهو ولا يجوز ذلك، وأنه لم يكن في حياته كلها قد لعب أو مارس أي نوع من الألعاب وفشلت في إقناعه بأن الدنيا تغيرت ومن ناحية أخرى فإن ممارسة الرياضة ضرورة صحية ولم يتغير موقفه، ولم تزل أسباب رفضه، حتى في الإجازة الصيفية التي لم أكن فيها ملتزما بدراسة أو دروس، وقد كنت أختلس بعض الوقت لممارسة تلك الرياضة التي أعشقها، وكان الممنوع مرغوباً ويتكرر ذلك كثيراً، مما يجعل أبي يضبطني بالجرم المشهود وأنا ألعب الكرة مع أصدقائي وأقراني فينهرني ويشتمني أمامهم، وهو لا يدرك أن ذلك يؤثر علي نفسياً، وقد تسبب هذا الخلاف في إحداث شرخ في علاقي بأبي مع أنني أحبه جداً وكلي ثقة أيضا بأنه يحبني. فرص العمل الخلاف الثاني الذي استجد في حياتي عندما حصلت على الثانوية العامة وكنت أرغب في الالتحاق بكلية الآداب وأجبرني على الالتحاق بكلية التجارة، لأنه يرى أنها الأفضل من ناحية فرص العمل ويمكنه مساعدتي في الحصول على فرصة عمل بعد التخرج وقبلت صاغرا مضطرا كي لا أخالفه، وإن كان ذلك قد أثر على قدراتي في التحصيل الدراسي وكدت أتعثر، ونجحت بتقدير مقبول في السنة الأولى لأنني كاره للمواد التي أدرسها وفي الأعوام التالية بدأت أتأقلم معها مع بذل المزيد من الجهد والمذاكرة حتى تخرجت في النهاية بتقدير عام جيد. خلال كل هذه السنين وأبي يرفض أن أشارك في رحلة مدرسية أو جامعية مرة بحجة الخوف علي، ومرة أخرى لأن الرحلات أيضا نوع من اللهو غير المفيد ولا يجوز لأمثالنا ذلك، ومرة ثالثة لأن ميزانية الأسرة لا تسمح وهناك أولويات أكثر أهمية من هذا الترف، وفي الوقت الذي يحدث فيه ذلك أرى أصدقائي وأقراني ينعمون بلعب الكرة وبتشجيع من آبائهم، بل ويذهبون معهم ويؤازرونهم وكل من أعرفهم درسوا في الكليات التي اختاروها لأنفسهم بلا تدخل ويتمتعون بتلك الرحلات التي كنت أتوق إليها ومع رفض أبي كنت آتيهم بحجج وأسباب ملفقة، وأعتذر عن عدم المشاركة قبل أن أعود إلى رأي أبي، لأنني أعرفه مسبقاً، وبالفعل عندما كنت أفاتحه يأتيني الرد كما كنت أتوقع فأحمد الله أنني اعتذرت قبل أن أضع نفسي في موقف محرج. اختيار العروس حتى عندما أردت الزواج والاستقلال بحياتي تدخل أبي في اختيار العروس، صحيح لم يكن لي أي نوع من الارتباط بأي فتاة، لكنني أضع في رأسي مواصفات أتمناها في شريكة حياتي ووجدته أيضاً يرشح فتاة من هنا وفتاة من هناك ويكون اختياره على اعتبارات زمانه لا اعتبارات زماني وعلى مقاييس حياته ولا ما يناسبني، وكل ذلك بلا نقاش أو مجال للرأي، وهذا أيضاً مع ثقتي في أنه يعمل من أجل مصلحتي ووافقت على واحدة من اللاتي رشحهن أبي، رأيت فيها كثيراً مما أتمنى وحدث بيننا تقارب رغم أن خطبتنا كانت تقليدية ولم يحدث بيننا ما يحدث في زماننا من حوارات ونقاشات بين المخطوبين حتى ولو في وجود أفراد الأسرة، ولذلك لم أعرف كثيراً من طباعها وأجهل شخصيتها. إلى هنا لم يتوقف تدخل أبي في حياتي وأنا غير قادر على مواجهته ولم أجرؤ على رد آرائه التي لا تناسبني فإذا به يختار لي الشقة التي سأقيم فيها ونوع الأثاث والمفروشات والأجهزة الكهربائية، وكلها من الأذواق القديمة التي لا تصلح لجيلنا، وإن لم أكن قادراً على المواجهة والرفض فلم تكن خطيبتي تخضع لنفس القيود، وأبدت رفضها لهذا كله وأعلنت حقها في اختيار أثاث البيت الذي ستسكنه والمفروشات الحديثة والستائر والأجهزة كما تفعل كل الفتيات، وهنا نشبت أزمة كبرى بين الأسرتين واشتد الخلاف ووصل إلى حد فسخ الخطوبة، ومع ذلك لم يتراجع أبي قيد أنملة عن رأيه ولم يتزحزح، رغم أن هذا لا ينقص منه شيئاً وتشبث برأيه كما يفعل كل مرة وتم بالفعل فسخ الخطبة ومضى كل إلى غايته من دون أن يبدي أبي ندمه ولا أن يتراجع أو يراجع نفسه بأن الدنيا قد تغيرت وأن زماني غير زمانه. الآن يريد أن يعيد الكرة ويخطب لي عروساً أخرى ولا أدري ماذا أفعل وأنا لا أريد أن أغضبه أو أخالفه، وهذا كله يحدث وأمي على الحياد لا تتدخل فهي حائرة بيننا.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©