الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تيبازا الجزائرية.. متحفٌ مفتوح في الهواء الطلق للآثار الرومانية

تيبازا الجزائرية.. متحفٌ مفتوح في الهواء الطلق للآثار الرومانية
4 نوفمبر 2013 21:49
حسين محمد (الجزائر) - «تيبازا» مدينة صغيرة تقع على بُعد 110 كيلو مترات غرب الجزائر العاصمة، لا يتعدى عددُ سكانها 45 ألف نسمة خلافاً لكل الولايات الأخرى المكتظة بالسكان، لكنها بالغة الجمال، يؤمها السياحُ من كل الولايات الجزائرية للتمتع بشواطئها ومناظرها الطبيعية الخلابة وآثارها التي تروي قصة مدينة عشقها الفينيقيون والرومان والوندال والبيزنطيون، ثم الفاتحون المسلمون والمستعمرون الفرنسيون، فخلّد كل منهم آثارَه فيها، لكن أغلب الآثار التي لا تزال صامدة إلى اليوم هي المدينة الرومانية التي تستقطب آلاف الزوار الجزائريين والأجانب سنوياً. تجارة مع الفينيقيين حينما تزور مدينة تيبازا قادماً إليها من الجزائر العاصمة، تمرّ إجبارياً بطريق محاذية للميناء، ثم لا يمكنك إلا أن تتوقف وتنزل لتتأمل المنظر البديع، فالميناء على صِغره، يعجّ بعشرات السفن وقوارب صيد السمك، وهو يعرف حركة نشيطة للتجار الذين يعقدون صفقاتهم عادة في الصباح الباكر. وبعد التاسعة صباحاً، تكون كل الصفقات قد انتهت، وبدأ الصيَّادون يجمعون شباكهم استعداداً لمغادرة الميناء. ووسط عشرات السفن والقوارب يُرى بوضوح شاهدٌ أثري غريب الشكل، ويتمثل في «الضريح البونيقي»، وهو قبر ضخم منحوت من الصخر الصلب، «يرسو» بين الحجارة الكبيرة على الميناء، ويعود إلى الفترة الفينيقية، وهو الشاهد الأثري الوحيد المتبقي من تلك الفترة التاريخية. ويقول المرشد السياحي حسان طواهرية: لقد بنى الفينيقيون القادمون من سواحل سوريا ولبنان في القرن السادس قبل الميلاد عدة مستوطنات تجارية ومنشآت مينائية على سواحل تيبازا وغيرها من المدن الجزائرية الساحلية، وكانت قريبة من بعضها البعض، وهذا بغرض التبادل التجاري مع السكان، حيث كانوا يصرفون سلعهم ويقتنون المواد الأولية من السكان. ويضيف: طواهرية الفينيقيون لم يكونوا مستعمرين كغيرهم، بل مجرد تجار يبحثون عن مضاعفة أرباحهم ولم يسبق أن خاضوا حروباً ضد السكان في أي منطقة ساحلية حلوا بها، وهم أول من أطلق اسم تيبازا على المدينة، ومعناها: الممرّ، لأنها كانت ممراً إلى مدينة شرشال ومدن أخرى. حديقة للآثار وعلى بُعد نحو 400 متر من الميناء، تقع الحديقة الرومانية، وهي منطقة محمية محاطة بسور وتبلغ مساحتها الإجمالية 45 هكتاراً. وتزخر الحديقة بالكثير من الآثار الرومانية التي عادة ما تأسر قلوب الزوار فيقضون فيها ساعاتٍ يتأملون روعة تلك الآثار والطبيعة معاً. وكان الرومان قد غزوا الجزائر وأقاموا مدناً رومانية في العديد من المناطق الساحلية والداخلية، ومنها تيبازا التي احتلوها سنة 50 قبل الميلاد ومكثوا فيها إلى غاية سنة 455 بعد الميلاد، حيث تغلب عليهم الوندال القادمون من شرق أوروبا وحلّوا محلهم لقرن من الزمن، ثم البيزنطيون فالفاتحون المسلمون. وطوال هذه القرون الخمسة بنى الرومان في تيبازا مدينة كبيرة تضمّ مساكنهم وكنائسهم ومعابدهم وحماماتهم ومسارحهم ومدرجاتهم ومقابرهم، كما نحتوا فيها وسائل عيشهم من جِرار وأواني ومعاصر زيتون وغيرها، ومع أنهم اعتمدوا على الحجارة الضخمة في بناءاتهم، إلا أنها لم تكن صمّاء ولم تخلُ من الجانب الجمالي، بل حرصوا على الزخرفة والنحت إلى أقصى درجة، وهو ما يظهر في أعمدة البنايات وأقواسها وتماثيل الآلهة والملوك التي كانت تزيِّن المدينة، وكذا لوحات الفسيفساء الزاخرة بالصور، والتي خلّدت جانباً من معارك الرومان وانتصاراتهم بشكل فني راق يدلُّ على مدى تقدم فنَّيْ الرسم والنحت في تلك الفترة، علماً بأن التماثيل واللوحات الفسيفسائية موجودة بمتحف المدينة الذي شيّدته فرنسا سنة 1955 ليحفظ مختلف التحف الأثرية النادرة التي اكتشفها باحثو الآثار الفرنسيون منذ 1863. والمفارقة أن بعض التحف التي تزين المتحفَ الآن، وُجدت بالمقبرة الرومانية خارج المدينة والتي تبلغ مساحتها 15 هكتاراً، حيث كان الرومان يحرصون على دفن موتاهم مع أغراضهم، من أوان وحلي ذهبية ونقود وغيرها، لاعتقادهم أن الميت سيحتاج إليها في رحلته إلى العالم الآخر، بحسب الدليل السياحي طواهرية. هوس الفرنسيين وكان الفرنسيون حريصين على التنقيب عن الآثار الرومانية بالجزائر وإبرازها أكثر من غيرها من الحقب التاريخية بهدف التدليل على الجذور اللاتينية للجزائر ومن ثم إضفاء الشرعية على احتلالهم للجزائر في 5 يوليو 1830، ولذلك بذلوا جهوداً مكثفة للكشف عن الآثار الرومانية في عدة مدن جزائرية، ومنها تيبازا، فبدأوا عمليات التنقيب سنة 1863 على يد عالم الآثار بار بروجيل، وتمكنوا من كشف بعض الآثار التي كانت مطمورة تحت الأرض، وبعد استقلال الجزائر في 5 يوليو 1962، تواصلت عمليات التنقيب إلى غاية عام 1982، حيث صنفت اليونسكو مدينة تيبازا ضمن التراث العالمي المحفوظ، فتوقت الأبحاث مع أن حجم الآثار المكتشفة لم يتعدّ 30 بالمائة فقط، بينما بقي أزيد من الثلثين مدفوناً إلى حدّ الساعة. معارك مع الأسود وحينما تتوغل في الحديقة، تلاقيك مجموعة توابيت حجرية مصقولة مختلفة الأحجام متناثرة على جانبي الطريق الرئيس، وكذا مجموعة جرار وأوان فخارية، وأعمدة صخرية منقوشة بعناية، وغير بعيد عنها تبدأ آثار البنايات الضخمة، وفي مقدمتها «المدرَّج» الذي كان يُرمى فيه المحكومُ عليهم بالإعدام إلى الأسود لخوض معارك حياة أو موت معها، وإذا انتصر المسجون وقتل الأسد، يُطلق سراحُه، وللمدرّج منصة عالية تعزل آلاف المتفرجين عن الأسود، كما أن له ستة أبواب تفتح على غرف جانبية كان يُسجن فيها المجرمون وأقفاص الحيوانات المفترسة. وفي عمق الحديقة يلفت انتباهَ الزائر آثارٌ أخرى، ومنها مجموعة معابد رومانية لفترة ما قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وثلاث كنائس بنيت في فترة ما بعد تحوّل الرومان إلى المسيحية «البازيليك»، وكذا الساحة العمومية والحمامات والمسرح الذي يتسع لثلاثة آلاف متفرج ولا تزال الكثير من مقاعده سليمة.. فلا يسع الزائرَ إلا أن يقف أمامها متأملاً روعة التصميم والبناء والنحت البديع للأعمدة والأقواس. منظرٌ رائع أما أروع منظر في الحديقة فهو آثار طريق حجرية تقود صاحبها مباشرة إلى البحر، وعلى جانبيها بقايا أعمدة حجرية، وكان الطريق مغطى في زمن الرومان للاحتماء من المطر، وكان البحارة يرسون بسفنهم أمام الشاطئ، ثم يدخلون المدينة عبره، وهنا يمكن إلقاءُ نظرة شاملة على آثار المدينة الرومانية المتناثرة عبر 3 هضبات صغيرة متجاورة ومقابلة للبحر، وهو منظرٌ رائع يجمع بين الآثار والبحر والمئات من أشجار السرو والزيتون وحتى أشجار النخيل غير المثمر التي تحيط بالآثار الرومانية من كل جانب، على امتداد الهضبات الثلاث. ويحلو للزوار قضاء أغلب أوقاتهم في هذا المكان وهم يتأملون الآثار وخضرة المناظر الطبيعية وزرقة البحر معاً، كما يحلو لبعض هواة صيد السمك المكوث في المكان وإلقاء صناراتهم إلى البحر وهم يجلسون على صخور الشاطىء. وفي المكان نجد العديد من المرشدين السياحيين الذين يرتدون ملابس خاصة ويقومون بتقديم شروح وافية للسياح الجزائريين والأجانب عن تاريخ المنطقة وآثار الرومان وتاريخهم بتيبازا. الدليل السياحي يقدّر الدليل السياحي حسان طواهرية عدد السياح المحليين والأجانب الذين يزورون الحديقة الأثرية الرومانية بنحو 180 ألف سائح سنوياً، وقد صادفت زيارتنا لها مؤخراً وجود مجموعة من السياح الصينيين الذين وقفوا لبعض الوقت أمام «المدرّج» والتقطوا صوراً تذكارية جماعية. وتعدّ «الحديقة الرومانية» بحقّ متحفاً مفتوحاً على الهواء الطلق، فهي تزخر بثروة أثرية كبيرة تُشفي نهم طلبة علم الآثار وهوّاتها معاً، كما تُشعر الزوار براحة كبيرة وبالرغبة في العودة إلى المنطقة مجدداً كلما سنحت الفرصة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©