الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في وداع رجل أحبه

في وداع رجل أحبه
20 نوفمبر 2014 00:54
موجع غياب الأحبة ومربكٌ، يضطرب له القلب، وتتجمد فيه الأنامل حتى كأنها لم تلامس القلم يوماً. وصعبة هي الكتابة عن رجل لم تكن لتفكر بغيابه، حتى مع اليقين بأن لا خلود في هذه الدار لأحد. أتطلع في وجوه المعزين الذين تقاطروا إلى عزاء محمد خلف المزروعي من كل حدب وصوب، فأخالهم مثلي ينتظرون أن يطل عليهم «بوخلف»، ليبادلهم السلام والمودة، وهو الذي كان يستقبلهم بابتسامة ويودعهم بأحسن منها في مجلسه العامر في أبوظبي. في عزاء محمد خلف المزروعي تعلمت كيف يكون الحضور في الغياب، وكيف يمكن للإنسان أن يرحل بجسده ويبقى حياً كأكمل ما تكون الحياة في القلوب والنفوس التي أحبت فيه الرمز والقيمة والمعنى، وكيف يعزي الحضور بعضهم بعضاً في هذا الرحيل المؤلم، وكيف للدموع أن تنفلت من عيون مهيبة أبية غالبتها طويلاً، وكيف لآلاف الحضور الذين تقاطروا على المجلس أن يشعر كل منهم أن المصاب مصابه، والألم ألمه. كان محمد خلف المزروعي من أولئك الرجال الذين نذروا حياتهم للعمل والبناء والإنجاز، منطلقاً من شعور صادق بالمسؤولية، وقدرة على بذل الجهود الجبارة في عدد لا يحصى من مواقع العمل ومجالاته، ومحتفظاً في الوقت ذاته بهدوء نفسه وبشاشته الآسرة وابتسامته التي تفيض بشراً وطمأنينة وتصالحاً مع الذات. كان محمد خلف المزروعي من ذلك الطراز النادر من رجال الإمارات الذين نذروا لها حياتهم وجهدهم وعلمهم، موقنين بقدرتهم على قهر المستحيل، وواضعين نصب أعينهم تحويل الرؤية الطموحة للقيادة الرشيدة إلى واقع يتفيأ أبناء الدولة خيره، وينعمون به أمناً وازدهاراً ورخاءً ومعرفة وحياة كريمة تليق بهم. لم يكن محمد خلف المزروعي رجلاً يؤدي المهام التقليدية في أي موقع تولاه، فحين أسندت إليه مسؤولية الثقافة والتراث في أبوظبي، ولاحقاً مسؤولية الإعلام لم تكن المهمة إدارة عمل يومي معتاد أو تسيير مؤسسات قائمة بكفاءة، بل كانت مهمته إنجاز تحول جذري يجعل من الثقافة والمعرفة وجهاً عالمياً لأبوظبي، إلى جانب دورها السياسي وثقلها الاقتصادي الكبير. وخلال سنوات معدودات، تحولت أبوظبي إلى قبلة للثقافة والمعرفة والفنون بمختلف أنواعها، وأقيمت فيها مؤسسات وصروح ثقافية وإعلامية كبرى جعلت منها محط أنظار العالم، ومركز اهتمامه. لا يحتاج «بو خلف» لشهادة مني، فأعماله ومشروعاته ملء السمع والبصر. ولكن من حق شباب الإمارات أن يعرفوا بعض ما لمسته عن قرب في هذا الرجل. فكل من يصحبه يلمس ما كان يتمتع به، رحمه الله، من أدب جم وتواضع كبير، وصبر وأناة وهو يستمع إلى محدثيه على اختلاف أعمارهم وهمومهم. وحين كنا نسأله من أين لك كل هذا الصبر؟ وكيف تجد الوقت لمتابعة كل هذه المشاغل؟ كان يجيب بابتسامته المحببة: لست إلا واحداً من الذين تربوا في مدرسة زايد وخليفة ومحمد بن زايد، ومن تكن هذه مدرسته فلا بد له أن يكون وفياً لمبادئها وقيمها، وهي التي نذر أبناؤها أنفسهم لأهلهم ووطنهم. كان «بو خلف» مؤمناً بأن أمامنا مهام صعبة، وأن مواجهة القوى الظلامية والمتطرفة لا تتم إلا من خلال نشر الوطنية الواعية والفكر المستنير والثقافة الهادفة، فكان لا يكل من العمل في سبيل تحقيق ذلك، مؤكداً أن علينا ملء الفراغ بما هو نافع حتى لا يملأه غيرنا بما هو ضار. وفي ساعات فراغه من العمل حوَّل «بو خلف» كل لحظة تمر به إلى فرصة للعطاء، وكل نشاط يمارسه في حياته اليومية إلى ساحة لتقديم أعمق الدروس ببساطة. فقد حول حبه لرياضة المشي إلى لقاء يومي عامر بالنقاش يفتح به أبواباً من العلم والثقافة والتاريخ والأدب والخبرات الإنسانية، ولقد كان، (وربما لمعرفته بكسلي)، يتصل بي دائماً ليذكرني بوقت المشي اليومي المقرر. وكان، رحمه الله، حين يسير ترصد عيناه الطريق بحثاً عن علبة ملقاة أو ورقة مهملة تركت على جانب الشارع، ويفاجئني بانحناءة يميط بها بعض الأذى عن الطريق، فلا يكون أمامي إلا أن أجاريه، وهكذا يفعل كل من يرانا في الممشى، ولا ينتهي مسيرنا ومسيرهم إلا وفي يد كل واحد منا بعضٌ مما علق بالطرقات، نرميه بالسلال، فيما «بوخلف» يبتسم مطمئناً إلى أن رسالته وصلت، وأن الدرس العميق المغزى استقر في الوجدان ليتحول إلى سلوك وممارسة فعلية. لعلني اليوم أعرف لماذا كان يختصر أياماً طويلة في يوم واحد، ينتقل من موقع عمل إلى ثانٍ وثالثٍ ورابع، بعزيمة لا تكل، وصبر لا ينفد، وقدرة على حفز العاملين تحت قيادته، وإلهامهم، وتفجير طاقاتهم ومواهبهم، وإذكاء المشاعر الوطنية في نفوسهم، معتمداً في ذلك على طاقة من الحب ومن التفهُّم ومن العطاء ومن المصداقية ومن التعاطف مع الجميع. لعلني اليوم أعرف أنه كان يسابق الزمن، ربما لأن روحه الشفافة كانت تستشعر الرحيل المبكر، وتدفعه إلى أن ينجز خلال سنوات ما يحتاج من غيره إلى عقود من الجهد والعمل. أتراك اليوم في عليائك تشعر بما بنا؟ أترى قلوبنا الكسيرة ودموعنا الحرّى؟ أيصلك أنين الموج يلامس الرمل على ساحل «طريف»؟ وحنين أعواد الجريد يضمها «الدعن» في مجلسك «العريش»؟ سلاماً أيها الشامخ كنخل ليوا، السند لأهلك مثل «الدَبّاس»... سلاماً أيها الوديع مثل رياض «المشرف» وحدائقه... سلاماً لك من أخٍ لم يكن ليخطر في باله أن يرثيك يوماً، فاعذره إن عيي لسانه وارتجف قلبه وزل قلمه، وعهدي بك أنك سيد العاذرين! راشد صالح العريمي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©