الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه كافكا: طفل براغ المرعب!

وجه كافكا: طفل براغ المرعب!
19 نوفمبر 2014 23:55
إسماعيل غزاليوجه لاذع. طفوليٌّ تعتريه ضبابيةُ كهولةٍ آبقة. منذورٌ للتحول دون أن يتحوّل. يشعّ من صلابته الارتياب. وإنْ يبدو ضالعاً في الصمت وطاعناً في الجليد، فهو وجه مربك ولا يمكن الاطمئنان إليه بسهولة. أكاد أتخيل كم مخرجاً سينمائياً وقف عند وجه فرانز كافكا - كالذي تفصح عنه الصورة بقوة انزلاقية وارتدادية - وندّت منه آهة حسرة! فالولد الكارثي خلق ليكون ممثلاً مرعباً لأفلام المتاهات السوداء والجرائم الغامضة. وجه مشحوذ كالذي يمتلكه فرانز كافكا، جدير بأن ترصده كاميرا لعينة من دون سيناريو، يكفي أن تلاحقه في أزقة براغ أو برلين، لتصنع من حضوره الرهيب فيلماً مختلفاً لا يمت بصلة لمعجم أفلام الجريمة والرعب، لا يمت بصلة لتاريخ السينما جذرياً. ينتمي وجه كافكا إلى صنف الوجوه التي ينفرد أصحابها بندرة الكلام وكثرة الخجل وشيوع الهدوء المربك.. الشيء المدوي في سكينته والصارخ في صرامته هو أن وجوههم تنوب عن الكلام بوفرة العلامات، وتستأثر بعمق مفزع يتوارى خلف الخجل، وتضج بأغوار ذات تمور بأفكار حاذقة وصور جارحة تصطخب وراء ملمح الهدوء الماكر في السطح.. غزارة شعره وتقليعته الخاصة به، تضطلع بملء مساحة فراغ هائل في هندسة وجهه الضئيل، فالكثافة الوفيرة النابتة في رأسه تظلل في تناغم بديع ولافت حجم مثلث جمجمته الصغير. يعزز وفرة الشعر الباذخ انتصاب الأذنين الكبيرين في يقظة طارئة، يدعمان معاً مساحة الجمجمة الضئيلة ويرتقان المثلث بأداتيهما كما لو كانا جناحين، هذا التوصيف لإحداثيات وجه كافكا في الصورة باطل إذا ما قورن بالأشياء التي يضمرها، بالعلامات التي تشكل مادته المخادعة، برمزيته الممتنعة على رسم انطباعي جاهز... هل يمتلك كافكا وجه كاتب بالفعل؟ آخر شيء يخطر في ذهني وفق ظني الآثم، أن يكون له وجه كاتب، أعني لمن يجهل صورته، إذ إن فرضيات عديدة ستتلاطم في خيال الرائي وهو يحاول أن يلائم بين شظايا حدسه كي يخمن بشكل قريب حقيقة مهنة الرجل، حرفته أو هوايته على الأقل ... أول الاحتمالات، هو أنه وجه لممثل يتأرجح بين المسرح والسينما، وأما حماقة التلفزة فلا حظ لها هنا مع صرامة الوجه، ولا يمكن أن يكون بحال من الأحوال كائناً اجتماعياً، حتماً لا تتوافق خلقته العنيدة مع الذائقة الشائعة أو مع ثقافة العوام الفاسدة. الاحتمال الثاني، هو أن الوجه الصلد هذا يمكن أن يكون لمحقق بوليسي، مولع بجرائم القتل الغامضة، محقق خارق وحاذق ومغامر، يحترف القضايا الأشد تعقيداً ولغزية في تاريخ الأمة. لكن المفارق في الأمر والشيء الصادم في الآن ذاته، هو أن الوجه يحتمل أن يكون أيضاً لأبرع المجرمين من ذوي المقدرات الهائلة على التخطيط والهندسة وحبك السيناريوهات المضللة، مجرم بمخيلة رهيبة تتخطى الأشكال البوليسية التي يعتمدها المحققون في تفكيك ملابسات الجرائم وتتجاوز أدواتهم النبيهة في البحث والاستدلال والظفر بالقرائن الدالة على الفاعل المطلوب.. هذا النوع من المجرمين يشفع له إبداعه منقطع النظير عند مهرة المحققين، لأنه بالقدر الذي يؤرقهم ويصدع طمأنينتهم ويشطر أذهانهم ويدوخ يقظتهم ويربك أعصابهم، هو في نفس الآن يحقق لهم متعة خالصة، إذ إن كل جريمة هي بمثابة درس كبير في علم التحري وفن الجريمة، لا يمر دون أن يخلخل مدونة القانون السائدة. أما الخطورة كلّها، بل المعضلة، فكامنة في أن يكون محققاً بوليسياً وهو نفسه المجرم في آن، وهذا احتمال مضاعف يوشي به خيال الوجه الصلد. احتمال آخر يتكاثف ويتمادى كطيف، أن يكون الوجه الماكر والحاذق لطالب رياضيات أو فيزياء، يعاني فاقة مزمنة ليواصل التحصيل، طالب ليس هذا هو طموحه في الواقع، حلمه البكر الذي لم يستطع إليه سبيلاً، أن يكون موسيقياً. كيف سيحقق حلم الموسيقى في مهنة أخرى، في حقل مغاير ولو كان نقيضاً؟ هو السؤال الذي يسطو في لاوعيه، ويسعى إلى تحقيق الأمر كيفما بدا مستحيلاً.. خلف صرامة الوجه وصلابته، ثمة هشاشة تكشف عنها النظرة الواثقة والمستكنهة لأفقها. نظرة وإنْ تبدو مثخنة بذكاء متوقد، لا تستطيع أن تخفي الأسى الغفير الذي يرقرق في سوادها. تلك هي بعض إيماءات وجه فرانز كافكا في الصورة، وهي إذ تبدو نائية عما عرف عنه واقعاً في الظاهر، فلا تجانب حقيقة أشيائه المفزعة في العمق على سبيل المضمر. كما لا تتعارض وتكوينه المعرفي والعلمي بدءاً بدراسته للكيمياء وتحوله إلى دراسة القانون مع الالتزام بدراسة تاريخ الفن والانخراط في نادٍ للقراءة للطلبة الألمان، جعلت وعيه ينفتح على الفلسفة والمسرح والفيزياء.. قبل أن ينال دكتوراه في القانون ويتحول إلى موظف في شركة تأمين على حوادث العمال، ويصير نباتياً ويتطوع للجيش ويرفض طلبه لأسباب صحية... الخ كل هذه السيرة غير الأمينة والموجزة جداً، لم تنل تحولاتها الناهبة من وجهه شيئاً، وهذه هي الجدوى من سردها في جملة صحافية ركيكة، فمن أين لكافكا هذه القدرة الجبارة على امتصاص مسوخه وتحولاته؟ من أين له هذه المهارة الشيطانية في سطوة الإخفاء وفن المداورة؟ من أين له هذه القوة السحرية في إبقاء علامة الوجه الخارجية ثابتة، فيما هي قائمة على نهر صارخ من الاهتزازات والاضطرابات والتموج؟ ظل يتمتع بهذه الطبيعة الخارقة حتى في عز مرضه، ونحوله الفظيع جراء مرض السل الذي ألهب حنجرته فامتنع عليه الأكل.. ومع ذلك بقي الوجه كما هو، يصدح بجلالة غرابته، وصلابته، وحذاقته.. كما لو أن الطفل الذي يعبث في كيميائه هو سره وخلاصه، فضلاً عن أن طيفاً بعيد الكهولة، كانت دائماً تضمخ سيماءه وسحنته ... عجباً كيف حافظ الوجه على رصيد قوته عند خبو نجمته: (وجهه جامد صارم، مترفع، مثلما كان ذهنه نقياً. وجه ملك ينتمي لأكثر الأنساب نبلاً وعراقة!)، هكذا كتب طبيبه الذي عاينه في أيامه الأخيرة. شيطان العبقرية ولد– شيطان العبقرية - كافكا في مدينة براغ عام 1883، وفي عام 1896، دخل إلى الجامعة لدراسة علم الكيمياء، ولكنه سرعان ما غير موضوع دراسته لكي يصبح علم القانون وفي عام 1902 التقى بذلك الشخص الذي سيصبح ناشر كتبه بعد موته، ماكس برود. وفي عام 1906 أنهى دراسته في الجامعة الألمانية بمدينة براغ، وأصبح موظفاً في مكتب للمحامين، وقد تنقل بعدئذ من وظيفة إلى أخرى وفي الوقت ذاته كان يمارس عملية الكتابة، ولكن بدون نشر، ففي عام 1912 كتب روايتين شهيرتين بعنوان: «التحولات، والمحاكمة، وفي عام 1922، أي قبل وفاته بسنتين ألف كافكا رائعته: القلعة وفي عام 1924 مات الكاتب الكبير بمرض السل. رايتشي روبرتسون: كافكا، مطبوعات جامعة أوكسفورد، 2004 يكفي أن تكون صامتاً تاريخ العالم كامن في غرف المنازل. ليس من الضروري أن تخرج من بيتك. الزم كرسيك واصغ. كلا، لا تصغ، انتظر فحسب. كلا، لا تنتظر، يكفي أن تكون صامتاً ووحيداً، إذ سيجيء العالم ليرتمي عند قدميك ويرجوك أن تخلع له أقنعته. لا يسعه أن يفعل غير ذلك. سوف يتلوى منتشياً أمامك. كافكا في «المسخ»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©