الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن علاقة الشرق بذاته وبالغرب أيضا

عن علاقة الشرق بذاته وبالغرب أيضا
2 نوفمبر 2011 21:20
ينتمي فيلم “دائما براندو” من إخراج رضا الباهي، إلى ما يمكن وصفه بأنه “النزعة التجريبية” في “المدرسة” السينمائية والمسرحية الفنية التونسية التي باتت ترقى الآن إلى أكثر من أربعين عاما. وكان الفيلم من أواخر عروض مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي التي انعقدت في الفترة بين 13 و23 أكتوبر الحالي، مشاركا في مسابقة الفيلم الروائي للمهرجان، غير أنه لم يحظَ بأي من جوائز المسابقة على الإطلاق. وتحديدا ينتمي الفيلم إلى المنطق الفني الصارم لتلك النزعة التي قامت في نماذجها الراقية والأصيلة على المبررات الفنية أولا وليس على المواقف الإنسانية أو السياسية لهذا المخرج أو ذاك او سواهما من الممثلين المشاركين في الفيلم، أو حتى مدير التصوير الذي غالبا ما يلعب دورا خطيرا في بناء الكادر وطريقة تصويره وكيفية تقديمه للمتفرج من زاوية بعينها دون أخرى. بمعنى أن الجماليات بالدرجة الأولى في أفلام رضا الباهي كما في “دائما براندو” هي جماليات الصورة، التي هي معادل بصري ونفسي للشخصية والحدث في سياق بناء الدلالة الواسعة والكبرى للعمل الذي يشرف على تفاصيله الباهي. هكذا، وبصرف النظر عن شكل الفيلم أهو من السينما الواقعية أو التعبيرية أو ماء شاء المتفرج على هذا الفيلم أن يصنفه، فإن الحكاية أقرب ما تكون إلى مساحة خضراء تلتقي فيها شخصية من الفيلم، او عدد من شخصياته أو حتى المخرج الباهي على مستوى الرؤية والتحليل البصري للواقع الاجتماعي، مع المتفرج في مساحة واحدة من التلقي وإعادة إنتاج الدلالة في أفق تجربة إنسانية تخص كل واحد منهما على حدة، وهذه واحدة من الخصائص التي حققها الباهي كميزة لفيلمه تخصه دون غيره، أي مقدرته على طرح قضايا كبرى، إذا جاز التوصيف، ببساطة الصورة وعمقها بل ودهائها مثلما ببساطة الشخصية وعاديتها أيضا. إن ما يثير هذه الأفكار حول “دائما براندو” أنه متعدد الأشكال، فهو ليس روائيا فحسب إنما خليط من الروائي والتسجيلي وسينما المؤلف معا، يرفعه رضا الباهي كابتهال إلى أولئك السينمائيين العرب والأجانب الذين تعلم منهم شيئا أو أشياء، ومن بينهم “أعظم ممثلي عصرنا” بعبارة أحد الشعراء الأميركيين المعاصرين، مارلين براندو الملهم للكثير من المخرجين والممثلين في العالم. أي أن الفيلم في آخر الأمر هو فيلم شخصي، لكن المخرج ووفقا لرؤية تركيبية بصرية استطاع أن يحول ما هو فكري ونتاج قراءته للواقع من حوله عبر سنين طويلة من العمل السينمائي إلى سينمائي صُوَري محض تختلط فيه “ذات المخرج” بـ”آخر” أوّل هو المتلقي العربي بالدرجة الأولى. وربما أن الفيلم في الأصل لم يكن، على مستوى السيناريو أقلها، على نحو ما ظهر عليه، حيث كان من المفترض لمارلين براندو أن يكون ممثلا في هذا الفيلم لكن انطفاء “النجم”وموت بشارته قد جعلت رضا الباهي يقوم بإحداث تحوّل في مجريات الفيلم وأحداثه. يروي بعضا من ذلك رضا الباهي الذي يظهر في فيلمه فيقول بأن براندو كان من المفترض أن يؤدي دورا في الفيلم هو الدور ذاته لممثل تونسي شاب يشبهه كثيرا (أنيس الرعاش) في فترة متأخرة من عمر الأخير. لكن ما من تغيير جوهريا، على ما يبدو، في الفكرة الأساسية للفيلم وظلّت كما هي تطرح علاقة “الآخر” بالمنطقة إنما من منظور مختلف. رضا الباهي هنا يشير إلى الفرق الإنساني الجوهري في تعامل براندو الإنسان أولا فالمثقف والممثل تاليا بشأن الكومبارس في البلاد العربية التي تمّ تصوير أفلام غربية فيها. من هذه الزاوية التي قد تبدو ضيقة جدا يبدأ الباهي رحلته مع الممثل الشاب الذي يشبه براندو حيث يتم استغلاله تماما كما تمّ استغلال الكومبارس العربي. غير أن الشاب الذي يعمل نادلا في مقهى في قرية سياحية نائية يتعلق بحلم براندو ويقرر الهجرة إلى هوليوود، لكن أحلامه تتبخر إذ يقضي غرقا في رحلته العبثية إلى هوليوود حيث نجمه المفضل مرورا بأوروبا، وكان الأصل في الحكاية أن يبلغ “أنيس” المدينة الأميركية لوس أنجليس حيث يقيم براندو لحظة ما يتم نقله إلى المستشفى ليموت هناك. في الفيلم أيضا، يقدم الباهي نوعا من التوثيق لعلاقة ربطته ببراندو “مَنْ أنا ليوافق هذا الأيقونة السينمائية التاريخية للعمل ممثلا في أحد أفلامي بعد أن شاهد عددا منها مما يعود تاريخه إلى السبعينات؟” يتساءل الباهي المخرج ـ الشخصية في الفيلم مستعرضا بعضا من الأفكار السياسية لبراندو كعلاقته بقضايا السود والهنود الحمر والفلسطينيين أيضا. وكانت مجمل هذه الآراء على ما يبدو مدخلا آخر لدى الباهي في الدخول إلى شخصية براندو في هذا الشريط الذي لا يتجاوز زمنه الساعة والنصف. يبقى براندو حاضرا في الفيلم بمستوياته الثلاثة، لكنه في الفيلم الذي في الفيلم ويتعلق بحكاية أنيس مع فريق عمل فيلم أميركي يجيء إلى القرية لاستكمال تصوير مشاهد الفيلم يبدو الممثل الراحل ملهما للفنان الشاب، الذي يلاحق حلمه الخاص حتى موتهما معا، الحلم والشاب، بل وحلم حبيبته التي تنازلت عن جسدها لصاحب دكان كي يستكمل حبيبها متطلبات هجرته غير الشرعية. هكذا تختلط مستويات الحكاية لتصير أشبه بحلم ليس سعيدا وكابوسيا أحيانا، فالمخرج الأميركي الذي يوهم أنيس بأنه على صلة صداقة به لم يكن إلا انتهازيا كسابقيه من مخرجي الغرب ولم يكن الإلحاح على شَبَه أنيس ببراندو سوى شَرَك أوقعه فيه المخرج ليصطاده ثم ليغادره بل أن يمسك بجرة وعوده له ويكسرها أمامه كما لو أنها جرّة من خزف. أيضا هناك اهل القرية: المعشوقة، وقارئة الكفّ وزوج الأم العنيف وألم المستسلمة لقدرها، وصديق أنيس الضخم والحمق معا لكن البريء والطيّب إلى حدّ الصفاء. نتعرف إلى كل ما يدفع بشاب مثل أنيس إلى أن يهجُر حبه الأول إلى حتفه الأخير، كالقمع المركّب الذي لا يترك فرصة لعاطفة أن تتنفس أوكسجينا في أجواء نقية، والعلاقات الإنسانية التي تتبدل وتصبح زائفة بضغط الواقع الاقتصادي، ثمّ دائما ذلك الخوف من المستقبل الذي يتخذ شكل عدم الرغبة في التغيير. الصورة السينمائية أيضا تتحدث وتقول ذلك، فلم يحتج رضا الباهي إلى فضاءات مدينية أو متخيّل استشراقي ليقول كل ما يود أن يقوله هو بالذات معبرا عن رؤيته تجاه كل ما يحدث حوله وله، لكن الرجل يقولها بالإشارة والدلالة وإدارة الممثل وتحفيزه على التعبير عن ذاته بأدواته. ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى البعض من الأفلام السينمائية التي جعلت من رضا الباهي جديرا باسمه مثلما هو جدير بموقعه الفني المتميز في لحظتنا الراهنة بين المخرجين العرب لا التوانسة وحدهم: “العتبتات الممنوعة” 1972، و”شمس الضباع” 1975، و”الملائكة” 1983، و”السنونو لا يموت في القدس” 1994، و”صندوق عجب” 2003 وسواها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©