الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«كاو داي».. خليط عقائدي

«كاو داي».. خليط عقائدي
20 نوفمبر 2014 03:07
صدفةً، أو بموجب خطأ قامت به موظفة مكتب السفريات والرحلات، سأجد نفسي أقوم برحلة على تخوم الحدود الكمبودية، عوضاً عن زيارة دلتا الميكونغ. لا أدري لماذا كنت متلهفاً على زيارة هذه المنطقة ورؤية دلتا الميكونغ. هل أن شيئاً ما في الاسم هو الذي كان يسحرني ويشحذ في الرغبة لرؤية هذا المكان الشبيه بكائن أسطوري؟ رنين سحري غامض يسكن بعض الأسماء، يملؤها بطاقة غريبة لها مفعول الغواية على نفس المسافر، يضفي على الأماكن التي تشير إليها تلك الأسماء طابع المحجّ: مراكش، وادي نون، وادي الذهب، شانغهاي، نهر يانغ تسي، عدن، تومبوكتو، سمرقند، النيل، الراين.... منارات تومض داخل الوجدان وتشحذ الشوق مثل أساطير قديمة لها نكهة المغامرة داخل عالم فردوسي لذيذ وغامض، غريب وقريب من النفس في الآن ذاته... علي مصباحدلتا الميكونغ! لابد أن أرى دلتا الميكونغ! هكذا كنت أردد لنفسي وأنا أسرح لساعات بعيني فوق خريطة جنوب شرق آسيا منذ بداية رحلتي التي انطلقت من بكين. لكن الصدف شاءت، أو قلة انتباه وتسرع يبدو ملاصقاً لطبع الفييتناميين عند عقد الصفقات، أن تبعث بي تلك السيدة إلى رحلة أخرى. سأنتبه إلى الأمر ورحلتنا قد أشرفت على نهايتها ولا ميكونغ هناك ولا حديث عن الميكونغ. فقط مجرد كلمتين عابرتين عن سكان المناطق المحاذية للحدود الكمبودية ودلتا الميكونغ: «سكان هذه الجهة أغلبيتهم من ذوي المعتقد الإسلامي»، قال الدليل السياحي، مضيفاً كي يدخل شيئاً من الاطمئنان على مجموعة الأوروبيين والأميركيين الذين كان يقودهم في هذه الرحلة: «لكن مسلمينا هنا في فييتنام مسالمون، وليس فيهم إرهابيون». قال ذلك بنبرة لا تخلو من غمز غير بريء، دون أن ينسى أن يقذفني بنظرة جانبية سريعة وهو يقدّم هذه المعلومة. رموز وأشكاللم نر دلتا الميكونغ ولا مسلمي سكان القرى المجاورة من شعب «شام» الموزع على مناطق الجنوب الغربي لفييتنام وجنوب كمبوديا. لكن المفاجأة السارة، أو المعزّية، كانت زيارة معبد أو كنيسة من نوع غريب لفرقة دينية تسمى «كاو داي»، وهي فرقة تجمع داخلها بوذيين وتاويين كونفوثيوسيين ومسيحيين. نوع من المعتقد الجديد الذي أسسه في مستهل العشرينيات من القرن الماضي، موظف فييتنامي في الإدارة الاستعمارية الفرنسية، يدعى نغو فان شيو على إثر رؤيا تمثلت له فيها الروح القدس في هيئة عين كبيرة مشعة. صورة العين نراها مرسومة داخل مربع كبير في أعلى واجهة الكنيسة، كما تظهر على كل النوافذ الجانبية أيضاً: العين شكل دائري يتوسطه البؤبؤ الذي يبرز للمتمعن بدقة نصفين، واحد أبيض والآخر أسود على صورة رمز اليانغ واليينغ الشهيرين، الدائرة داخل مثلث تنطلق منه أشعة يؤطرها شكل مربع. لم أجد بعد تفسيراً لهذه الأشكال الهندسية الثلاث: الدائرة والمثلث والمربع. كاو داي تعني حرفياً «السراي الأكبر»، والبعض يقول «المبنى الكبير»، كما يمكن أن تعني البرج والسطح الذي يوجد فوق سقف السراي. واصطلاحاً تعني العبارة الإله الأعلى. ويعتقد أصحاب هذه الفرقة بأن الله قد جعل رسالته تتجلى عبر التاريخ بحسب مسار متدرج. وبالتالي تكون «تعاليم موسى هي البرعم، وتعاليم عيسى المسيح هي الزهرة والكاوداييّة هي الثمرة». أما عن الديانات الآسيوية، فيرى معتقد الكاوداي أنها تبعت هذه السلسلة من التطورات المتكاملة: «كان فضل لاوتسي ذي المقام الرفيع أنه عمل من أجل خلاص الإنسانية، والحكيم كونفشيوس قد وضع للناس طريق الوسط القويم، أما بوذا الرحيم، فقد علم التواضع وحب القريب»، ثم تأتي ديانة الكاو داي بالنهاية ليبلغ الدين معها طور الكمال. الكنيسة بناية غريبة الهيئة مذوقة بشتى الألوان، ما يجعلها أشبه بلعبة أو نموذج مصنوع من الحلوى. وهي في هندستها المعمارية تتراءى من بعيد مثل كنيسة كاثوليكية بصومعتين في المقدمة وبرج في الخلف يشبه الباغودة. أما سقف القرميد المنضد على ثلاثة مستويات متراكبة، فيشبه سقوف المعابد البوذية عامة. الفضاء الداخلي لكنيسة فرقة كاو داي يمضي أبعد في عربدة الألوان والأشكال والإشارات والرموز. قاعة طويلة بأعمدة عالية وردية اللون، تلتف حولها تنانين سوداء برؤوس تشبه صور أفلام الكوميكس أو الصور المتحركة الخاصة بالأطفال. أرضية القاعة مبلطة بمربعات بيضاء وسوداء من الجليز من النوع الكولونيالي الفرنسي، ذكّرني بأرضية مبنى البوسطة المهيب في سايغون. على طول الأروقة يجلس المتعبدون من المريدين في صلاة الظهر التي حضرناها، ثلاثة صفوف طويلة وجميعهم يرتدون قمصاناً طويلة بيضاء وبنطلونات بيضاء أيضاً، وفي المقدمة تجلس مجموعة القساوسة بعباءاتهم الحمراء (الكونفوشيوسيون) والصفراء (البوذيون) والزرقاء (المسيحيون). فوضى وتلفيق هناك خليط وتجاور لعناصر كثيرة، كثرة مبالغاً فيها على مستوى الأشكال والأنماط، متعاضداً مع كثرة وتنوع الألوان الشبيهة بـ«الباستيل»، يجعل ذلك الخليط العين تندهش للوهلة الأولى، وقد تستعذب للحظة عابرة هذا المنظر الفريد من نوعه، لكنها سرعان ما تمله، وسرعان ما ينسحب الإعجاب الأولي السريع ليفضي إلى شيء من عدم الارتياح، بل ومن النفور أيضاً. كأن الأشكال والألوان تخاطب وعيك وذوقك في ضجة تجاور فوضوي مفتعل ومزعج، كأنها تقول لك: هناك تلفيق غير سعيد، هناك شيء لا ترتاح إليه النفس في كل هذا البهرج الفوضوي. إحساس أولي سيتحول لدي فيما بعد إلى تساؤلات غير بريئة حول سر هذا التجاور أو التعايش الذي يجمع بين المعتقدات الثلاثة. حضرنا صلاة الظهر في هذا الكنيس الغريب. رأينا توافد المريدين وجميعهم يرتدون قمصاناً طويلة بيضاء، بينما القساوسة يرتدون عباءات صفراء وحمراء وزرقاء. يجلس المتعبدون صفوفاً طويلة متوازية على الأرض. يبدأ طقس الصلاة بعزف على آلات وترية شبيهة بالبانجو تؤديه مجموعة من الفتيان الجالسين في موقع علوي مثل شرفة، أو «ميزّانين» تشرف على قاعة الصلاة، ووراءهم تقف مجموعة كورال فتيات. من فوق تلك الشرفة التي تشرف على قاعة الصلاة من الطابق العلوي، يحق للزائرين متابعة القدّاس. لقطة فوقية تشبه الصور الملتقطة للأرض من الفضاء: المنظر سيمنح نفسه للعين من هذا الموقع في هيئة أشكال هندسية بتلك الصفوف المنتظمة في شكل مستطيلات متصلة متناظرة شبيهة في صرامة هندستها ورتابة خطوطها المستقيمة بصورة فضائية لإحدى الأحياء السكنية الفاخرة من ضواحي مدينة دالاس. منظر تنقبض له النفس – على الرغم من زخم الألوان وحرارتها – وتجعل الناظر إليها يشعر بشيء من ضيق في الصدر من جراء تلك الصرامة الهندسية المنضبطة انضباطاً بدا لي مفتعلاً، أو لنقل قليل التلقائية. خليط ديني!فرقة كاوداي، أو ديانة كاوداي التي ترى نفسها كخلاصة لجميع الأديان، لها من بين قدواتها الروحية والفكرية شخصيات ليست بالضرورة ذات علاقة وطيدة بالدين، مثل الدكتور صان يات صن، مؤسس أول جمهورية صينية سنة 1911، والشاعر الفيلسوف الفييتنامي بينه كيام، والشاعر الفرنسي فيكتور هوغو الذي يحمل اسماً ثانياً -كما هو متداول في العالم الآسيوي- وهو «شوونغ داو نغويات تام شان نيان» ومعناه الحرفي: «الإيمان الحق يجعل الإنسان صادقاً»، هناك أيضاً لويس باستور وإسحاق نيوتن وجان دارك وويليم شكسبير، وحتى شخصيات سياسية مثل ونستن تشرشل. غير أن الشخصيات التي تعتبر القدوات الروحية البارزة، والتي تحظى بتقدير خاص هم فيكتور هوغو وصن يات صن والشاعر بينه كيام الذين تجسدهم لوحة زيتية على مدخل المعبد، يظهر فيها ثلاثتهم أمام لوح أبيض تنبعث منه أشعة بيضاء ساطعة. نرى فيكتور هوغو على يسار اللوح وهو يخط باللغة الفرنسية عبارات: (Dieu et Humanité. Amour et justice) أو ما معناه: الله والإنسانية. الحب والعدالة، وعلى اليمين يرسم الشاعر الفييتنامي بالحروف الصينية عبارات قد تكون المرادف لما كان يخطه هوغو، بينما صن يات صن يقف مباشرة وراء هوغو، ممسكاً دَواة الحبر يقدمها بحركة التلميذ أو المريد للمعلم هوغو كي يغمس فيها ريشته. رؤوس الرجال الثلاثة وكذلك المحبرة تحيط بها هالة من نور أصفر. غير أن صن يات صن يبدو أكثر تواضعاً، أو أقل رتبة من الشاعرين، سواء في هيئته والموقع الخلفي الذي يحتله في المشهد، أو في نوعية اللباس البسيط جداً الذي يرتديه مقارنة بالحلّتين الملكيّتين الفاخرتين للشاعرين. الشاعر الفيلسوف إذاً هو صاحب المُلك الحقيقي، هو الذي يخط ألواح القيم الفلسفية الأخلاقية للمجتمع الإنساني، بينما يقف الزعيم السياسي في مرتبة التابع والمنفذ. اللوحة برنامج ورؤية فلسفية إذاً. بيانٌ ولوْح قيم في حد ذاته. أعجبني هذا الأمر، لكنه لم يفلح في إزاحة بعض التساؤلات القلقة التي أثارها في ذهني هذا المعبد وظلت تثيرها هذه الفرقة من بعد، وأن أقرأ مزيداً من التفاصيل عن نشأتها ومؤسسيها ورسالتها وظروف نشأتها، وكذلك نظام هيكلتها الذي يذكّر كثيراً بنظام الغرف الماسونية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©