الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سردية الذين يضيّقون واسعاً

سردية الذين يضيّقون واسعاً
28 أكتوبر 2015 23:02
في مقدمة القضايا الفكرية التي تطرح ذاتها اليوم وبقوة على مائدة الحوار الثقافي في العالم العربي، تأتي قضية تجديد الخطاب الديني والتي ينقسم من حولها القوم بين مؤيد ومعارض، فمنهم من يرى أن التجديد والإصلاح أمر لا مناص منه إن شئنا إصلاح أحوال البلاد والعباد، فيما فريق آخر يرى أن حديث التجديد ليس إلا ضرباً من ضروب الاختراق العلماني الغربي لعوالم وعواصم المسلمين، وأن لا خير إلا في كل سلف، وما من شر إلا ونبع من كل خلق. في ظل مثل هذا الجدل غير المحسوم حتى الساعة، تبقى الفوضى هي سيدة الموقف، فوضى فكرية تدور في ثنايا وحنايا حالة الانسداد الفكري التاريخي التي يعانيها العالمان العربي والإسلامي، والتي حولت شعوب المنطقة من فاتحين ومجددين، إلى لاجئين ومنكفئين على الذات التراثية، دون أخذ ما في التراث أحسنه، أو انتقاء ماهو كامن في الحداثة ومميزاتها. لماذا يكتسب الحديث عن التجديد والإصلاح الديني اليوم مذاقاً خاصة، بل ويضحى حاجة ملحة إن شئنا النجاة من مصير الأوطان الممزقة، والطاقات الضائعة، والذوبان في بحر «العولمة» الهائج المائج، عبر الرأسمالية المتوحشة، الساعية إلى تسليع الإنسان؟ لعل أفضل جواب يمكن للمرء أن يحيره في هذا السياق، قال به المفكر التونسي العفيف الأخضر في كتابه الصادر عام 2014: «إصلاح الإسلام»، من أن: «الإصلاح الديني، هو مدخل شامل للإصلاح السياسي والاقتصادي واللغوي والتربوي، والأهم في هذا السياق أن الإصلاح الديني يعد المدخل لقطع الطريق على هجوم الجنون في التاريخ، على تحويل المؤسسات التعليمية والإعلامية إلى منابر للتكفير والفتاوى المضحكة حيناً والمبكية حيناً، وعلى تحويل المستشفيات إلى مسالخ لقطع الأيدي، وتحويل الساحات العامة إلى أمكنة يتبارى فيها المصابون بالطاعون العاطفي على رجم المحبين، وشنق المفكرين الأحرار، وتحويل عواصم أرض الإسلام إلى أكثر من طهران، يصطاد فيها» حراس الثورة الشباب الجامعي كما يصطادون الأرانب. العين والعقل ما الذي دعانا إلى فتح هذا الملف المثير، والمملوء بالألغام في هذا التوقيت بالتحديد؟ الشاهد أنه عطفاً على أنه حديث الساعة في العديد من عواصم العالم الإسلامي، إلا أن هناك حدثاً بعينه تحين هذه الأيام ذكراه الخمسون، يدعونا لإقامة مقاربات تاريخية، مع عالمنا العربي والإسلامي. أما عن الحدث فهو مرور خمسين عاماً، أي نصف قرن، على انتهاء ما عرف بالمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965) والذي دعت إليه الكنيسة الكاثوليكية في منتصف القرن الماضي لإعادة تجديد خطابها الديني ورؤاها الكنسية، الأمر الذي جرى على مدار نحو أربعة أعوام، كانت كفيلة بتغيير الكثير جداً من الاتجاهات الإنسانية لكاثوليك العالم، والذين كانوا يبلغون في ذلك الوقت قرابة سبعمائة مليون كاثوليكي حول العام، واليوم تجاوزوا ملياراً ومائتين وخمسين مليون نسمة. لماذا نقول الاتجاهات الإنسانية لا الروحية أو الإيمانية؟ ببساطة غير مخلة لأن الإشكالية هي في العين والعقل الإنسانيين اللذين يقرآن النص الديني، والتجديد والإصلاح هنا في هذا الفهم المغلوط، لا في متن الدين وثوابته ونصوصه. قبل المجمع المسكوني الثاني، كانت النظرة التقليدية للكاثوليكية للإسلام والمسلمين، غير إيجابية، وقد أذكى الصورة المغلوطة لكثير من الغربيين من المستشرقين الكارهين للعرب والمسلمين، مثل «دي مونت كروتشي» وغيره الذين يقدمون الشر المجاني للعالم. على أنه بعد المجمع كانت وثيقة «Nostra Aetate» أي في حاضرات أيامنا تشير للإسلام والمسلمين بعين مختلفة كلية نتجت عن إعادة قراءة لصحيح الدين، وبعدت عن غلواء التطرف، والتعصب وإقصاء الآخر. يقول النص «إن الكنيسة تنظر إلى المسلمين أيضاً بعين التقدير فهم يعبدون الله الواحد، الحيالقيوم، الرحيم ضابط الكل خالق السماء والأرض، الذي كلم البشر، ويجتهدون في أن يخضعوا بكليتهم لأوامر الله الخفية». كانت هذه هي حصيلة أولية لفكر التجديد الديني الكاثوليكي في ستينات القرن المنصرم، وهو تجديد لم يتوقف عن حدود الأديان الأخرى، بل اتصل بالمفاهيم المسيحية عينها، والتي يدهش المرء كيف كانت وإلام أصبحت... قبل ذلك المجمع كان هناك تعبير ساد وراج، هو أنه «لا خلاص خارج الكنيسة» Extra Ecclesiam Nulla Salus ويعكس حالة الأحادية والإقصائية التي كانت تعيشها، وبعد المجمع عادت البابوية إلى الفهم الإيماني المسيحي الحقيقي... «كل أمة تصنع البر مقبولة عند الله»، وفتحت عقول الكاثوليك قبل كنائسهم للمسلمين ولليهود، كذلك للأرثوذكس وللبروتستانت، وتغيرت الأوضاع وتبدلت الطباع كما يقول المؤرخ العربي المصري الكبير عبد الرحمن الجبرتي، الأمر الذي يخلق علامة إستفهام جذرية في هذا الصدد: «هل عالمنا العربي والإسلامي في حاجة إلى مجمع من هذا النوع بشكل أو بآخر؟ وهل المقارنة تستقيم في الأصل؟». دعوة السيسي ماذا يعني خطاب التجديد بداية؟ منذ نحو عام تحدث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مطالباً المؤسسات الدينية في مصر بتجديد الخطاب الديني وإعادة تقديم صورة واقعية غير مغلوطة عن الإسلام السمح، لا «إسلام الذين يضيقون واسعاً»، وكان منطق الرجل حتمية التحدي والتصدي للتيارات التكفيرية التي تملأ سماوات العالم العربي والإسلامي زعيقاً وكراهية، وتعطي للمغاير حضارياً ودينياً حول الأرض صورة مشوهة عن كل من هو مسلم وما هو إسلامي. في هذا الإطار، أعدت وزارة الأوقاف المصرية وثيقة أولية في طريق التجديد الديني المنشود، تتكون من ثلاثة عشر بنداً، يضيق المسطح المتاح للكتابة عن تحليل أو تفكيك سرديتها، غير أن أفضل ما فيها هو الإشارة إلى معنى ومبنى وفكرة التجديد... فماذا عن ذلك؟ يعني تجديد الخطاب الديني، تجريده مما علق به من أوهام أو خرافات، أو فهم غير صحيح، ينافي مقاصد الإسلام وسماحته، وإنسانيته وعقلانيته، ومصالحه المرعية، ومآلاته المعتبرة، بما يلائم حياة الناس، ويحقق المصلحة الوطنية، ولا يمس الأصول الاعتقادية أو الشرعية أو القيم الأخلاقية الراسخة. يعن لنا هنا أن نتساءل هل للتجديد مكان شرعي في الإسلام وأصوله وشريعته وجذوره؟ حكماً إن مصطلح التجديد، قد يكتسب أبعاداً فلسفية شائكة، لا سيما إذا تناولنا الأمر من منطق مفاهيمي تجريدي، لكن واقع الحال يشير إلى أن مصطلح التجديد له أصول شرعية ومدلول واضح، من خلال حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة دينها»، وعليه فإننا إزاء مصطلح يعني حتمية العودة إلى أصول الدين من دون وسائط تعوق التفكير الصحيح. في هذا الإطار الفكري يعني التجديد قبل أي شيء آخر، بلورة رؤية إسلامية عصرانية تحول شباب الأمة من عقلية التبعية والتقليد إلى عقلية النضج والفكر والوعي والقدرة على التفكير عوضاً عن السعي في طريق التفكير، والإبداع بدلاً عن الأتباع، والنقد والتمييز، والتواصل والتفاعل مع الآخر المغاير، بدلاً عن المضي قدماً في طريق عزله أو إبعاده وإقصائه. والشاهد أن التجديد الديني لا يمكن له الانطلاق من قيود الماضي وبراثنه، إلا عبر تجديد الركام المعرفي، والاجتماعي، الثقافي والعلمي، وتغليب المنهاج العقلي على المنهج العاطفي، وإحداث المواءمات بين ما جاء به النقل، وما يفترضه العقل في وقت واحد. بين التراث والحداثة هل يعني تجديد الخطاب الديني قطيعة من نوع ما مع الماضي، أي الانسلاخ الكامل عن المنظومة الآبائية، التراثية، السلفية، عالية القيمة في عالمنا العربي والإسلامي؟ ربما تكون الإشكالية الأكبر أمام دعاة التجديد الديني تتصل بإيجاد مسافة فاصلة بين منطلقات التجديد وركائزه، وبين الموروث الفكري والعقائدي، والفقهي والاجتماعي من جانب آخر، مسافة يتمكن من خلالها المجدد من استيعاب معقولية الموروث وتاريخيته، وبهذا التموقع الثنائي يتحقق تمثل من الخارج للتراث في تاريخيته، ثم عود إليه من الداخل قصد إحداث تغييرات فكرية وواقعية فيه... ماذا يعني ذلك؟ دون تطويل ممل أو اختصار مخل يؤشر إلى أن حديث التجديد ومهمة المجددين هي أن نأخذ من التراث جوهره لا قشوره، بقدر ما يطالب المحدثون الاستفادة من عمق الحداثة لا مظاهرها الخارجية البراقة، أو انحرافاتها وشططها، وبالتالي لا يستبعد التراث، ولا تنتهي الحداثة، وعن طريق المزج بين العناصر الإيجابية لكلا هذين القطبين الكبيرين سوف يتولد المستقبل. غير أن حديث التجديد الديني هنا له مشروطيات لابد من تحقيقها، ودروب ما من بد أو مناص إلا تعبيدها، ولاحقاً السير على دروبها. فالخروج من حالة الأسر لأيديولوجيا التراث والسلف، أمر يقتضي الفكاك من ظلام الأصوليات، والخوض في غمار ورحابة الإبسمتولوجيا، أي المعرفة والفهم، إلى رحابة التنوير في كل الأحايين وليس بعضها، وهذا ما لا يمكن إدراكه إلا من خلال التسليم بأمور ثلاثة: 1- التسليم بانتهاء عصر الأيديولوجيات الاستلابية. 2- اليقين بانتهاء زمن المراهقات الثورية والعاطفية. 3- القطع بإنهاء الطفولات العقلية، والثورة على القيود الشكلانية الماضوية القروسطية... هل لهذه المشروطيات طريق آخر غير المثاقفة لا الانثقاف؟ يعني الانثقاف غلبة ثقافة بأكملها وتلبسها جسد الطرف المذعن ثقافياً وفكرياً، ذهنياً وروحياً، وليس هذا هو شأن المقصود من التجديد الديني، المطلوب هو حالة المثاقفة، الحتمية التاريخية التي تقتصر على نقل الحضارة دون الاقتدار على المساهمة في صنعها. بمعنى أن يكون انفتاح الخطاب التجديدي الإسلامي، طريقاً مزدوجاً للعطاء والأخذ، للمنافحة والملاقحة مع المغاير الحضاري، دون أن تكون هناك ضرورة حتمية للتفكير في تكفيره أو قتله، وعليه فإن فكر التجديد يخضع للمقولة الذهبية: «طرح القضايا الجوهرية والمصيرية ينبع من الذات وليس من الآخرين»، بمعنى أنه لابد لخطاب التجديد من أن يأتي كرد فعل لا يتأخر ولا يتلكأ لحاجة عربية إسلامية ماسة في الحال والاستقبال. مسؤولية النخب التجديد والإصلاح مسألة فقهية أم سياسية؟ أحد الأسئلة التي تواجه الباحثين في شأن قضية التجديد والإصلاح في الإسلام تتصل بمدى قابلية الفكر الديني الإسلامي، وليس جوهر الدين الإسلامي للإصلاح، بالتوازي مع جرى في أديان أخرى، عدلت وبدلت من مساراتها التفسيرية والرؤيوية لجوهر أديانها، وعليه فإن الفكر الشائع حول عدم قبول المنهج الإسلامي للإصلاح، قد يكون، وهو كذلك فعلاً وقولاً، منهجاً مغلوطاً وغير صحيح. ففي كتابه المشار إليه سابقاً، يؤكد المفكر عفيف الأخضر أن الإسلام قدم في تركيا منذ 1942 وحتى الآن، وفي تونس منذ 1956 حتى اليوم، البرهان على قدرته في كيفية إصلاح نفسه نسبياً على الأقل. ومن هنا فما الذي يمنعه من تقديم البرهان على هذه القدرة في بقية البلدان، وعلى نحو أشمل وأعقد؟ الثابت بحسب الأخضر أن إصلاح الفكر الإسلامي الذي انحرف اليوم ضروري وممكن، غير أن ما ينقصه في تقديره هو الشجاعة السياسية والفكرية، وإذا كانت عتاقة النخب الدينية، في أقصى اليمين الإسلامي السياسي والتقليدي، لا تسهل التكيف الضروري مع العالم الذي نعيش فيه، إلا أن الشجاعة مطلوبة لمثل هذه الحالات. هل يفهم من هذا الكلام أن هناك مسؤولية ما تقع على عاتق النخب الفكرية والثقافية في العالمين العربي والإسلامي تجاه مسألة التجديد الديني؟ مما لا شك فيه أن الخطاب الديني الجديد، والمتحرر من أسر الانغلاق الماضوي والمنكفئ على التراث وماضوية الماضي وحالة السيكولائية الاجترارية، يتجه إلى إقناع العقل، وإمتاع الوجدان، والرقي بالمشاعر، وتنمية المواهب الإبداعية، والتشجيع عليها، هذا عطفاً على تعزيز المشتركات الإنسانية، وترسيخ المعاني الوطنية، وإشاعة روح التسامح والمودة بين أبناء الوطن جميعاً، واحترام حق التعددية الاعتقادية والفكرية في ضوء الحفاظ على القيم الأساسية للمجتمع وبما لا يخل بأمنه القومي... هل من طيف آخر غير المثقفين والنخبويين الذين يمتلكون شجاعة التغيير، والمطالبة بالتجديد، وهنا نحن نتحدث حكماً عن النخب النهضوية لا النهبوية، تلك التي تمتلك رؤية واضحة للمستقبل الذي تقود إليه شعوبها، عبر رؤية واضحة، وبلورتها صناعة قرار واقعي. يحدثنا «ابن قتيبة» عن الإجماع، إجماع نخب الأمة وسلطتها التشريعية بالمفهوم المعاصر، «أهم من الحدث في التشريع». إذن إصلاح الفكر الإسلامي لا يحتاج إلى نص ديني، بل إلى إجماع صناع القرار على أنه ضرورة ومصلحة، وكما يقول الأمام الشاطبي «حيث المصلحة فثمة شرع الله». أما الباحث المصري الشهير الدكتور أحمد عرفات القاضي ففي كتابه: «تجديد الخطاب الديني... ضرورة حضارية للمجتمعات الإسلامية»، يقودنا إلى نوعية هؤلاء النخبة المسلمة التي تكفل صلاح أحوال البلاد والعباد، عبر فكر التنوير، لا من خلال دروب الظلامية. يحدثنا القاضي عن شخصية الشيخ «عبد المتعال الصعيدي» المنتمي إلى مدرسة الإمام محمد عبده رائد التجديد في الإسلام الحديث، والذي كان يرى أن حرية الفكر أوسع من الحرية الدينية، لأنها تشتمل على ثلاثة أنواع من الحريات، هي الحرية العلمية والسياسية والدينية، ويقول إن من حقها معارضة الأغلبية، وقد كان الصعيدي جريئاً بشدة في رأيه بأن عقاب المرتد أخروي فحسب، وليس من مسؤولية جنائية في الدنيا تقع عليه في هذا الرأي المخالف لرأي الجمهور. لم ينقطع سبيل المجددون في الإسلام، وأصحاب الخطاب الديني والإصلاح الفكري، عبر التاريخ والإسلام، ففي سبعينات القرن المنصرم سبق الشيخ شلتوت إمام الأزهر في ذلك الوقت الجميع إلى القول بأن «وجهة النظر في مسألة الحدود قد تتغير إذا لوحظ أن كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الأحاد... وأن الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدم وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم». حديث موسمي هل حديث التجديد والإصلاح في الخطاب الديني الإسلامي حديث موسمي يتأثر بمعطيات خارجية دون أن تكون منطلقاته جوانية حقيقية كما تقول الصوفية؟ المقطوع به أن السنوات الأربع المنصرمة التي عاش فيها العالم العربي، والذي هو إسلامي في غالبيته المطلقة، ما يعرف بثورات الربيع، والتي جاءت في ثوب إسلامي راديكالي وعودة إلى زمن السلف، ودعوات من هذه الشاكلة، كانت سبباً لتفجير الحديث عن الحاجة الماسة لتصويب مسار هذا الخطاب الديني الذي انحرفت به مؤثرات ومقدرات خارجية، وقاد دولاً بعينها إلى الخراب والدمار. لم تكن هذه هي المرة الأولى، فقد شهد العالم موجة مماثلة لا تقل صوتاً عالياً، في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما جرى في نيويورك وواشنطن، وقتها جرى التنادي عالياً وامتلأت قاعات البحث والتنظير الفكري في العالمين العربي والإسلامي بالمناقشات والمداولات حول حتمية إيجاد خطاب عصرانى إسلامي. في ذلك الوقت تحدث المفكر الألماني المسلم الدكتور مراد هوفمان داعياً إلى تحسين طريقة عرض مفاهيم وتعاليم الإسلام على الساحة الأوروبية والأميركية لتقديم الإسلام بصورته الصحيحة، وبما يتناسب مع روح العصر الذي نعيشه... كيف يوصف المفكر الألماني الكبير إشكالية العالم الإسلامي الراهن، وهل الخطاب الديني والإصلاح الديني هما بالفعل عنده مدخل جامع لإصلاح مناحي الحياة كافة عند المسلمين؟ يعد مراد هوفمان من كبار العقليات الأوربية، ولذا فإن أحداً لا يزايد عليه، وهو يقطع بأن الفهم المنحول لصحيح الدين الإسلامي واستخدام خطاب معوج غير مستقيم، أدى بنا إلى عالم إسلامي خلواً من علوم تجريدية أو تطبيقية أو معملية متطورة ومبدعة، بالمقارنة بالغرب، لأن العلوم المتطورة تحتاج إلى حرية في التفكير ومناخ تسود فيه الديمقراطية، وعندما عجز المسلمون عن استحداث خطاب ديني جديد عصراني، تستتبعه تجليات ثقافية وسياسية واقتصادية نابعة من عمق بنائه العضوي، فإنه لجأ إلى التقليد والاعتماد على الغرب، ولم يجتهدوا في العلم، قتلت فيهم روح الإبداع وتخلفوا... لا يختلف حديث مراد هوفمان كثيراً عن رؤية الرئيس البوسني على عزت بيجوفيتش لواقع حال الإسلام والمسلمين، عبر مؤلفه المتميز «الإسلام بين الشرق والغرب» والذي يقصد من وراءه اكتشاف موقع الإسلام في إطار الفكر العالمي. في مؤلفه المتميز هذا يحث بيجوفيتش الإسلام والمسلمين على تقديم خطاب ديني مغاير للخطاب التراثي القديم الذي تجاوزته الأحداث، ومنطلقه في هذا الخطاب هو المقاربة بين أسس القوة الغربية وأحوال الأمة الإسلامية... ماذا يعني بشيء من التفصيل؟ تقودنا صفحات الرئيس المسلم إلى البحث في أسس القوة الغربية، وكيف أن هذه القوة لا تكمن في أسلحتها أو في اقتصادها، فهذا هو المظهر الخارجي للأشياء فقط، وإنما يكون الأمر في الملاحظة والمنهج التجريبي، في التفكير الذي ورثته الحضارة الغربية عن «روجر بيكون» الفيلسوف والمفكر الغربي الذي استمد بدوره المنهج التجريبي من المسلمين، وعليه يخلص المرء أنه حين استقامت الرؤية الدينية عند العرب والمسلمين صدروا للعالم فكراً ومنهاجاً علمياً أثرى أوروبا، وفي العصور الداعشية والظلامية، تصدرت شاشات تلفزة العالم صور الرؤوس المنحورة، والدماء المسفوحة، فأي وقت يحتاج فيه العالم الإسلامي لخطاب ديني جديد أشد من هذا الوقت؟ على هذا الأساس لا يتوجب أن يكون فكر التجديد والإصلاح الديني فكراً موسمياً مرتبطاً بالملمات الجسام والأحداث الكبار فحسب، بل يتوجب الأمران يبقى أولوية الأولويات، لأن على الشرع في إصلاحه يتوقف نجاح الورشات الأخرى التي تبدو في الظاهر لا علاقة لها به، كورشة الإصلاح الاقتصادي مثلاً. مع الأخذ في عين الاعتبار أن ورشة إصلاح الخطاب الديني لا تتنافى مع فتح الورشات الأخرى، بل تتكامل معها، وتقتضيها، ولأن ورشات الإصلاح السياسي والاجتماعي والتربوي والديموغرافي، واللغوي جزء لا يتجزأ من ورشة إصلاح الخطاب الديني. القاسم المشترك بينها، أنها جميعاً تتطلب كأولوية مطلقة إصلاح صناعة القرار. التجديد والعولمة يحتاج الحديث عن إصلاح وتجديد الخطاب الديني إلى مؤلفات قائمة بذاتها، وليس إلى قراءة في ملف مهما تعمقت، غير أنه تبقى قبل الانصراف علامة استفهام حول حركة التاريخ في الفكر الإسلامي في المائة عام الماضية وما الذي جرى لها. في البداية تساءل الأمير شكيب أرسلان عن الأسباب التي جعلت المسلمين يتخلفون، وآخرون غيرهم يتقدمون، وفي توقيت سبق هذا التساؤل، ثم لحق به شهدت بعض دول العالم الإسلامية، لا سيما ذات الحضور المركزي منها مثل مصر، موجات من التجديد في الخطاب الديني الإسلامي، وعلى من يريد الاستزادة الرجوع إلى المستشرق الإنجليزي تشارلز آدمز وكتابه عن «الإسلام والتجديد في مصر»، حيث يرسم لنا صورة ناصعة عن التجديد الإسلامي في مصر خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تحت زعامة الشيخ محمد عبده، مفتي مصر المتوفى عام 1905، صورة حركية معنية تسعى إلى تحرير الدين من أغلال الجمود، وتتجه إلى استكمال إصلاحات توفق بين مطالب الحياة العصرية المعقدة. ولقد ظلت نزعة الإصلاح التي ترعرعت في مصر على يدي محمد عبده قائمة حتى وقت طويل، وبدت لعقود فاعلة في التأثير في كثير من النواحي، فأيده كثيرون ممن كانوا يميلون إلى حركته الإصلاحية وواصلوا الدفاع عن تعاليمه بعد موته. يتساءل القارئ هنا ما الذي جرى لهذه الدعوة الإصلاحية التصحيحية؟ إحدى طرق معالجة هذا السؤال تمضي في سياق سيسيولوجي ينظر لحال العالم العربي والإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث نكتشف هيمنة فكرتين أساسيتين على «سوق الأفكار» في العالم العربي، هما الفكرة القومية والفكرة الإسلامية، وقد شكلت كلتا الفكرتين الأساسي الجدلي أو «الديالكيتك الأبسمتولوجي» لمسألة الإصلاح والنهضة في العالم العربي، وجسدتا معاً في شكل أو آخر، الصراع حول «المشروع الحداثي» العربي الذي وصل الآن إلى نقطة مسدودة تستدعي مراجعة شاملة لهذا المشروع وبنيته وسردياته الحاكمة. في هذا الإطار، يمكن للمرء أن يتفهم لماذا من جديد يتناول البعض حديث تجديد الخطاب الديني. أما التفسير الثاني لظاهرة الردة عن الإصلاح، فيمكن فهمها في ضوء ما أشار إليه أمين عام الأمم المتحدة الأسبق الدكتور بطرس غالي في مؤلفه «الديمقراطية هي الحل لمخاطر العولمة»، إذ يفسر صعود الراديكالية إلى فكرة «المواطن المتعولم»، ويحق لنا أن نسميه «المواطن الخائف من العولمة»، والذي يجد خلاصه مما يضايقه في اللامبالاة، وما يضايقه قد يكون خاصة في عالمنا العربي والإسلامي عجزه عن مجاراة الآخر، المتفوق عليها تكنولوجيا، مالياً واقتصادياً، ثقافياً وإنسانوياً، أو في التقوقع على نفسه، أو بالأمرين معاً، ذلك هو ديالكتيك القمر الصناعي وبرج جرس الكنيسة في العالم الغربي، وديالكتيك القمر الصناعي والمئذنة في العالم الإسلامي. وباختصار من جديد، يهرب الإنسان من الحاضر إلى رحم الماضي، إلى أفضل مرفأ، إلى الماضوية والتراثية والسلف وعصور المجد التليد من جديد. تجديد الخطاب الديني كفيل بأن لا ندخل كما قال نزار قباني ذات مرة لـ....عصر الجاهلية، عصر التوحش، والتخلف، والبشاعة والوضاعة، ندخل مرة أخرى عصور البربرية. قبل المجمع المسكوني الثاني كانت النظرة التقليدية الكاثوليكية للإسلام والمسلمين غير إيجابية .......................... التجديد هو بلورة رؤية إسلامية عصرانية تحول شباب الأمة من عقلية التبعية والتقليد إلى عقلية النضج والقدرة على التفكير الحدود.. والتقدير «وجهة النظر في مسألة الحدود قد تتغير إذا لوحظ أن كثيراً من العلماء يرون أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد... وأن الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدم وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاو لة فتنتهم عن دينهم». الشيخ محمود شلتوت، إمام الجامع الأزهر، في سبعينيات القرن الماضي. - «إن الكنيسة تنظر إلى المسلمين أيضاً بعين التقدير فهم يعبدون الله الواحد، الحي القيوم، الرحيم ضابط الكل خالق السماء والأرض، الذي كلم البشر، ويجتهدون في أن يخضعوا بكليتهم لأوامر الله الخفية». نص من وثيقة Nostra Aetate، الصادر عن المجمع المسكوني الثاني المنعقد بين 1962 و1965 المسلم الألماني ولد مراد ويلفريد هوفمان سنة 1931 في أشافنبورغ: بلدة كبيرة في شمال غرب بافاريا تابعة إدارياً لمنطقة فرنكونيا السفلى في ألمانيا، دبلوماسي ومؤلف ألماني مسلم بارز. بدأ بدراسة القانون بعد حصوله على شهادة البكالوريا في ميونخ، وتخرج من هارفارد، وحصل بعدها على الدكتوراه في القانون. كان مولعاً برقص الباليه، حتى أنه أعطى دروساً فيه، وتعلم العزف على طبول الجاز. وأسس رابطة محبي الباليه في ميونخ. وعمل لسنوات طوال كناقد لفن الباليه في مجلات متخصصة. عمل منذ الخمسينات في سفارة ألمانيا الاتحادية في الجزائر، وهذا جعله يشاهد عن قرب الثورة الجزائرية التي يبدو أنها أثارت اهتمامه الشديد ودفعته للتأمل. صاحب العديد من الكتب التي تتناول مستقبل الإسلام في إطار الحضارة الغربية وأوروبا. هوفمان كاثوليكي المولد أسلم عام 1980. عمل كخبير في مجال الدّفاع النّووي في وزارة الخارجية الألمانية، وكان إسلامه موضع جدل بسبب منصبه الرّفيع في الحكومة الألمانية. عمل كمدير لقسم المعلومات في حلف الناتو في بروكسل من عام 1983 حتى 1987 ثم سفيراً لألمانيا في الجزائر من 1987 حتى 1990 ثم سفيراً في المغرب من 1990 حتى 1 994. باكورة أعماله «الإسلام كبديل»، ثم كتاب «الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود». ثم كتاب «رحلة إلى مكة» يذكر د. هوفمان أنّ من أسباب تحوله إلى الإسلام: ما شاهده في حرب الاستقلال الجزائرية، وولعه بالفن الإسلامي، إضافة إلى التناقضات الكثيرة التي تواجهه في العقيدة المسيحية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©