الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حاكمة قرطاج الجامحة

حاكمة قرطاج الجامحة
2 نوفمبر 2011 21:15
كتاب “حاكمة قرطاج: الاستيلاء على تونس” الذي صدر في فرنسا قبل فرار الرئيس السابق في يناير 2011 بأشهر معدودة، صنع الحدث وأثار ضجة لكشفه عن حقائق كثيرة من سيرة ليلى بن علي زوجة الرئيس المخلوع، والكتاب هو من تأليف نيكولا بو وكاترين غراسييه، وكان ممنوعا توزيعه في تونس، وبعد الثورة انقلب الحال وأصبح الكتاب متداولا، وشهد إقبالا كبيرا من القراء ممن يحسنون اللغة الفرنسية، وهذه الأيام وبعد الاطاحة بالرئيس بن علي تمت ترجمة الكتاب الى اللغة العربية، والملفت ان تسعة أشخاص تولوا ترجمة الكتاب وثلاثة تولوا المراجعة والتحرير، مما يرفع عدد الذين اشتركوا في إعداد الكتاب للنشر باللغة العربية إلى 12 شخصا، وهو على ما يبدو رقما قياسيا، ولا شك أن الناشر كان يريد الإسراع بإصدار الكتاب وهو ما يفسر هذا العدد الكبير ممن اشتركوا في تعريب الكتاب ومراجعته وتحريره. دور المرأة بيّن المؤلفان، وهما رجل وامرأة، انه في تونس بلاد الياسمين تدرس التونسيّات ويعملن ويحببن ويطلقن ويسافرن بحرية وهي حرية قلما بلغتها المرأة في تاريخ العالمين العربي والإسلامي، وإن النساء في تونس اليوم يشكلن ربع الفئة النشيطة في المجتمع، وخير مثال على ذلك أنهن يمثلن ثلث فئة المحامين وثلثي الصيادلة. وإذا كان هذا هو الوجه المشرق لدور التونسيات في الحياة العامة فإن بروز ليلى بن علي كان كارثيا، ويجزم المؤلفان ان ليلى بن علي الزوجة الشرعية للجنرال بن علي منذ 1992، هي إلى إيلينا تشاوسيسكو أقرب بل لعلها كانت أردأ وأسوأ منها. والجدل الذي أثاره الكتاب من خلال استعراضه لسيرة ليلى بن علي هو التالي: هل الحضور السياسي البارز للنساء التونسيات والذي لا مثيل له في البلدان المغاربية ولا في إفريقيا وسائر البلدان العربية. هو مجرد درائع لتوطيد دعائم سلطة تبدو مواقفها في نهاية الأمر غامضة في خصوص مسألة المرأة أم هل مارست النساء التونسيات فعلا السلطة السياسية؟ أم كن في الحقيقة مرتهنات يراد بواسطتهن إضفاء شرعية على نظام أوتوقراطي مثلما ما عبرت عن ذلك الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وهي جمعية مستقلة عانت من المضايقات أثناء فترة حكم بن علي؟ ويظهر من خلال مختلف فصول هذا الكتاب، إن لا شيء بات قادرا على كبح جماح الثنائي الشيطاني المؤلف من زين العابدين وليلى بن علي، فبواسطة القمع البوليسي والقانون المنظم لعمل العصابات والمحسوبية والدسائس السياسية نجحا في إخضاع الدولة لسلطانهما وسلطان عصابات المافيا التابعة لهما وبذلك تمكنا من إنشاء سلطة تنفيذية موازية خفية. عصابة مافيا وجاء في الكتاب إن قوة التأثير التي كسبتها ليلى بن علي من القوى المتصارعة في قصر قرطاج بصبر وذكاء لا يرقى إليهما شك قد استخدمتها بمعية عائلتها لنهب تونس، واستنتج المؤلفان ان زمرة ليلى الطرابلسي هي نتاج تكريس سافر للتداخل بين عالم الأعمال وعالم السياسة، ودعمها الجنرال بن علي بواسطة التهديد بالتصفية الجسدية وتطويع العدالة واستغلال اسم الدولة لتحقيق المنافع. ويقول الكتابان إننا إزاء حالة من السطو الوحشي على الملك العمومي تمارسه بطانة من السياسيين ورجال البوليس والعسكريين وأصحاب الأعمال والمرتشين الذين يدينون بالولاء جميعا للسيدة الأولى. لهذا فإن عائلة الطرابلسية لم تعد مجرد زمرة بسيطة لكنها تحولت بمرور الوقت إلى عصابة شبيهة بعصابة المافيا، فعملاؤهم يهددون خصومهم وكل من يريد منافستهم في إبرام الصفقات واقتسام الغنائم ويزجون بهم في السجون أحيانا أو يعتدون عليهم بالضرب المبرح في ركن خفي وقد يصل الأمر أحيانا إلى اغتيالهم أو اختطافهم وإجبارهم على الاختفاء. ولكي تتمكن ليلى بن علي وأقاربها من ممارسة أعمالهم المشينة فإنهم كانوا يحتمون بالدولة فيوظفون بعض أصحاب الشهادات العليا والخبراء الأكفاء ممن يحذقون أساليب التعامل مع صندوق النقد الدولي ويدركون جيدا اشتراطات الاتحاد الأوروبي. وحلل الكتاب الأساليب التي اعتمدتها ليلى بن علي لفرض نفسها فقد اختارت بحكم مكرها وانتهازيتها، وفق تعبيرالمؤلفين، قضيتين اجتماعيتين لتتصدر المسرح السياسي الوطني والدولي وهما: قضية المعوقين التي تديرها عبر جمعية “بسمة” وقضية المرأة مستغلة في ذلك وسائل الإعلام التي ما فتئت تعيد بث خطاباتها في التلفزيون وتنقل زياراتها لمراكز اجتماعية. أما الصحافة التي كانت رهن إشارتها فلم تنقطع تغدق عليها مقالات المديح والثناء. قوة الأذى هناك حكاية تعبر أحسن تعبير عن قوة الأذى التي تملكها ليلى بن علي كشف عنها الكتاب وخلاصتها: محمد جغام رجل يحظى بثقة الرئيس فهو وزير دفاع سابق، ووزير داخلية سابق، ومستشار رئاسي خاص سابق، ووزير داخلية سابق، ومستشار رئاسي خاص سابق، وقد تعززت هذه الثقة بما اشتهر به الرجل من استقامة ونزاهة. لكن ذلك لم يحمه من صواعق ليلى. ففي 2007 رأى محمد جغام أنه من المفيد أن ينبه الرئيس بن علي إلى أن عائلة الطرابلسي، وهي عائلة زوجة الرئيس تفرط في الرشوة والفساد، فابتلي بتتبعات صنيعه إذ تسربت تنبيهاته إلى ليلى فوجد المسكين نفسه “منفيا”، سفيرا في روما، ثم عرض عليه المنصب نفسه في بيكين فرفضه مخيرا نيل حقه في التقاعد والانخراط في مجال الأعمال. غير أن اختصاص ليلى بن علي يظل دائما حسب ما كشف عنه الكتاب النهب الاقتصادي الشرس لصالح أقاربها. فقد أصدرت أمرا إلى مختلف الإدارات كي تحيطها علما بكل مشروع يقع التفكير في بعثه وتفوق كلفته مليون دينار (وهو ما يعادل 600000 أورو تقريبا). هذا ما شدّد عليه سليم بقة الصحفي المعارض اللاجئ في باريس الذي أضاف قائلا: “إذا وجدت ليلى صفقة تهمها من قريب، فإنها هي التي تحدد من من أفراد العائلة سيستفيد من هذه الصفقة فهي تقوم مقام راعية نظام المافيا الذي استقر في تونس”. مخدرات وسرقات كشف المؤلفان أن الرئيس بن علي قد تدخل سابقا لدى فرنسا كي يخلص أحد أفراد عائلته الذي تورط في قضية، وهذا القريب هو أخوه الحبيب الذي اشتهر باسم المنصف. في بداية التسعينات كان هذا الأخ حديث الناس في فرنسا في إطار قضية “كسكسي كونكشن” وهي عبارة عن الإتجار بالمخدرات بين فرنسا وهولندا وتونس، وكان منصف متورطا فيها وعندما كانت الشرطة الفرنسية تتهيأ لإيقافه تدخلت السلطات التونسية لدى باريس حتى لا يتم تتبعه وأجّرت طائرة خصيصا كي تحضر له من تونس جواز سفر دبلوماسي كان بمثابة العصا السحرية التي ساعدته على مغادرة الأراضي الفرنسية. لكن القضية المذكورة أخذت منعرجا آخر في مايو 1992 إذ تم إرسال بطاقة جلب ضد أخ الرئيس بن علي فبدأت الدعاية عملها لتبرئة المنصف، وانبرت الصحافة تندد بالحملة الإعلامية المنظمة في فرنسا وقد سعى القصر الرئاسي حتى إلى نفي أن تكون لرئيس الدولة صلة بتاجر المخدرات غير ان هذه الحجة لم تكن مقنعة بالطبع إلا أن هذا المتهم حكم عليه غيابيا بعشر سنوات سجنا قبل أن يتوفى فجأة إثر نوبة قلبية حسب الرواية الرسمية في 1996. ومن بين القضايا التي شغلت الرأي العام التونسي والفرنسي، سرقة عماد الطرابلسي ابن شقيق ليلى بن علي، يختا فخما على ملك شخصية فرنسية مالية وذلك عن طريقة شبكة مختصة في السطو وسرقات اليخوت الفخمة، ولما تم اكتشاف اليخت راسيا في ميناء مدينة سيدي بوسعيد وحصول فضيحة سرقته من قبل عماد الطرابلسي ووصول المسألة الى القضاء الفرنسي، لم تبق ليلى بن علي مكتوفة اليدين بل تحركت هي أيضا لمساعدة إبن شقيقها على التخلص من براثن العدالة الفرنسية، حتى بلغ بها الأمر طلب النجدة من زوجها إذ توجهت إليه مخاطبة في اختصار شديد: “افعل شيئا كي لا يقع تتبع عماد” غير أن طلبها هذا اعتبر متأخرا حسب بعض الملاحظين المطلعين والذين أفادوا بأنها حاولت في بادئ الأمر أن تتصرف في الأمر بمفردها ذلك أن محمد علي القنزوعي مدير الأمن الرهيب لم يعلم الرئيس بوصول اليخت المسروق إلى سيدي بو سعيد عملا بأوامر ليلى. علم بن علي بالموضوع بعد أن أعلم مدير ديوان جاك شيراك نظيره التونسي مما أغضب الرئيس غضبا شديدا وأدى إلى إقالة القنزوعي من منصبه. إن الوضعية المتعلقة بقضية اليخت المسروق تبدو أكثر تشعّبا نظرا للمنزلة التي تحظى بها شخصية مالك اليخت (بيروما). لم يشأ قصر الإيليزيه أن يجنح إلى الصفح لو لم يكن الظرف الديبلوماسي دقيقا: كان مقررا أن يؤدي الرئيس ساركوزي زيارة رسمية إلى تونس في ابريل 2008 وكان مشروع “الاتّحاد من أجل المتوسط” في طور المخاض، وسعيا إلى تهدئة الخواطر أرسلت باريس مبعوثين، إلا انهما لم يفلحا في التخفيف من سورة غضب ليلى بن علي. لقد انتقمت هذا المرأة بطريقتها إذ امتنعت عن المشاركة في استقبال الرئيس الفرنسي وزوجته كارلا بروني ساركوزي، ولم يعثر لها على أثر لا لدى وصول الثنائي الرئاسي الفرنسي إلى تونس، ولا أثناء حفل العشاء الذي نظمه الرئيس بن علي بالمناسبة... لا شك أن وفاة والدتها المسماة “الحاجة نانا” قبل بضعة أيام ترك في نفسها بالغ الأثر إذ كانت شديدة التعلق بها، لكن ذلك لا يبرر هذا الغياب. لا أحد مغفل فتنطلي عليه هذه المراوغات والثابت أن ليلى فعلت ذلك بسبب غضبها الشديد أيضا من زوجها الذي تعاتبه على التقصير في حق عماد الطرابلسي فلم يسع له سعيه لأخيه منصف بن علي، بل إنها صعدت الأزمة بأن غادرت تونس لأسابيع عدة قضتها في باريس ودبي وجهتيها المفضلتين. في أغسطس 2009 بدأ غضب ليلى يهدأ قليلا إذ أن عماد الطرابلسي أفلت من قبضة العدالة الفرنسية بعد أن أعلن المدعي العام بمدينة باستيا أنه لا يرى ضرورة مثول عماد الطرابلسي أمام القضاء الفرنسي، ولا ضير أن يحال الملف على أنظار العدالة التونسية بحجة ان تونس لا تسلم أحدا من رعاياها لمقاضاته خارج تونس. وتجدر الإشارة بأن عماد الطرابلسي هو حاليا في السجن بعد إلقاء القبض عليه يوم 14 يناير 2011 يوم فرار بن علي. الإعداد للخلافة وكشف الكتاب إنه في فترة حكم بن علي الأخيرة اشتد الحراك في أروقة قصر قرطاج وبدأت أسماء المرشحين لخلافة زين العابدين بن علي تظهر في مواقع الإنترنت: كعبد الوهاب عبدالله وزير الشؤون الخارجية وقتها، عبد العزيز بن ضياء المستشار الخاص لرئيس الجمهوريّة ـ وهما الآن في السجن ـ الهادي الجيلاني رئيس منظمة أصحاب الأعمال وحليف ليلى بن علي الوفي، كمال مرجان وزير الدفاع ثم وزير الخارجية الذي تربطه أواصر متينة بالولايات المتحدة الأمريكية، دون أن ننسى بطبيعة الحال الشاب صخر الماطري صهر الرئيس الذي رجّح الكثيرون فوزه بالخلافة. لكن الحديث عن هؤلاء المرشحين لا يمكن وفق ما جاء في الكتاب أن يحجب المرأة التي تقود في الخفاء جوقة الطامعين: ليلى بن علي “حاكمة قرطاج”. وهي في اعتقاد مؤلفي الكتاب خير وريثة “نسوية” لوسيلة بن عمار زوجة بورقيبة اللامعة وسعيدة ساسي ابنة أخت المجاهد الأكبر وراعيته في آخر حياته. إلا ان ليلى تفوقت في هذا المضمار على سابقتيها الأكبر منها سنّا فلم يكن يشغلها الشّأن السياسي فحسب بل حرصت بفضل شبكتها العائلية الواسعة على إرساء قاعدة اقتصادية ومالية صلبة لفائدة زمرتها بكيفية محكمة امتزج فيها الاستحواذ على الأملاك العمومية بنشر الفساد وتسخير القضاء والتهديد بالتصفية الجسدية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©