الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جمال الغيطاني.. نفَسٌ منْ أنفَاس المُتصوّفة

جمال الغيطاني.. نفَسٌ منْ أنفَاس المُتصوّفة
28 أكتوبر 2015 23:01
1.بسرعة حان موعد رحيلك. كنت أشتاق إلى لقائك بعد طول مدة عن آخر لقاء بيننا في واشنطن سنة 2009. لكن رحيلك كان أسرع. وهل لنا أن نقرر في توقيت موعد الموت؟ عبارة موجزة عن وفاتك، ضمن قائمة أخبار يوم الأحد 18 أكتوبر، على شاشة التلفزة، تختصر كل ما لم أكن أنتظره. أنت وأنا ودعنا في سنواتنا الأخيرة أصدقاء مشتركين، آخرهم عبدالوهاب المؤدب. وها أنت بدورك ترحل. أشاهد الاسم وأصمت. لا أحتاج إلى كلمات الوداع. نظرتك شاخصة بكل صفائها، بعيدة ووحيدة. باتجاه الأهرامات تنظر، وباتجاه نجيب محفوظ تبتسم، وباتجاه فاس تترك الكلمات تطير في سماء الأرض جميعاً. تبادلتُ وصديقنا سعيد الكفراوي عبارات الأسى على طول عنائك ووفاتك. ثم ظفرتُ لاحقاً بصوت ماجدة. كلماتي معها عن الصبر على آلام الفقدان كانت متعثرة. وهي كانت تبادلني عبر الهاتف كلمات منكسرة، كلها حزن ودعوات وشكر على الاتصال. لم أبحث عن كلمات التعزية. فأنا دائماً أرتبك في النطق بها. لأن الموت عتبة تؤدي إلى الشعور بعبث الوجود. شعور تربّى معي عبر الزمن، ولا يفارقني. من خلاله أرى زوالي وفنائي، ومن خلاله أحس أن موت الأصدقاء شخصيٌّ جداً، ولا شيء يعوض عنه. كل واحد أفتقده من بينهم متفرد، له ما لا يبلغه سواه. فلا مفاضلة بين صديق وصديق. لذلك أعرف عن يقين أنني لن أعثر على من سيحل محل الصديق الذي أفقده. بل حتى كلمة «خاصة»، التي نستعملها عن بعض الأصدقاء لعجزنا عن الخيال، لا تليق بفقدان صديق. كل واحد من الأصدقاء تبقى مكانته كما كانت من قبل، في لحظات تبادل الفرح بالحياة. أدركني الصمت على إثر قراءة الخبر. وفي الصمت امّحت الكلمات من ذهني. حدادٌ تنقصه الكلمات. كان بودي لو يطول الصمت، لو يتفرع إلى شجرة أتفيأ في ظلها. عزيزي جمال. كنت أسمع في دواخلي هذا النداء وأصمت. نداء لا أعرف هل هو لقريب أو بعيد. نداء في شكل دقات القلب، ذلك القلب الذي عذّبك وأخذك. حكيت لي، ونحن في واشنطن، عن العملية الجراحية التي أجريت لك على القلب المفتوح، وكنتَ متيقناً من أن بقاءك على قيد الحياة هبة إلهية. في نطقك بكلمة «الحياة» كان نغمٌ ينقل أصوات الحروف إلى تأليف موسيقي. كلمة واحدة هي نفسُها ولا نفسُها. أوتار الحلق تتحرك فيما الكلمة لا تتحرك. الحياة نغم على لسانك، بطبقات صوتية متباينة. 2.كان لنا أول لقاء في فاس، بمناسبة ندوة الرواية العربية الجديدة، التي كان نظمها اتحاد كتاب المغرب بين 21 و24 من شهر سبتمبر 1979. وفي صباح اليوم الموالي لانتهاء الندوة، 25 سبتمبر، توجهنا جماعة، أنت وعبدالحكيم قاسم وإدوار الخراط ومحمود أمين العالم وصديقي محمد حميمش وأنا لزيارة المدينة القديمة. بمجرد ما أقبلنا على باب بوجلود، أشهر أبواب المدينة، تبدلت سحنة وجهك. سطعت في عينيك إشراقة، لعلها عادت إليك من عهود لا عدّ لها. وفي الخطوات المتباطئة كنت تسأل، أو كنت تتوقف وتتأمل، أو تعلق، أو تقارن بين فاس والقاهرة. لم أفاجأ بدهشتك أمام عتاقة فاس وما تمثله من أسرار عمرانية، وحياة يومية تحافظ على ثقافة مغربية أندلسية. كان مشهد الأسواق يتوالى في سلسلة من الألوان يؤاخي بعضها بعضاً. وأنت تمسك ذراعي وتسأل. ولأنني ابن فاس، الذي عاش في الخمسينيات والستينيات بين بيوت وأسواق ومساجد وأضرحة، كنت لا أتلكأ في تقديم المعلومات والشروح مما تعلمت من أبي، ومن أفراد عائلتي، أو مما تعلمت بنفسي من كتب التاريخ التي كنت محباً لها. ومن اللحظات الجليلة، التي ارتويت بها، تلك التي دخلت فيها إلى مسجد القرويين وفتحت حواراً مع إمامها. كنت تريد أن تفهم سر انحراف القبلة نحو الجنوب، بدلاً من توجهها نحو الشرق. وفهمتَ كيف أن انحراف قبلة القرويين خصيصة معمارية في مجموعة من مساجد الشمال الإفريقي، كما هو الحال في الزيتونة وفي الأزهر نفسه. في مدرسة العطارين استحوذ عليك الهيكل المعماري، وأخذك جمال الزليج، بتنوعه وتناسقه، في تركيب هندسي يطوف بالجدران. فوق الزليج أحزمة ولوحات من الجبس المنقوش، ثم في الأعلى أفاريز من الخشب، حفرت عليها آيات قرآنية بخط مغربي أندلسي سميك. في وسط المدرسة صهريج ماء دائري من الرخام للوضوء. في الداخل قاعة للصلاة والدراسة. وفي الطابق العلوي غرف إيواء الطلبة، الوافدين على فاس للدراسة في القرويين. زمردة تشهد على هندسة العمارة المغربة الأندلسية في عهد المرينيين. ثم وقفنا عند جامع عين الخيل. ذكرت لك أنه المسجد الذي كان ابن عربي يلازمه ويؤدي فيه صلواته. كان يسميه «الجامع الأزهر». فيه عاين النور وهو يصلي بجماعة صلاة العصر، عام 593هـ / 1197م. قال عنه: «فرأيتُ نوراً يكاد يكون أكشف من الذي بين يدي». حدقتَ في المئذنة السداسية الأضلاع، السابقة على النموذج الموحدي للمئذنة الرباعية الأضلاع. تقدمت نحو باب المسجد وأخذت تكلم نفسك، بكلمات لم أتبيّنها. كنت في حالة قصوى من الغبطة، وتخيلت أنك كنت تتلو التحية والسلام على الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. عندها فهمت أنك شاهدت في فاس ما لم تكن تتخيل أنك ستشاهده من الجلال في حياتك. وفي سهرة مع جوق البريهي للموسيقى الأندلسية كانت لك الجذبة. لم تتوقف عن متابعة المقاطع بنشوة تغيب فيها عنا جميعاً. كنت في عالم من الشطح لا يدركه إلا المهيأون لمقام الكشف. كنت أشعر أن الموسيقى الأندلسية انتقلت بك إلى حيث لا بداية ولا نهاية للنشوة. طيلة السهرة كنت تقف وتشارك بطريقتك العفوية في الإنصات والدخول في الجذبة. وقبل مغادرتك فاس تيقنتُ أن ما ربطته فاس بيننا سيدوم دوام الحياة. 3. هل تتذكر يا جمال لقاءنا الموالي في القاهرة، ونحن الثلاثة، أنت وبهجت عثمان وأنا؟ كان ذلك في أكتوبر 1982، بمناسبة مشاركتي في مؤتمر حافظ وشوقي. أتذكر أنك أهديتني نسخة من الطبعة الأولى لرواية «الزيني بركات» بغلاف أنجزه وأهداه إياك صديقنا بهجت عثمان. كنت أزور القاهرة أول مرة. خلالها أحطتني بكل الرعاية. أخذتني إلى قاهرتك أنت، القاهرة الإسلامية، التي عشت فيها صباك وشبابك. أقصد حيّ الجمالية. لم أنس لحد الآن غنى تلك الجولة، التي تعرفت فيها على الأزمنة المتعددة للعمارة القاهرية، وعلى الحياة الشعبية التي كنت تسترجعها بتلقائية مع العديد ممن كنت تتبادل وإياهم السلام. القاهرة الفاطمية، التي بناها الفاطميون المغاربة، كما كنت تقول، تكريماً منك للمغرب وأهل المغرب. الأزهر، والمدارس الأيوبية والمملوكية، وخان الخليلي، ومسجد الإمام الحسين. تدلني على بذخ المعمار. وفي الوقت نفسه تعيد عليّ لقطات من ثلاثية نجيب محفوظ أو من ذكرياته في حي الجمالية، الذي قضى فيه طفولته وكان مصدر كتابة ثلاثيته. ففي خان الخليلي، تقول لي إنه أصبح يجلس أمام مبنى قديم، تبدل أهله وتبدلت مظاهر حياتهم. يظل صامتاً لوقت طويل، لا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد. أسألك لأننا كنا أصفياء. كنت تسميني بما لا أستطيع البوح به، تقديراً ومحبة، واستقبلت بعض أعمالي على مر السنوات بشغف العاشق. وعندما حملت بين يديك «كتاب الحب» في طبعته اللندنية الأصلية، بأعمال العزيز ضياء العزاوي، ونحن في تونس، ضممته إلى صدرك، قرأته بسرعة. فتحت آلة تصوير وصورته كاملاً. وبعد عودتك إلى القاهرة نشرته بصوره الملونة وبكامل نصوصه في «أخبار الأدب». احتفيت به كما احتفيت بسواه. وفي كل لقاء كنت تهديني مؤلفاتك الجديدة. الإهداء المتبادل للكتب هو أعز ما كان بيننا. وكثيراً ما حصلت منك على كتب كنت أبحث عنها أو سلمتك كتباً كنت تفتقدها. كتب عديدة تراثية استلمتها من يديك. وإن كان لي أن أنوه ببعضها فلن أتردد في ذكر كتاب «أزهار الأفكار في جواهر الأحجار» لأحمد بن يوسف التيفاشي، ونسخة مصورة من كتاب «مذكرات الأمير عبدالله» آخر ملوك بني زيري بغرناطة. وهما معاً من التحف النادرة. الأول كنت عرفتني به، والثاني قضيت زمنا في البحث عنه دون جدوى. 4.في زيارة موالية للقاهرة، سنة 1996، بمناسبة مؤتمر الألفية الأولى لأبي حيان التوحيدي، تجددت المناسبة للتعرف على ما لم أتعرف عليه معك من قبل. زرت القاهرة آنذاك صحبة صديقنا جعفر الكنسوسي. أخذتنا نحن معاً إلى ضريح رابعة العدوية، وضريح الإمام الشافعي، المتفرد بفنه المعماري، وعرجنا على زيارة القرافة، حيث التقينا صديقك الروائي خيري شلبي، ثم انتهت سياحة ذلك اليوم بزيارة صديقك الكبير نجيب محفوظ في العوامة على النيل. قضينا معه وقتاً وهو محاط بأصدقائه من الحرافيش. كان شفي من الطعنة التي كان تعرض لها. اقتربت عندها من طريقته في الحديث وإلقاء النكتة وتتبع ما ينقله الحرافيش عن الحياة المصرية. خلال تلك الجلسة وافق على طلب منك لإعادة نشر «أصداء السيرة الذاتية» في «أخبار الأدب». وفي وقت متأخر من المساء ودعناه. لم تقم بذلك وحده تجاهي، لكنه أقرب ما أستحضره الآن. عنايتك بي، في تلك الزيارة، تدل في تفاصيلها ولحظات السياحة والحديث على المحبة التي ازدادت بمرور السنوات. أذكر احتفاءك بي الذي كان يتقاطع مع الاحتفاء الذي كان يخصني به أصدقاؤنا المشتركون، سعيد الكفراوي ومحمد عفيفي مطر وعبدالمنعم رمضان. بفضلكم جميعاً تعرفت على القاهرة، التي ارتبطت بها في شبابي من خلال قراءة الكتب والمجلات. وبصحبتكم أصبحت المدينة قريبة مني. كثيراً ما كنت أقضي الساعات مشياً على الأقدام، حرصاً على الاقتراب أكثر من معالم المدينة القديمة ومن حياتها اليومية ومن تاريخها، أو في زيارة الأهرامات ليلاً ونهاراً، أو ركوب قارب في النيل والجلوس مطولا في مقهى للاستمتاع بأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم. وفي كل فرصة كان حديثك عن المغرب لا يتوقف. جلسات في مناطق شعبية كانت تعيدنا إلى الرباط أو فاس أو مراكش أو شفشاون أو طنجة أو الأندلس. شيئاً فشيئاً أصبحت تعرف المغرب من داخله، بعد أن تعرفت وأنت طفل في الصعيد على الحجاج المغاربة الوافدين على مصر في «الركب الفاسي». تمكنت من اكتشاف ما يغيب في المغرب عن بعض أهله، لأنك كنت حريصاً على أن تتزود من أعماقه، في حضارته وثقافته وفنونه. تجمع بين القديم والحديث، بين الأجواء الروحية والأعمال الفنية والأدبية والفكرية. بذلك القرب بيننا تمتنت الألفة. اكتشفت فيك إنساناً منفتحاً على العالم. تتعلم من كل الثقافات، وفي كل سفر تنتقي الكتب وتحملها في حقيبتك الخاصة التي تسافر بها إلى كل مكان. 5.لقاءاتنا في تونس، في باريس، في بوردو، في غرناطة، في واشنطن، في فرنكفورت، في صنعاء، في أبوظبي. محطات لا أنساها. وفي كل واحدة منها كان الحوار بيننا لا يتوقف. كنا نلتقي في مهرجانات عربية وأجنبية. والحوار يتشعب عن الكتابة والترجمة والتصوف والأبدية والمعمار والفنون التشكيلية ونجيب محفوظ وفلسطين والغرب والسياسات العربية وأخلاقيات الثقافة والمثقفين. كل مرة كنا نستأنف الحوار، كأننا لم نكن نفترق إلا لنجدد اللقاء. نمشي، نغامر بسلوك طرق لا نعرفها، لا نعبأ بالوقت. وحضور المغرب في جانب من أحاديثنا يتواصل، لأن إلحاحك على استحضاره كان يصدر عن رغبة لا قرار لها في نفسك. تلك الرغبة هي التي تجسدت في أعمالك التي كتبتها بعد أواسط السبعينيات، أي بعد رواية «الزيني بركات». وأعتقد أنه من الصعب فهم بعض أعمالك دون الرجوع إلى شغفك بالثقافة المغربية، أو المغربية والأندلسية تدقيقاً. مثلما يصعب دون استيعاب تعلقك بأسرار الأبدية في الأهرامات والحضارة الفرعونية. فأنت ذكرت لي، بخصوص المغرب، ونحن في بيتك، بأنك تكتب في الليل تحت تأثير الموسيقى الأندلسية، وبأن أحب الأجواق إليك هو جوق البريهي، بقيادة الحاج عبدالكريم الرايس، الذي كنت اكتشفته أثناء زيارتك الأولى لفاس عام 1979. وكنت تشير من جهة أخرى بأن ثقافة المغرب ساعدتك على استرجاع طفولتك، وعلى تعميق مداركك الروحية والثقافية. كنت تبوح لي بعفوية بهذا الشغف المغربي. وكنت، أكثر من هذا، تتمسك بتلبية أي دعوة تأتيك من المغرب، لحد أنك لا تبالي بالجهة الداعية. الدعوة مناسبة للعودة المتكررة إليه، وشعلة شوقك لا تنطفئ أبداً. كنت أغبطك على هذا الشوق وعلى هذا الحفر الذي لا يتعب عن الطبقات المغمورة من ثقافة المغرب. ومن غير مبالغة أقول: إن تعلقك بهذه الثقافة أعطى كتاباتك، كما أعطى تجربك الذاتية، قوة عرفانية أصبحت من خصائص نسيج أعمالك. 6. ثمة إشارة دائمة من طرف النقاد والقراء إلى أن عملك الكبير هو رواية «الزيني بركات». لا شك أنه عمل متميز بجرأة استثمار أسلوب كتابات تاريخية في الفترة المملوكية، وخاصة كتاب «بدائع الزهور» لابن إياس، و»الخطط والآثار» للمقريزي، و»عجائب الآثار» للجبرتي. عثرت في هذا الأسلوب على ما سميته «بلاغة مصرية»، تجمع ما بين العربية الفصحى والعربية المصرية، كما كانت عليه الكتابات العربية لما قبل النهضة. وهو أسلوب تنكر له الحديثون واعتبروه متخلفاً عن تقنيات السرد في الرواية الغربية الحديثة. لكنك ربطت بين استعمال هذا الأسلوب وبين كتابة عمل سردي يحاكم القهر البوليسي في الفترة الناصرية، من خلال استعمال قناع العهد المملوكي كما أرخ له ابن إياس، حيث عانى الناس من ظلم ورعب السلطة التي كانت تقوم على الإرهاب والتخويف، كما كانت عليه الحال في السجون المصرية إبان الستينيات. بهذا العمل أصبح اسمك متداولا في الحياة الثقافية العربية، وبه افتتحت مرحلة ترجمة أعمالك إلى لغات أجنبية. على أن هذا لا يخفي عني ما أرى أنه الأهم. أقصد كتاب «التجليات» بأسفاره الثلاثة. أسميه كتاباً، لأنه عابر لأشكال التأليف عندالعرب القدماء. وهو أحد الأعمال الأدبية الكبرى في العربية الحديثة. انتقلت فيه من الشهادة على زمن القمع إلى تجليات الرؤيا الصوفية. فيه تتضح صلاتك بكتاب «الفتوحات المكية» لابن عربي وقرابتك معه. ثم إنك استثمرت بطريقة مبدعة ومتحررة تقنية بناء العمل، وفق أسلوب لا يفصل بين القديم والحديث، بين تجربة الداخل وبين عوالم الحياة العائلية والسياسية والتاريخية. في البداية تشير إلى التجلي المغربي، إذ «كان القصر مغربياً، والمنمنمات أندلسية». وفي الكتاب تظهر فاس مرات عديدة، ومعها المغرب بحضارته المتشبعة بالثقافة الصوفية وبفنون المعمار والموسيقى والتعبير عن حب الحياة. يصاحبك ابن عربي في أغلب التجليات. وبينكما حديث لا ينفد. نبع الكلام يجري، وأنت تنصت وترتوي. عندما أهديتني نسخة من «التجليات» صرحت لي بأنك استلمت الأمر بكتابته أثناء زيارتك الأولى لفاس. لم أستغرب ما ذكرت لي، وعلى وجهك علامات تأثر، لمحت فيها امتزاج نشوة الفرح بنشوة البكاء. في كلماتك خشوع وجوارحك خامدة. سلمت عليك وباركت لك. فلا أحد يقدر أن يستلم الأمر بكتابة مثل هذا العمل لو أنه لم يكن من الصّادقين. كذلك رأيتك وخبرتك، طيلة معرفتي بك. 7. شاركنا، أنت وقاسم حداد وأنا، في مهرجان «أرابيسك: فنون العالم العربي»، الذي نظمه مركز جون كينيدي في واشنطن سنة 2009. كنا نتصيد أي فرصة نجتمع فيها. نبحث عن مطعم للسمك، نمشي لساعات، نزور متاحف، نرتاد حانات. وفي يوم عزمنا، أنت وأنا، على المشي. قطعنا المسافات الطويلة بين الفندق وبين المتاحف في منطقة المادي سون، من ببينها المتحف الوطني للفنون، ومتحف تاريخ الصحافة. تمشينا لوقت طويل، وعند العودة توقفنا عند البيت الأبيض، حيث كان باراك أوباما لا يزال وافداً جديداً. عثرنا على مقعد خشبي مريح قبالة المبنى، الذي يقرر في مصيرنا. كنا نريد أن نستريح. هناك أخذت تروي لي عن تفاصيل العملية الجراحية التي أجريت لك على القلب المفتوح في مستشفى كليفلاند بالولايات المتحدة سنة 2007، أي قبل سنتين فقط. رويت لي، وأنت تصف إحساساتك بما عرفت عن تكوين القلب وما كان لك من حوار مع طبيبك الجراح. كنت مبتسماً ومنشرحاً طوال أيامنا التي قضيناها في المهرجان. نحضر الحفلات الموسيقية التي تقام في مركز جون كنيدي. نزور المعارض الموجودة في طابقه العلوي. نتبادل الحديث مع كتاب وفنانين مشاركين. نخرج ونتطلع إلى النباتات على امتداد الطرق. بين الفينة والأخرى نتبادل كلمات ساخرة عن أنفسنا وعن العالم. وفي الندوة المخصصة لتقديم الأدب العربي تناولت الحديث عن حياتك. كنت تتكلم وأنت تكاد تكون تحلم بالكلمات. من نفسك تنظر إلى الحضور. تعيد تكوين مراحل حياتك من قرية سوهاج إلى القاهرة. وفي نبرتك حنين إلى ما كنت عشته، قبل ممارسة مهنة الصحافة. ثم استغرقك الحديث عن تقنيات الكتابة الروائية وحرية الكاتب وصداقة نجيب محفوظ والحوار مع العالم. 8. كذلك كنت في تجربة كتابية تعلقت فيها بالبحث عن أسرار الأبدية، التي لم تكن تتخلى عن تأملها، وقبلت المخاطرة بالسفر إلى أقاصي تجربة عرفانية، تكونت في عوالمها الأولى ثم لم تتوقف عن السير نحوها. نحن، يا جمال، فانون. وكلمتنا هي وحدها التي نتركها لمن بعدنا. لربما تقاوم الزمن أكثر مما نقاومه، تسافر في كتابات، ويعود معها الحلم، كما كنا نحلم بحياة لا تفنى. علامة فارقة تعتبر «تجليات» الغيطاني علامة فارقة في تاريخ الرواية العربية. والمفارقة أن الكتاب ليس سردياً بالمعنى التقليدي، إذ تستطيع أن تفتح الكتاب في أي صفحة وتشرع في القراءة، حتى تنخرط فيها وكأنها الصفحة الأولى. بطلة التجليات هي اللغة والكلمات. هي تجليات صوفية، تذهب بك وراء ذلك النداء الداخلي العميق، بين الروح والعقل والقلب. وأجزاء الرواية الثلاثة تسير في أفق يتراوح بين الحلم والواقع، حيث تعتمد القيمة الروائية على استدعاء رموز غائبة وحاضرة في نفس الوقت، ينطبق ذلك على كل الشخصيات المؤثرة في حياة الكاتب وحياة ناسه. وقد مكنت هذه التقنية المفتوحة والفضفاضة كاتب الرواية من سبر أغوار أفكار كانت تبدو من التابوهات، وإعادة الاعتبار لرموز في الفكر والسياسة والثقافة من بين الأسماء التي تم إقصاؤها، وقد كان لاستخدام الغيطاني الأقانيم الصوفية دور في منحه الحرية الواسعة في التأويل، حيث استطاع استنطاق شخوصه وأبطاله، وهو ما أضفى بعداً عميقاً علي مفهوم الزمنية، لا سيما في مفهومه عن حلول الماضي في الحاضر. وقد فاز جمال الغيطاني بجائزة لوربتايو عن روايته «التجليات» كأهم رواية في الأدب المترجم عام صدوره بفرنسا من بين ثمانمائة رواية. وتصنف هذه الجائزة بزنها كبرى الجوائز التي تمنحها فرنسا والمخصصة ـ عادة ـ لكتاب غير فرنسيين، وتمنح مناصفة لمؤلف ومترجم أفضل عمل أدبي إلى الفرنسية خلال العام. الرواية البديلة منذ صدور رواية «التجليات» اعتبرت حدثاً أدبياً كبيراً، إذ نشرت عديد من الصحف والمجلات مراجعات وقراءات نقدية للرواية، وقد قرنها المحرر الأدبي لجريدة «ليبراسيون» بإشراقات الشاعر رامبو، ويقول في هذا الصدد: لقد تحصنت التجليات ببرجين، برج رامبو وبرج شهرزاد. كما اعتبرها الناقد العربي حمد عيساوي في «الفيغارو» نصاً يجمع بين اعترافات جان جاك روسو وفتنة ألف ليلة وليلة. ويبدو أن الفرنسيين اكتشفوا في تجليات الغيطاني روحاً مختلفة تماماً عن كل النصوص الروائية التي ترجمت سابقاً إلى لغتهم والمستندة أساسا على التراث الغربي في الكتابة الروائية، بينما يعتمد الغيطاني في روايته بنية خاصة تعتمد الحكاية إلى جانب التأمل الفلسفي والشطح الصوفي. أما الدكتورة ماري تريز عبدالمسيح فتقول إن جمال الغيطاني اجتهد مرارا لإيجاد أشكال إبداعية تتحرر من سطوة النماذج الروائية الغربية، وترى أن ذلك يبدو واضحا وجليا في كتابه «التجليات»، وترى أن التجديد الذي قدمه الغيطاني لا يقتصر على الشكل الروائي، بل في دمج النص بالبنية المعرفية والمعمارية للمكان. وتضيف: إنه وإن كان التأريخ ـ ومن ثم الرواية الغربية ـ قد انطلقا من العقلانية الديكارتية التي سعت بقراءتها المنطقية إلى إضفاء العلموية على الرواية ـ تاريخية كانت أم تخيلية ـ في مقابل ذلك تطلع الغيطاني إلى رواية بديلة تعارض مفهوم التاريخ بوصفه تطورا خطيا، بوسع الفرد التحكم في مسيرته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©