الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإقامة في أرض الأساطير

الإقامة في أرض الأساطير
25 أكتوبر 2012
الديوان الشعري الأول الذي أصدره الشاعر سيف الرحبي في دمشق عندما كان يقيم في بدايات الثمانينيات من القرن الماضي في العاصمة السورية كان بعنوان “الجبل الأخضر”، وفي عمله الجديد الذي يزاوج فيه بين النثر والشعر ها هو يعود اسم هذا المكان ليتصدر عنوان الكتاب الرئيس، ما يدل على الحضور العميق لهذه الثيمة على المستوى الوجودي والوجداني والجمالي من خلال تمثله في هذه النصوص الجديدة. إن ثيمة المكان في تجربة سيف الرحبي تكتسب سمتها الثنائية الضدِّية، من خلال التقاطب الضدي الذي تكتسبه على مستوى العلاقة والتمثل الجمالي له تعبيرا عن الارتباط الوجداني الحي على صعيد التجربة الذاتية الوجودية التي تشكل الطفولة أهم علاماتها من جهة، ومن جهة أخرى تأكيدا على نزوع دائم لاختراق المكان واكتشاف فضاءات جديدة تثري تجربته، وتوسع حدودها، ما يمنح تلك العلاقة طابعها الدرامي المتوتر، ويكشف عن مضمراتها الدلالية المعبرة عن علاقة الشاعر مع المكان بأبعادها المختلفة. عتبات النص تلعب عتبات المكان في هذا العمل دورا هاما على مستوى التلقي من حيث وظائفها ودورها في تكثيف واختزال مضمون التجربة التي تتوجهها، وتقوم من خلالها بتوجيه فعل القراءة وإكساب القارئ معرفة بمضمون العمل. بعد الإهداء الخاص يتصدر نصوص الكتاب مقبوسان اثنان، يتحدث المقبوس الأول للفيلسوف الألماني نيتشه عن كيفية نشوء الجبال بمعانيها الرمزية والدلالية، بينما يتحدث المقبوس الثاني للشاعر محمود درويش عن علاقة الإنسان الفلسطيني بالجبال. في النص الأول من الكتاب والذي يحمل الكتاب عنوانه “الصعود إلى الجبل الأخضر” تشكل الجملة الأولى التي تحمل اسم المكان أيقونة النص وفاتحته بغية تركيز انتباه المتلقي عليه، حيث تحاول اللغة الشعرية عبر بنيتها الرمزية والبلاغية الموحية والقائمة على استخدام المجاز المرسل رسم مشهد بالغ الدلالة للمكان يتداخل فيه التخيل الديني بالشعري لمنح هذا المكان على المستوى الوجودي والروحي الإنساني أبعادا دلالية ورمزية واسعة: “الجبل الأخضر وهو يسترخي في ظهيرة قائظة يشبه عرين أسود تتجه برؤوسها الوبرية الغاضبة نحو البحر وحين يكون البحر غائما، على شفا مطر سفينة أسطورية تشق عباب الطوفان والزمن وغبار الصحراء حاملة من كل زوجين اثنين، يقودهما الربان الذي سيتحول لاحقا إلى رمز لإنقاذ البشرية التي أشرفت على الانقراض والمحاق”. تتجذر علاقة الشاعر بالمكان وجوديا وروحيا من خلال تجربة الطفولة الأولى للشاعر والتي يشكل هذا المكان ذاكرتها وعمقها الوجداني ومتخيلها الأول عن العالم والذات في عناق التجربة وانفتاحها على الدهشة الأولى وذكرياتها التي تؤثث هذا الفضاء المسكون بخيالات الطفولة وأسرارها وظلالها وهي تنسحب من مساحة الشعور إلى عمقها اللاشعوري في الذات المترحلة في الزمان: “لم يكن الجبل الأخضر في تلك الخيالات الطفلة إلا ظلالا شاسعة وهواما وصورا تتراءى محلقة كالطيور والحيوانات القادمة من عصور ما قبل التاريخ لتنقضَّ من مغاراته ومدرجاته العصية”. بين مكانين في نصي الكتاب “الصعود إلى الجبل الأخضر” و”اسطنبول” طفولة اليمام يتداخل النثر مع الشعر في علاقة عابرة للحدود والأجناس لاسيما أن ثمة قرابة تجمع بين لغتي النصين ألا وهي اللغة الشاعرية بكثافتها الموحية، والتي تسم نصه النثري ما يجعل طريق الانتقال منه إلى الشعر الذي يخترق النص على شكل ومضات مكثفة ممهدا بصورة تجعل العلاقة فيما بينهما أكثر تواشجا وتكاملا. أما السمة الثانية التي يمكن الوقوف عندها فهي الحضور الطاغي للمكان في هذين النصين كما يتبدى ذلك من خلال عنوانيهما اللذين يتوزعان على جغرافيتين مختلفتين، تمثل الأولى المكان العماني بأساطيره وحكاياته وتاريخه ومعانيه الرمزية الضاربة في عمق التجربة الوجودية للشاعر وأحلامه، والمكان الغريب الذي يعكس نزعة الشاعر للرحيل والاكتشاف واختراق حدود المكان كشفا ومعرفة، ما يعيدنا مرة ثانية إلى علاقته بالمكان، وما تمثله تلك العلاقة من تقاطب ضدّي يترحل صوت الشاعر ومخيلته فيما بينهما ويتأسس بها ومعها شعوره بالغربة عن المكان. لا يبدو الشاعر في علاقته بالمكان بعيدا عن تاريخه الذي يستحضر الجانب المشرق والخلاق منه، بوصفه التعبير الجمالي والروحي الإنساني للثقافة والحضارة التي أثرت وجودنا: “فوق المحيطات وعلى أشرعة السفن المبحرة من( البوسفور) إلى بحر إيجه حيث الإغريق القدامى يطاردون في كهوف عزلاتهم وعلى ضفاف الأنهلر المتغيرة سرّ الموت والحياة”. لا يبدو التأمل في صورة المكان والحفر في طيات تاريخه وعلاماته بعيدا عن التأمل في صورة الكائن الإنساني وتجربته الوجودية على مستوى العلاقة مع المكان، حيث تحاول بلاغة اللغة ومخيلة الشاعر أن تستحضرا تلك المعاني الغامضة لسيرورة حيوات تندفع أمام عين متأملة نحو مصائرها المجهولة هنا أو هناك، كما هو حال الشاعر المترحل بين المدن والأماكن الغريبة والموزعة على جغرافيات العالم: “في المطار نفسه كما في كل المطارات أنظر شاردا في خريطة الوجوه الملامح والسحنات أفكر أنها تشبه محيط الفنجان وقعره تشبه تلك القطرات في هزيع ليلها الأخير والأقدام المندفعة نحو المصير والمجهول”. جماليات المكان تستحضر لغة الشاعر كثافة بلاغتها الموحية وغنائيتها الشفيفة في مرايا المكان المسكون بالدهشة وجماليات الاكتشاف، ما يجعلها تتبادل مع المكان بلاغة الحضور والتجلي في اللغة بوصفها محاولة للقبض على سحر اللحظة الخاص، وجمال الدهشة، وهي تعيد رسم صورة المكان بشاعرية مرهفة في مخيلة الشاعر المأخوذة بفتنة الخيال المفتوحة على شاعرية المشهد وفتنته أيضا: “اليمامة التركية تستدعي الفجر القادم بشدوها الملحاح ذلك النغم الذي ينسج للفجر خيوطه الأولى والثانية حتى تكتمل خيوط الجسم بلطخات غيومه المائلة إلى الشحوب والإضاءة المتدرجة حتى الاكتمال الفجري وسط غابة المؤذنين”. لا تنشغل اللغة ببلاغتها بعيدا عن بلاغة التاريخ والحياة والوجود بمعانيها ودلالاتها الرمزية التي يشي المكان بها ويحمل علاماتها التي تدل عليها وتنطق بها وتستدعي معها صورا من أماكن كثيرة تترحل فيما بينها ذاكرة الشاعر ومخيلته عبر رحيله الدائم فيما بينها.. أماكن يجمعها وحدة التاريخ والهوية الحضارية والثقافية: “في مقهى البازار الشعبي الكبير الذي سيكون سوق الحميدية بدمشق وبعض أجزاء من خان الخليلي في القاهرة وأسواق في مدن مغاربية وعربية نموذج منه أو بالأحرى شبيه على تفوق السوق التركي في المساحة والنظافة”. تتوزع لغة الشاعر بين الوصف والسرد حيث يشكل الشعر فيها جزرا متناثرة تتبادل فيها ومعها أرض الخيال مع أرض المكان دهشة الرحيل والاكتشاف وبلاغة الحضور الفاتن للمرأة، وهي تقود المخيلة نحو تخوم يندغم فيه حضور الكائن بحضور المكان: “ثمة جزر نزحت بمياهها الزرقاء ثمة عقاعق تمرح في حقل الليلك زهر التوليب الساطع في حضوره واحمراره جو غائم يضفي جماله على المخلوقات والحشرات تقدمين الشاي بالشفافية التي تنضح من العيون اللوزية تكاد تذوبين في سحر اللحظة وسكر الشاي”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©