الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنتمي الى حزب سياسي معارض ونشط·· لا وجود له!

أنتمي الى حزب سياسي معارض ونشط·· لا وجود له!
19 مارس 2009 01:13
يبدو مصير فواز حداد برمته كما لو أنه متوقف على كتابة الروايات· فما إن أطلق روايته الأولى حتى كرّت السلسلة وبات التوقف عن الكتابة أشبه بإلغاء الكينونة والكف عن الوجود· ولم تكن الحصيلة مجرّد كمّ ناجم عن الجهد العضلي، بل روايات ننتظرها وسينتظرها قرّاء لم يأتوا بعد، مثل كلِّ كتابة مكتوبة بالكدّ والتعب والحرص والذكاء· بكلمة واحدة: مكتوبة بالفن· يصعب أن نضع فواز حداد بين غالبية مجايليه من الروائيين السوريين، وذلك على الأقل لما يتميز به من تملكٍ لأدوات الفن وتضلّع من استخدامها حتى لو تناول ما يتناوله أولئك الروائيون من موضوعات· ويصعب أن نضع حداد في عداد الروائيين اللاحقين نظراً الى تملكه ما لهذا الشكل الأدبي من تقاليد عريقة، فضلا عن ثقافة واسعة وعميقة تشكل أساساً لا بد منه للفن الروائي· هكذا يبدو فواز حداد شاباً بين الشيوخ وشيخاً بين الشباب، نافراً، متفرداً، ونسيج وحده· ولد فواز حداد في دمشق· حصل على إجازة في الحقوق من الجامعة السورية، وتنقل بين أعمال عدة قبل أن يتفرغ كلية للكتابة· نشر من الروايات إلى الآن: ''موزاييك دمشق ''39 (1991)،'' تياترو ''1949 (1994)، ''صورة الروائي'' (1998)، ''الولد الجاهل'' (2000)، ''الضغينة والهوى'' (2001)، ''مرسال الغرام'' (2004)، ''مشهد عابر'' (2007(، ''المترجم الخائن'' (2008)، بالإضافة إلى مجموعة قصصية وحيدة هي ''الرسالة الأخيرة'' (1994)· في روايته الأخيرة، ''المترجم الخائن'' (2008)، التي وصلت الى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية (التي تمنح بدعم من مؤسسة الإمارات وبالشراكة مع مؤسسة جائزة بوكر البريطانية)، يطلق الترجمة مجازاً يعبّر عن الفن برمتّه، مثل أولئك الفلاسفة الذين يكثّفون رؤيتهم للفن في فكرة أو استعارة يجرّدونها ويسمون بها دون أن يسوقه ذلك إلى نسيان العوالم الأرضية والبشر الفانين، أو نسيان أن الفنون جميعاً، مهما سمت، تتوخى التعبير عن الحياة والأحلام والرغبات· ؟ يبدو إنتاجك أشبه بحلقات متصلة منفصلة ينتظمها تسلسل التاريخ السياسي لسوريا والمنطقة· لماذا اخترت مثل هذه البنية أو الشكل؟ هل خططت لذلك منذ البداية؟ وهل مارس عليك ذلك أيّ نوع من القيد؟ ؟؟ لا، لم يخطر لي أن أخطط لشيء من هذا القبيل، حتى أنني لم أفكر في كتابة رواية على علاقة بالتاريخ· الرواية بالنسبة إليَّ لا تأتي من خلال تخطيط مسبق· هناك ما يدور في داخلي، أسئلة تحتاج إلى جواب، فأكتب رواية لأبحث عن إجاباتها· أنا لا أكتب من أجل قرّاء محتملين، أكتب كي أفهم وأتعلم· وهذا ما أخذني إلى التاريخ· ثمة أسئلة وجدت جواباً عنها هناك، وإن كانت إشارة البدء مختلفة، أشبه بشرارة· في روايتي ''موزاييك'' امرأة تدخل إلى دكان، يظهر في العمق رجل مشطور بالضوء والظل· تسأله المرأة حانقة عن شيء ما، ثم تخرج! ما الذي دار بينهما؟! عندئذ بدأت الرواية في ذهني· قادني إلى التاريخ الإحساس بأنه لا يمكن التفكير في الحاضر ولا في المستقبل، قبل الحفر في الماضي، هناك حسابات ينبغي أن نقوم بها مهما تكن قاسية بالنظر إلى حاضر متردّ· لم تكن المشكلة في محاولة إعادة الاعتبار الى ماض أُهمل ووُصم بالجمود والتخلف، بل في اكتشافه، والتعرف اليه؛ الذين لا يهتمون بماضيهم، لا مستقبل لديهم· تعاملي مع التاريخ، لم يمارس عليَّ أيَّ قيود، لأنني ذهبت إليه من دون أفكار مسبقة· عندما تضع الرواية قيوداً على الروائي، فهذا يعني أنها لا تستحق الكتابة، أو أنه غير مؤهل لكتابتها· ؟ في الوقت الذي تبدو رواياتك كأنها تتبع نوعاً من التسلسل الزمني على طول تاريخ سوريا (والمنطقة) الحديث، نجد أن كل رواية تركز على تيمة أو تيمات معينة (السنوات الأخيرة من فترة الانتداب الفرنسي، الانقلابات العسكرية التي تلت النكبة، الفساد والدولة الأمنية، خراب المثقفين ···الخ)· هل نحن أمام إعادة كتابة روائية للتاريخ الحديث؟ لماذا الحضور الطاغي لما هو سياسي؟ ؟؟ في الروايات الأولى لم يكن التركيز على تيمة، بقدر التركيز على المفاصل الرئيسية من تاريخنا المعاصر؛ سوريا عام 1939 عشية الحرب العالمية الثانية، الانقلاب السوري الأول المؤسس لتدخل الجيش في الحكم عام ،1949 استشراء الانقلابات والثورات والثورات المضادة في أوائل السبعينيات· هل نحن أمام إعادة كتابة التاريخ روائياً؟ لا، وإنما التعرف الى حركة التاريخ وتأثيره على الحياة والمجتمع والثقافة والفن· والمكان أيضاً· إن ما كتب عن تاريخ سوريا من خلال الأبحاث والمذكرات وغيرها، يقدم أفضل مما تقدمه رواياتي من معلومات· الدليل أنني اعتمدت عليها· أما لماذا الحضور الطاغي لما هو سياسي، فالأفضل أن يكون السؤال، لماذا لا يكون هذا الحضور السياسي؟! إذا كان للجنس والمرأة والحب والدين والفن والمكان حضور دائم في رواياتي، فلماذا أغفل السياسي، وهو الحاضر الأكبر؟! غير أن الجواب يكمن في مكان آخر، وهو ضعف الثقافة النقدية التي تتهم الجانب السياسي في الرواية بالايديولوجيا· هذه ''الفوبيا'' لا تنم إلا عن محاولة إلغاء السياسي، وكأن ما يجري على الأرض، لا يصح أن يحدث في الروايات· ولنتساءل: أليست السياسة هي العنصر الضاغط الأكبر في حياتنا؟ وبالنسبة الى التابوهات، فالأنظمة تبدي تسامحاً مع الجنس والدين، لكنها تتشدد إزاء السياسي· أزعم أن الرواية المشهدية التي أكتبها، تتطلب مني ألا أغفل كل ما أعتقد أنه يساهم في بنائها، وتالياً إغفال كل عنصر فاعل، ما هو إلا تزوير متعمد· التاريخي والسياسي ؟ ما الأثر الذي يتركه على التقنية الروائية مثل هذا الحضور لما هو تاريخي وسياسي موثَّق وواقعي؟ ألا يشكل عبئاً على الفن؟ ؟؟ التقنية الروائية مجرد أدوات، ما علينا إلا أن نحسن استخدامها· ثم إنه في وسع هذه التقنية التفاعل مع هذا الحضور والاستفادة منه بما يغني التجربة الروائية· لقد استغلت التقنية الروائية نمط أداء الشريط الإخباري، والحوليات التاريخية، والأسلوب الوثائقي والصياغة التقريرية· واستفادت من قبل من أسلوب الرسائل، حتى أصبحت هناك روايات تعتمد على أسلوب تبادل الرسائل· إذاً، السياسي والتاريخي لا يشكلان عبئاً، إلا إذا اعتقدنا أن الفن مخصص لعوالم الإنسان الداخلية فقط· ؟ تناولت في رواياتك الأخيرة الراهن، أو ما وصلنا إليه· بماذا تختلف الكتابة الروائية عن الراهن قياساً بالكتابة الروائية عن الماضي؟ ؟؟ ثمة مفارقة غير متوقعة في الكتابة عن الراهن، تشعر فعلاً أنك تكتب شيئًا على علاقة قوية بالتاريخ، وكأن ما تكتبه الآن، قد يشكل يوماً مرجعاً عن هذه الفترة، إذ تدرك أنك لا تكتب لهؤلاء الذين يعيشون معك فحسب، بل للذين قد يقرأونك في يوم ما بعد سنوات، فتحس بالمسؤولية إزاءهم· ليس ما أشير إليه غريباً، إذا أردت أن تتعرف الى فرنسا القرن التاسع عشر، النظام الملكي، طبقة النبلاء، الكهنة، المواريث، الزواج، التجارة، البغاء، والمواصلات· فعليك بقراءة بلزاك، ستجد في ''الملهاة الإنسانية'' ما تبحث عنه· إنها مجموعة روايات جديرة بالقراءة، تاريخياً وسياسياً واجتماعياً وفنياً أيضاً· ؟ يبدو لي أن ثمة في رواياتك الأخيرة دافعاً إلى تسجيل ما يحصل وكأنك تخاف أن يُنسى، فضلا عن جرأة بالغة وغير مسبوقة في الأدب السوري للجهر بالحقيقة في وجه السلطة· مرةً أخرى، ما أثر ذلك على الفن، هل يمارس عليه نوعاً من القيد، أم ماذا؟ ؟؟ فعلاً لا أريد للكثير مما حدث أن يبدو مشهداً عابراً، لأنني لا أريده أن يتكرر· الاستنقاع في المأساة مثل الاسترخاء في التفاؤل· ليس علينا ألا ننسى فقط، وإنما أن نخرج بموقف يضع حداً لكل ما يمكن أن يشكل انتقاصاً من حقوق الناس· لا أدري إذا كنت قد أبديت جرأة بالغة، ما أنا متأكد منه، أنني وفّيت رواياتي حقها، من دون النظر الى ما يمكن أن يترتب عليًّ، لأنني لم أفكر في نتائجه· الفن يرغمنا على قول ما نعتقد أنه حقيقة، ويعلّمنا أن نفكر ونكتب بحرية، وأنا أمين لهذا الدرس· بالنسبة إليَّ، ليس هناك سوى الرواية تمنحني المجال كاملاً لأكتب ما أريد· بمعنى أنني محظوظ، لقد أُعطيت الفرصة، فلماذا أتوانى؟! لا، لم تكن لديّ مشكلة، الفن ذلّل لي القيود كلها· جرأة الكلام ؟ عودة إلى السؤال، هل يمكن أن نتخذ ما تبديه من جرأة في الكلام على الراهن دليلاً على تغير في الواقع من حيث درجة القمع واتساع مساحة المسموح· في عبارة أخرى، لماذا لم تُبد مثل هذه الجرأة حينما كان القمع أشدّ، أم أنك لم تكن وقتذاك قد بلغت الراهن في التسلسل الروائي الذي اتبعته؟ ؟؟ لنعترف أيضاً، بحدوث تغير طفيف وملموس على مساحة المسموح، يتسع أحياناً ويضيق أحياناً أخرى؛ ثمة انفراج واضح بالمقارنة مع السابق· لكنني لم أكن في هذا الوارد، أي لم أتقيد بالتضييق ولا بالانفراج· فقد مُنعت روايتي ''صورة الروائي'' قبل عشر سنين، أي في زمن سابق، كنت قد كتبتها بين عامي 1994 و1995 وبقيت في اتحاد الكتّاب العرب ما يقارب سنة، ثم صدر قرار بمنعها، بعدها بقيت لدى الناشر ما يقارب سنة أخرى، ريثما طبعت في بيروت وصدرت عام ·1998 حاول الناشر إدخالها بشتى الأساليب لكن وزارة الاعلام لم تسمح، مع توصيات من جهات مسؤولة بمنعها، لمساسها بالكثير من الخطوط الحمر· وكان هذا في زمن مختلف عن الآن· ولكي أكون صادقاً مع نفسي، فأنا لم أتعرض من قبل ولا من بعد إلى أي مساءلة، ربما لأنني غير منتم الى أي تنظيم سياسي، ولم أمارس أي نشاط معارض، ما يفسر ربما لماذا اقتصروا على منع رواياتي· في اختصار، أنا روائي، استعملت حريتي في الكتابة، واشعر بأنني منتم الى حزب سياسي معارض ونشط، لا وجود له، يعمل على الجبهات كافة، ولا يتعامل مع أي جهة· ؟ يقول أحد النقاد، إن المعلومات جميلة، وتبدو رواياتك مفعمة بالمعلومات والمعارف، ويظهر فيها ما بذلته من جهد وكدّ في مرحلة البحث والإعداد، لنتحدث عن هذه المرحلة في كتابتك؟ ؟؟ لا تخلو رواية من رواياتي من جهد بحثي أعتبره عملية تأهيل تمكنني من استيعاب مناخ الفترة أو التعرف الى مدينة، وأسلوب حياة، ومنظومة أفكار، وتقاليد وعادات ···الخ· وربما كانت رواية ''الضغينة والهوى'' العمل الذي استهلك جهداً ووقتاً كبيرين بسبب تعدد الأمكنة والخطوط والمستويات فيها، بحيث شمل: البحث في الفترة التاريخية حوالى منتصف الخمسينيات في سوريا من الناحية الاجتماعية والسياسية؛ الصراع بين الأحزاب والعسكر، التركيز على نماذج السلطة؛ رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والعقيد رئيس الأركان· ثم الوضع اللبناني السياسي والعلاقات السورية - اللبنانية، وبيروت كمركز تنصت على الشرق الأوسط· يكفي أن نقول إن هذه الرواية، تدور حوادثها بين دمشق وبيروت والقدس وتمتد إلى صحراء سيناء؛ دير القديسة كاترين، حتى نعرف أن خرائط هذه الأماكن لا ينبغي أن تكون اعتباطية· كذلك، اعتمدت على مراجع كثيرة حول النفط والتبشير والآثار والديبلوماسية والجاسوسية والصحافة العالمية، لأنها رواية عن الغرب أيضاً، عن هؤلاء القادمين من هناك، عن مبشرين، عملاء مخابرات، ديبلوماسيين، منقبين عن الآثار وجواسيس، ممثلي شركات نفطية ومراسلي صحف· كي ندرك الجهد الاستقصائي الذي لا بد منه لنعطي كل شخصية من هؤلاء حقها من الإقناع· حتى أن البعض تصوروا أنني أكتب عن وقائع حقيقية· الحبكة البوليسية ؟ يظهر في كتابتك الروائية وفي كلامك عليها اهتمام خاص بالتراسل بين مختلف الفنون والكتابة الروائية، لنتوقف عند هذا الأمر· هل يصح القول إنَّ مجاز الترجمة في رواية ''المترجم الخائن'' قد حلَّ محل المسرح في روايات سابقة؟ ؟؟ في هذا العصر، لا كتابة روائية خالصة تعتمد أدواتها فقط· الفنون جميعها تتبادل التأثر والتأثير، خصوصاً الرواية التي تتعالق مع الموسيقى والغناء والفن التشكيلي والنحت والشعر والمسرح والسينما والتلفزيون، وقد استفادت منها، وبالعكس· لا تخلو رواية من رواياتي مما سبق، ولا سيما أنني أختار بعض شخصياتي من هذه المجالات· عدا التأثر سمعياً وبصرياً بما نرى ونسمع· والأهم، أن ما يجمع بين هذه الفنون أمر جوهري واحد؛ قضية التعبير· أي التوق والشغف الذي نرزح جميعاً تحت وطأته المثيرة· أما حول مجاز الترجمة، فقد عبّرت عنه في الرواية بأن الفن برمته عملية ترجمة، من الشعر إلى السينما، وهو انعكاس لحياتنا وأحلامنا ورغباتنا، بالكلمة والصورة، واللون والخط والنغمة· ؟ تحضر الحبكة البوليسية ذلك الحضور اللافت في كتابتك· بعضهم عدّ ذلك مصدراً للتشويق، في حين عدّه آخرون مصدراً للنفور· ما قولك أنت؟ ؟؟ إذا أردنا الدخول في باب التشويق والإثارة الروائية، نقول التشويق ليس حكراً على الرواية البوليسية، مع العلم أنها رواية منطقية جداً لا تسير فيها الحوادث كيفما اتفق، ولا تتصرف الشخصيات من دون مسوغ· كل شيء بحسابه: الحركة واللفتة، التحقيقات والشكوك، دونما ثرثرة بلا طائل، ومن أراد الاستزادة فليراجع روايات شرلوك هولمز للسير آرثر كونان دويل، أو روايات اغاتا كريستي، إلا إذا كان يخجل من قراءة الروايات البوليسية· مع العلم أن الروائيين المعاصرين تعلموا منها الكثير، أمبرتو إيكو على سبيل المثال· دوستويفسكي نفسه تعلّم من أوجين سو الروائي الفرنسي مؤلف روايات المغامرات البوليسية الشعبية· وكي لا نعتقد أن التشويق لا يتحقق إلا بالمسدسات والظلام والجرائم الغامضة فقط، فهو أيضاً وفي الدرجة الأولى يتحقق في: تنظيم المشهد الروائي، تنامي الحدث، التصاعد الدرامي، القطع والوصل بين الفصول، زاوية معالجة الفكرة، التقاط المفارقات، تبادل المواقع بين الوهم والواقع، التعامل مع الخيال، التنقل بين مستويات اللغة· تقنيات أكثر من أن تحصى، وهذا في رأيي، ما يدعى فن ''إدارة الرواية''· بعدما نشر ستندال روايته الأولى ''آرمانس'' قال لصديقه الكاتب ميرمييه: إذا لم تكن الرواية تستدعي من القارئ سهر الليل، فما جدوى كتابتها، تلك هي المسألة! وإذا كان التشويق مذموماً، فبموجب هذا التعليل، ارتكب دوستويفسكي أخطاء لا تغتفر في رواياته الكبرى عندما جعلنا نلهث وراء أبطاله· بحسب ما وصلني من انطباعات حول رواياتي، قال البعض إنهم لم يتركوها قبل إتمام قراءتها· لكن من الحصافة، ألا نبالغ في هذا الأمر، فهناك الملايين، ممن يسهرون لمتابعة أفلام الإثارة والعنف الأميركية وغرائب الخيال العلمي· لكن في عصر التلفزيون هذا، علينا ألا نغمط رواياتنا حقها، عندما يقتطع المشاهدون من وقتهم زمناً طويلاً لقراءة رواية، لا تحتوي على جميع المشهيات السابقة من إثارة وقتل ومغامرات في الفضاء الخارجي ورومنطيقيات رخيصة وبطولات خارقة· أما إذا كان التشويق في رواياتي مصدراً لنفور البعض فأنا أتفهم مزاجيتهم الخاصة، ويذكّرني، وهذا شأني، بالمجموعة التي تكلمت عنها في روايتي ''المترجم الخائن''، وهدفها ''الحرص على رفعة الأدب وتنقيته من الشوائب''· ؟ ما رأيك بالقول إنَّ طغيان الحبكة البوليسية بمفارقاتها ومصادفاتها الغريبة النافرة هو دلالة على غياب الفهم الدقيق للبنية الاجتماعية التاريخية التي تتناولها الرواية، أم أن ما هو بوليسي مجرد مجاز شكلي روائي وضامن للتشويق والإثارة وليس منهجاً للفهم والتأثير؟ ؟؟ أحياناً ثمة مقولات تبهرنا بإطلاقيتها، تبدو كأنها معصومة من الخطأ، في حين أنها تستخف بالقارئ وتخدعه باليقينية المتعالمة· بينما السؤال الواجب طرحه هو: ألا تخضع البنية الاجتماعية على صعيد الواقع وفي الحياة أيضاً للكثير من المفارقات والمصادفات النافرة وغير النافرة؟! ثم أين البوليسية الطاغية في ملاحقة مصائر الناس؟ كان ينبغي التدقيق في ما إذا كانت المفارقات والمصادفات ترمى عبثاً أم بهدف آخر؟ إذا كانت للتشويق والإثارة، فهي مقتل للروائي وللرواية معاً· وعطفاً على السؤال، للروائي متطلبات أيضاً، فهو يحتاج في روايته إلى ما يجذبه فيها، أي أن تشكل أهمية كبيرة بالنسبة إليه، ومن جوانب عدة، كي يتابع عملاً قد يستغرق سنوات من حياته· ماذا إذا فقدت الفكرة تأثيرها عليه، أو لم تعد تغريه الغاية ولا الهدف مما يكتبه، أو جرى تحول في أفكاره نحوها؟! إذا حافظت الرواية على جاذبيتها، فوحده عجزه عن التعبير يجعله مقصراً في التأثير على القارئ على النحو الذي مورس عليه· شخصيات وملفات ؟ في ''المترجم الخائن'' كما في سواها من رواياتك، تبدو جاهزاً لأن تستغل أدنى إشارة إلى شخصية ما كي تفتح ملفات هذه الشخصية، بل إنّ التنقل من موضوع إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، يبدو من أهم الأدوات الروائية لديك، كما لو أنك تفتش عن نقطة ضعف أو ثغرة على طول جبهة عريضة من الشخصيات والموضوعات تدلف منها إلى مستويات أعمق تبغي اكتشافها· لماذا هذا الأسلوب؟ ما الذي يجعلك في حاجة إلى مثل هذه البانوراما العريضة؟ ؟؟ تتحرك الرواية عادةً داخل إطار يحدده الروائي في ذهنه، وإن بشكل غائم، ويحاول أن يرسم في داخله ما يستدعيه من أفكار وحوادث وشخصيات، يقدم من خلالها صورة لحالة أو مجتمع أو صراع· يجهد أن تحاكي ما يدور في رأسه· في ''المترجم الخائن'' بدأت من حادثة بسيطة، ومن الطبيعي ألا أبقى أسيرها، وإنما أن أهيئ السبل للانطلاق منها إلى الأطراف والجوانب والخفايا والخلفيات، عداها لا تأخذ اللوحة أبعادها ولا ألوانها وتمايزاتها وأحجام أجزائها· فإذا كان الوسط الثقافي هو الإطار، ففي الخلفية المنطقة والعالم، وتالياً ليس في الوسع إغفال ما طرأ عليهما من تحولات انعكست على المثقفين باختفاء نظريات وظهور أخرى· ولا تجاهل علاقة المثقف بالسلطة، أو تأثيرات الصراعات في المنطقة على مجتمعات المثقفين وتوجهاتهم نحو بدائل أخرى رائجة· إذا أردت الإحاطة بهذا كله، فلا بد من تقنية تسمح لي بالتحرك بحرية داخل عالم كثيف ومتشعب، لذلك كانت كل ثغرة تساعدني على الانتقال من فضاء إلى فضاء، مما أعطاني المبرر كي أغطي بانوراما عريضة، يصح فيها القول إنها الأقرب الى تصوراتي· ؟ من جهة أخرى، يبدو الفن والمرأة، في رواياتك بوجه عام، مفتاحين أساسيين في الكشف عما يقترف من جرائم وانتهاكات مريعة· أليس ثمة هنا استخدام أداتي لهذين الكيانين· ما الذي يجعل للمرأة مثل هذه القدرة على الكشف بخلاف الرجل؟ ؟؟ ارتبط الفن لديَّ بالإبداع والمثالية والخير والصدق والإخلاص والتطلع نحو الكمال، لذلك ألحّ في رواياتي على الفن، وأرصد انعكاسات السياسة ومفاعيلها عليه· أعتقد أنه الميزان الأكثر حساسية لرؤية ما تحقق فعلاً على المستوى الإنساني الحقيقي· فإذا فعلنا شيئاً جيداً في السينما والمسرح والأدب، فنحن على الطريق السليم، أما إذا أخطأ الفن الطريق، فنحن لسنا بخير· بالنسبة الى المرأة، لا أنظر إليها على أنها الطرف الأضعف، وإنما الأقوى الذي يقع عليه العبء الأكبر في الحياة، إلا إذا شاءت أن تنظر إلى نفسها كطرف مغلوب على أمره· ودائماً كانت تحوز احترامي وإعجابي، ونقمتي أيضاً، عندما تحاول التفوق على الرجل في أمور لا تليق بالرجل أصلاً· إن الوساوس المبالغ فيها والنزعات الاستعراضية، والميل نحو التسلق بأي ثمن، والأدوار المستعارة التي تصيب بعض النساء، هي نقطة ضعفها، مثلما هي نقطة ضعف الرجل، لذلك عيوبنا مشتركة· وما يجعلها أكثر كشفاً من الرجل، فلأن ضغوط المجتمع قوية ضدها، وهي الوحيدة التي تدفع ثمن تحررها، عدا أن مغامراتها في سوق العمل مكلفة، طالما ان الرجل يعمل على تشويهها بتسويقها تجارياً· ؟ استطعتُ أن التقط في ''المترجم الخائن'' عدداً من الإحالات الأكيدة على أشخاص فعليين نعرفهم في الواقع، مثال على ذلك أجزاء أو جوانب في شخصية الناقد حلوم· وهذا ما يثير مرة أخرى ما يلجأ إليه الروائيون من ضروب الانتقام من أشخاص معينين على صفحات رواياتهم التي توفر لهم، بوصفها روايات، حجة للتهرب من مثل هذه التهمة على أساس التفريق بين الواقع والرواية، وبين المنطق الواقعي والمنطق الروائي، بحسب الحاجة· هل من حق الروائي أن يمارس مثل هذا الانتقام، أم أن الأمر غير ذلك تماماً؟ ؟؟ الأمر غير ذلك، على الأقل بالنسبة إليّ، ليس لأني أريد نفي نزعة الانتقام عني، وإنما لأسباب أخرى· ثمة أكثر من قضية في هذه الرواية، لا أريد تشويهها بخصومات شخصية، الأمر يتعدى تصفيتها في رواية، ولا يجوز وضعها في هذا الإطار· هناك نقّاد أحترمهم على الرغم من خلافاتي معهم، ولا أريد أن أحيل سوء تفاهم بيننا على عداء لا مبرر له، ولا جدوى منه، لأنه مضاد لرأيي فيهم· ومهما يكن هذا الاشتباه، فأنا لا أؤيد هذا الاتجاه· أشخاص روايتي بحسب مواصفاتهم غير مطابقين للواقع، الخلق الروائي عملية معقدة جداً، ومثلما هم مدينون للواقع، يُكثفهم الخيال، ويحيلهم على نماذج تَمُتُّ الى الصناعة الروائية، وخاضعة للمنطق الروائي البحت· إن وجود أشباههم على الأرض، لهو يتعلق بقراء محددين، وهذا لا يعني الرواية، وإن كان يشير إلى أنني لم أكن أتكلم عن تخيلات وإنما عن فساد وتفسخ· وما يهم الروائي، هو خلق دائرة تشير إلى واقع حقيقي· من جانب آخر، هل يحق للروائي أن يمارس مثل هذا الانتقام؟ ربما، لن أنزع منه هذا الحق، إنها المساحة الوحيدة المتوافرة له، إزاء بعض الذين يستبيحون الثقافة، إذ ليس لديه منبر يرد عليهم سوى رواياته· فلِمَ لا؟! صورة المثقف ؟ في ''المترجم الخائن'' تتناسل صور المثقف الرثّ والسلطوي، ويغترب المثقف النزيه عن ذاته وعن المثقفين، متحولاً إلى مجرد كائن بيولوجي، من دون أن نجد بين هذين الحدّين حدوداً أخرى· هل هذه هي الصورة حقاً في الواقع، خاصة أنّه في بلد مثل سوريا يكاد الوقوف في وجه القمع والفساد بكل ما يقتضيه ذلك من جرأة وكوارث، أن يكون مقتصراً على المثقفين· انظر، مثلاً، إلى الفئات التي ينتمي إليها معظم معتقلي ثمانينيات القرن العشرين بيسارهم ويمينهم؟ ؟؟ بداية، حتى لا نغمط مترجمنا حقه، فهو لم يتحول إلى كائن بيولوجي، وعلى رغم أنه كان مقيداً، فقد تدخل أكثر من مرة في مسار الترجمة، واحتج على الكثير من الآراء، بل ومارس الفعل، وكاد أن يقتل أو يُقتل· وكان حريصاً على أن يتجاوز وضعه الشائك· غير أن ما ينبغي التنبه اليه، أنه لم تعد هناك مواصفات مقوننة للبطل الإيجابي يجب التقيد بها· تلك خطيئة أدب الواقعية الاشتراكية· وإن كان أكثر من قدّم تضحيات حقيقية هؤلاء الذين ضحّوا بيفاعتهم وشبابهم وحياتهم في المعتقلات، لكننا لسنا في حضرتهم، وإن كنت قد أشرت إليهم في روايات سابقة· أنا أكتب عن الذين يمارسون العمل الثقافي تحت شعارات معارضة، ولا يتورعون عن التعامل مع السلطة والتزلف إليها· هذه الرواية في شقها الأعظم، فضح لهؤلاء· إن الرواية، باتت أيضاً منفتحة على فئات هامشية مثقفة مثل مترجمنا هذا، والفساد بات يعني الجميع· لماذا لا نفكر مثلاً في أن بيتنا مهدد من الداخل؟ ؟ على الرغم من كل الادانات التي تتناول بها المثقفين الزائفين والانتهازيين، إلا أنك تبدو كأنك تستغرب وجودهم، مع أنّ المثقفين كغيرهم من الفئات متعددون متنوعون تعدد الثقافة وتنوعها· ألا تعتقد أنّ هناك مثلاً ثقافة طائفية ومثقفين طائفيين، وثقافة عنصرية ومثقفين عنصريين· أم أنك لا تعدّ ذلك ثقافة؟ ؟؟ مشكلتي ليست مع المثقفين الطائفيين ولا العنصريين ولا المحافظين الجدد، من الممكن أن نقيم معهم حوارات هادئة وجدالات صاخبة، وأن نتواصل في هذا المجال، حيث يجري دحض الحجة بالحجة سواء أكان هذا مجدياً أم لا، بينما لو أظهروا انتهازية وتزويراً بالبيانات والمعلومات ولفقوا الأكاذيب، فهذا يبطل الحوار ويحيلنا على مجال آخر، لا علاقة له بالطائفية ولا بالعنصرية، فما بالنا بالثقافة؟! فعلاً أستغرب وجود مثقفين انتهازيين، لأنني أتصور أن المثقفين معادون للانتهازية والزيف وعدم النزاهة· وهذا لارتباط الثقافة في ذهني بالأخلاق· وإذا كان هناك مثقفون انتهازيون فهذا يسقط عنهم صفة المثقف· كيف مثلاً نثق بمثقف يطالب بفضح الفساد ومقارعته، إذا كان فاسداً؟! كيف في وسعه أن يكشف الزيف إذا كان هو زائفاً؟ هناك صنف من مدّعي الثقافة يحللون لأنفسهم ما يحرّمونه على الآخرين، فإذا أصابهم ظلم، يقيمون الدنيا ويقعدونها، لكنهم لا يتورعون عن إيقاع الأذى بغيرهم· إلا إذا كان هناك اعتراف بوجود ثقافة زائفة وثقافة انتهازية وثقافة خائنة· وينبغي شرعنتها!! هذا التسيب، يجعل كل شيء مسموحاً تحت غطاء ثقافي، هل هذا ما يدعونه بموت الثقافة؟! على كل حال، مسألة الأخلاق تبقى في رأيي مهمة جداً، لا يمكن تجاوزها بتبريرات ثقافية مخادعة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©