الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عام الموت

عام الموت
19 نوفمبر 2014 23:55
ألو ولك وينك.. أنا في نزهة. أين؟ قل لي آتيك أينما كنت.. في مقبرة الكنيسة، كنيسة Greenford! لَهْ يا غراب النحس، تتنزه مع الموتى، ألم تجد مكاناً غير هذا تتنزه فيه؟ ما تفعله لا يجرؤ المجانين عليه ولا السكارى ولا المخابيل يا غراب الشؤم، اسمع: لن أراك اليوم، كي لا أعثر في قميصك على هيكل عظمي...اذهب إلى الجحيم.. لينا أبوبكرالمقبرة مشجرة، والكهنة المدفونون بفنائها هم سدنة الكنيسة، يفترشون العشب الذي يغزو أرضيتها، لتبدو على هيئة حقل صغير، حقل موتى أخضر، كأن انحلال الانسجة في التراب هو ضرورة لنمو هذا العشب الفسيح في مدن الموتى، إنها وحدة الأضداد، في تناغم ديالكتيكي، تفرضه خاصية الطبيعة، التناقض هنا أو التضاد ليس عدائيا، إنه انسجامي بحت تكتمل به سنن الصيرورة والبعث..هنا فقط تستطيع أن تجد تفسيرا منطقيا للقفزة النوعية التي تحققها فكرة «وحدة التناقض».. بوابة إلى العالم السفلي في مقبرة «سحاب» في الأردن، لم أر شيئا من هذا القبيل، كانت المقابر مستوية بالأرض تماما، لا ترى منها سوى ما يشهد على اسم راحلها، صحراء على مد البصر، ارتباكك أو اضطرابك أمام قفرها يثير اشمئزازك ونفورك أكثر مما يحفزك على استنباط الحكمة من الموت، إنه يحولك إلى كائن مهووس بالحياة، يناصب العداء للقدر رافضا الاعتراف بحتميته كأنه لا يخص لوحه المحفوظ.. القبور في بلادنا تقودك إلى بوابة الموتى في العالم السفلي، عالم اللاعودة، تمتطي زورق التنين الذي يسوقك مصفدا بأغلال أفعوانية إلى آلهة الموت، فتلج ملكوت الوحوش حيث تولد الشياطين، التي تتلقف جثتك، لتقلع أظافرك، وتنزع جلدك، في غرفة تحقيق محفوفة بحراس الهياكل العظمية، وبطانة الأشباح، يطلعون على كتاب أعمالك، في محكمة الأفاعي، ويلقونك في جهنم السجون.. القبور في بلادنا سجون، فكل ميت أسير! أحب قبور الإنجليز، أريد أن أموت هنا... كنا كعادتنا ندرس في بيت وائل، ونهزأ من أستاذنا في معهد اللغة، الذي كان يؤمن بعبقرية الفراعنة بالتواصل مع كائنات فضائية تنتمي إلى كواكب لم نستطع رغم ما كل ما حققناه من تقدم تكنولوجي أن نتكهن بوجودها، صدمنا عندما كشف حقيقة اختراع اللاسلكي في عهدهم، فإما أنه ممسوس، أو مصاب بلعنة الفراعنة إلى الحد الذي يدفعه لاختتام كل محاضراته بذات العبارة: «أنتم لا تعرفون عن الفراعنة ما يعرفونه هم عنكم»! بدت كلماته يقينية، ومعرفته علمية، خاضعة لبراهين وأدلة، أفزعتنا ونحن نستعيدها في تلك الليلة الصقيعية من يناير الأبيض، توغلنا في عالم الأرواح، حدثنا وائل عن روح أبيه التي كانت حاضرة يوم زواج أخته الوحيدة، قال إنهم وجدوا صورتها بثوب زفافها في محفظته، وإنها نامت ليومين كاملين عذراء من دون أن يمسسها زوجها، ولما استفاقت، أخبرتهم أنها رأت والدها يمشط لها شعرها الذي نبت من رأس دمية ميتة ! الخوف لا يعيب الرجال، العيب ألا يخافوا، ولذلك خفنا.. قصة والد وائل أعادتني إلى كاهن المعبد الياباني الذي كان يشذب شعر دمية تدعى «أوكيكو «، ماتت طفلتها، ولاحظ والداها نمو شعر دميتها الذي اعتادا أن يشذباه باستمرار إلى أن قررا مباركة الدمية في الكنيسة ليتكفل الكهنة برعاية روح طفلتها التي سكنتها... وآه ما أفظع الخوف في يناير! كنا كمن يلعبون الويجا، نمسك بقطعة معدنية على لوح اللعبة، تحركها أرواح موتانا، الذين تبدو أمامنا بهيئاتنا وقد اصفرت وجوهنا، وجف ريقنا، وبلغت قلوبنا الحناجر.. صرختُ بهم: أووووووه ! فانتفضوا كمن يتخبطه الشيطان من المس، هجموا علي هجمة رجل واحد يسددون إلي اللكمات، ويلعونني ويتوعدون بالانتقام مني: والله لأنيمك بالمقبرة الليلة.. لو كنت زلمة، هسّه إنزل ع المقبرة، وفرجينا مراجلك يا عزرائيل... هكذا إذن، عليّ أن أثبت رجولتي بين الموتى! لا بأس... بشرط، إنك تنزل معي لو كنت أزلم مني! رجولة! وصل ارتفاع الثلج في تلك الليلة إلى ما يقارب النصف متر، ارتدينا معطفينا، ومضينا إلى القبور..الساعة تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، البرد يقرص العظم، والمدينة مكتظة بالموتى الذين تناهى شخيرهم إلى مسامعنا، كأنه تثاؤب عفاريت خرجت من عالمنا السفلي لتتنزه في ذاكراتنا.. خلص يا زلمة بمزح معك... تعال نرجع ونوحد الله، ما كان ناقص إلا نراهن على المرجلة بين الجماجم.. والله لتدخل، صرنا واصلين... تخفش من إيش خايف، ولا كنت متعنتر وإنت تتحداني بس، تخفش هون مش زي بلادنا..هناك كنا نخاف من المحششين والمشردين اللي بناموا بين القبور نشرد منهم مش من الميتين، وهيَّك شايف قبور هاي البلد مضوية أكثر من بيوتها.. قرب نشرب سيجارة ونسلم على الملايكة اللي بتحرس الأرواح في الشجر قبل الحجر، ونروِّح.. لست أدري إن كنت أكذب على خوفي أم أن خوفي خذل صدق اللحظة، أو أنني أتوهم أنني أتذكر فأتخيل ما يتأرجح بين الخوف والحلم والتخمين. كل ما علق بذهني من تلك المراهنة هو شاهد قبر حمل اسما لا تينيا لأحد الكهنة الميتين، مضت أعوام لا أستطيع عدها، ولكنني تفاجأت يوم عقد قران ابنتي في Ealing، بمقر مكتب تسجيل الزواج المدني بتوقيع كاهن القران.. إنه صاحب القبر في تلك الليلة من عام الموت!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©