الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صوت البلاط في آذان الشعب

صوت البلاط في آذان الشعب
2 نوفمبر 2011 21:14
ظلت العلاقة بين الموسيقى الكلاسيكية الغربية والناس عموما ـ بغض النظر عن ثقافاتهم ـ تتسم بقدر من العسر يتفاوت بين متلق وآخر، سواء كان هذا المتلقي شخصا أو مجتمعا. وينطبق هذا الأمر حتى على المنتمين إلى الثقافات الغربية المفترض أن أحد ثمارها هو هذا الفن نفسه. ولدى أغلبية الناس اعتقاد أن الموسيقى الكلاسيكية هي ضرب من الفنون إما نميل إليه أو نفرّ منه، وأن أولئك الذين يميلون إليه إنما هم فئة بعينها تتميز في الأغلب برخاء العيش والتعليم الأكاديمي العالي وغير ذلك من متطلبات فئات الصفوة. هذا غير صحيح. فأولئك الذين يقولون إنهم “لا يستمعون” إلى هذه الموسيقى فقط لا يدركون أنهم يستمعون إليها في أحيان تزيد كثيرا عما يعتقدون. فعند مشاهدة فيلم سينمائي روائي مثلا ـ وإن كان عربيا ـ أو فيلم وثائقي أو برنامج إخباري على التلفزيون، على سبيل المثال وليس الحصر، يكون هذا المشاهد قد استمع الى النغم الكلاسيكي بدون إدراك واع منه بذلك. وهذا لأن الموسيقى المصاحبة لهذه الأفلام عادة ما تكون “كلاسيكية” بمعنى أنها من تأليف أحد عمالقة هذا الفن القدماء، أو أُلّفت حديثا ولكن على النمط نفسه. وهذا المقال فاتحة طواف على مختلف مناحي الموسيقى الكلاسيكية الغربية وأعظم رموزها. وستركز الحلقات المقبلة على بعض أهم صنّاع هذه الموسيقى وتتناول سيرهم وأبرز أعمالهم في مسعى ليس سهل المنال وهو الإفاضة في الإيجاز. في التعريف ما هي الموسيقى الكلاسيكية الغربية إذن؟ التعريف السريع لا يتأتى في جملة أو اثنتين بسبب التنوع الهائل في طرازات هذه الموسيقى وأشكالها وأساليبها وتطورها وأدوارها التاريخية. لكن ثمة عناصر تسهل المهمة شيئا ما وأولها الحقبة التاريخية. هذه الحقبة تبدأ بالقرن السادس عشر وتنتهي مع إسدال الستار على القرن التاسع عشر. وسبب تحديد هذه المساحة الزمنية هو ان الفترة التي سبقت القرن السادس عشر غير واضحة المعالم في ما يتعلق بأشكال الموسيقى نفسها (مثل السيمفونية والكونشيرتو) وأن القرن العشرين شهد انصراف الجماهير العريضة عن هذا النوع من التأليف الموسيقي الى أنواع أخرى أكثر مرونة وأقل تعقيدا وبالتالي أكثر شعبية. والواقع أن مصطلح “الموسيقى الكلاسيكية” نفسه لم يظهر إلا في أوائل القرن التاسع عشر محددا حقبتها الذهبية بين اثنين من كبار عباقرتها، وهما يوهان سباستيان باخ ولودفيغ فان بيتهوفن. وتخبرنا المصادر بأن قاموس أوكسفورد الانجليزي أشار إلى هذا المصطلح للمرة الأولى عام 1836. مميزات واضحة وقد ميزت الموسيقى الكلاسيكية الغربية نفسها في تلك الفترة عن أشكال الموسيقى الكلاسيكية الأخرى، مثل الهندية واليابانية والصينية بعدة أشياء. فقد جمعت الغربية ما يمكن أن يسمى “الموسيقى الدنيوية” إضافة إلى الدينية، بينما كانت الهندية واليابانية والصينية “مرآة موسيقية” للتعاليم والقصص الدينية الهندوسية والبوذية. العنصر الثاني ـ الأكثر أهمية على الإطلاق في حفظ تراث الأمم موسيقيا ـ هو إن الموسيقى الكلاسيكية الغربية تميزت عما عداها بنظام النوطة الموسيقية. هذا يعني تدوين الموسيقى على الورق بما يحدد سلم العمل على لوحة مفاتيح البيانو ومواقع النغمات على تلك اللوحة والفترة الزمنية بين كل نغمة وتاليتها، إضافة إلى الإيقاع الذي يجب أن يتبعه العمل الموسيقي أو سرعته إذا كان الإيقاع المنتظم ليس مطلوبا. وهكذا صار تدوين الموسيقى على هذا النحو ـ في تلك الحقبة على الأقل ـ حكرا على الحضارات الغربية دون الأخريات. لكن هذا التدوين أتى للموسيقى الكلاسيكية الغربية بأثر سلبي تمثل في “تعليبها”. بعبارة أخرى، صار العمل الموسيقي ـ بسبب تدوينه على الورق ـ غير قابل لتقديمه إلا بالصورة التي كتب بها. فلم تعد ثمة مساحة لتأويله على صور أخرى أو تلوينه تبعا لمزاج العازف أو قائد الاوركسترا. وهو بهذا يقف على طرف نقيض مع، على سبيل المثال، موسيقى الجاز التي تعتمد على الارتجال بشكل رئيسي. وإضافة إلى اتخاذها من “الهارموني” (تناغم الأصوات على اختلاف درجاتها) سلسلة فقرية لها، تجد الكلاسيكية الغربية في آلاتها الموسيقية إحدى سماتها الرئيسية. فمثلا، بينما تتألف فرقة البوب أو الروك عادة من قيثارين كهربائيين أو ثلاثة والطبول إضافة، في الآونة الأخيرة، الى “الكيبورد” الإلكتروني، فلا آلات كهربائية أو إلكترونية عندما يتعلق الأمر بالموسيقى الكلاسيكية لسبب جلي وهو وقوع عصرها خارج حقبة هذه الآلات. أشكال رئيسية الموسيقى الكلاسيكية تعزفها، في السواد الأعظم من الأحوال، اوركسترا مؤلفة من الآلات الوترية وآلات النفخ النحاسية والخشبية (إضافة إلى الطبل الكبير وآلات الإيقاع والنقر إذا استدعاها الأمر). وقد اتخذت لها أشكالا معينة أهمها: السيمفونية: هذه مقطوعة مطولة لأوركسترا كاملة تقع في أربعة أجزاء تسمى “حركات”. وفي أغلب الأحوال يكون أول هذه الحركات سريعا ويتألف هو نفسه من ثلاثة أقسام (تسمى “سوناتا فورم”) يحدد أولها “النَفَس العام” للسيمفونية، ويخرج الثاني منه تماما قبل أن يعود إليه الجزء الثالث. وتكون الحركة الثانية بطيئة على عكس الثالثة الخفيفة الأقرب إلى الراقصة. أما الحركة الرابعة فتكون مثل الأولى في سرعتها وأجزائها الذي يأتي ثالثها بالسيمفونية ككل إلى ختام يتسم عادة بالصخب والقوة. الكونشيرتو: مثل السيمفونية في أنه يقع في أربع حركات (أو ثلاث في أحوال عدة)، لكنه يختلف عنها في أنه مؤلف لآلة موسيقية معينة، على الأغلب الكمان أو البيانو وإن لم يكن حكرا عليهما. وبينما تكون السيمفونية مؤلفة للأوركسترا عامة، تصبح مهمة هذه الأخيرة في حالة الكونشيرتو هي مصاحبة الآلة المختارة في حلها وترحالها. السوناتا: مقطوعة لآلة واحدة أو لأوركسترا صغيرة. سادت بشكل أساسي في عصر الباروك في أوروبا (القرن السابع عشر). وكانت في ذلك الوقت تعني “الموسيقى الصرف” تمييزا لها عن “الأغنية”. موسيقى الصالونات: مؤلفة لأوركسترا صغيرة بحيث يحتويها صالون المنزل إضافة إلى أصحابه وضيوفهم. وهكذا لم تكن في ذلك الزمان للعامة وإنما لعلية القوم في حفلاتهم الخاصة. وهي تتخذ من هذه “الحميمية” أهمية اجتماعية أكثر من كونها خروجا على المألوف في ما يمكن أن يقال عن الموسيقى الكلاسيكية بشكل عام. الرباعي الوتري: وهو الرباعي المكون من كمان رئيسي وآخر ثانوي مصاحب وفيولا (الكمان الكبير) وتشيلو. وهو تشكيل وجد له مكانة خاصة في موسيقى الصالونات بفضل أنه العدد الأقل من أفراد الأوركسترا الذي يمكن أن يحتويه صالون في منزل خاص. وأهم ما يمكن ذكره هنا هو أن باستطاعة هذا الرباعي “تقليد” أعمال أوركسترالية كبيرة بتوفيره أربعة أصوات من الهارموني المطلوب في الموسيقى الكلاسيكية. الأوبرا: هذا النوع من “الغناء الكلاسيكي الغربي” له حديث آخر سيأتي في ما بعد. وكل ما يمكن أن يشار إليه الآن هو أن الصوت البشري يظل أفضل “آلة موسيقية” على الإطلاق. وأخيرا، في ختام هذه العجالة يبقى القول إن الموسيقى الكلاسيكية عانت من وصمها قديما بأنها للبلاط الملكي والنبلاء، وحديثا بأنها للميسورين والمثقفين. ومع أن من الصحيح أنها لم تكن موسيقى الطبقات العاملة في الغرب، يظل في ذلك الحكم شيئا من التجني، بدليل أن موتسارت فشل في سعيه الى الوصول إلى البلاط لكنه حقق شعبية كبيرة وسط العامة. ومع ذلك يتعين الإقرار بأن الموسيقى الكلاسيكية صارت ضحية سعيها إلى الكمال بتركيباتها الهارمونية الطويلة المعقدة وكونها ايضا “معلبة” وتفتقر إلى المرونة. وفي مواجهة الأنماط الشعبية الأخرى القادرة على التطور وتغيير جلودها كما شاءت، أصبحت الكلاسيكية، من حيث لا تريد، موسيقى النخبة. لكن هذا يجب ألا يحجب عنا جمالها الذي يقف في أحايين كثيرة على عتبة الإعجاز.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©