الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أناقة الظل

أناقة الظل
20 نوفمبر 2014 00:00
(1) للمكان ذاكرته المسدّدة والأصيلة، وله انتباهه تشبه النهوض من غفلة طارئة، وسبات منقوص، في هذه الأمكنة أيضا لا يقيم الظل ولا يتجمّد، فهو يزحف على الحوائط والعتبات، ويتقافز على رمل الأزقة مثل وهج معتم، يتسلّى بحركته الخفيفة، ويكنس الشمس بحيلة ناعمة. يتنفس الظل في منتصف الوقت، ومنتصف الحياة، فهو المتوازن والمتّزن، وهو الذي يقود الشخوص لابتكار نعيم متجدّد فيهم، يتحرك الظل ويقود معه قافلة من الغنج، فهو الماهر في تحزين الفائض من السحر والرشاقة والرقص، يعبر الظل ويترك أثراً لا يمحى، ربما في ذاكرة الطيف، وفي المسرّات العطرة لدراويش وساحرات. ( 2 )يذوب الظل في العمق المصمت للمكان، وفي الجوامد النابضة بمصيرها، يجذب الظل بإغوائه الصريح كل إمكانات الحركة في الغدوّ والرواح، وهو يهندس ميل الجسد، ويستقطب بمكره البريء تلك الجسوم الذاهبة في اندفاعات الحياة، وفي مشاغلها الملحّة، وهو رفيق الحيطان العالية ونديمها، يتغذّى من قامتها وامتدادها، وعلى هوى الضوء السماوي: يحبو وينفلت وينسلّ ويتسامق ويقيم ويتجلّى. يستريح العابر في هدأة الظل، ويحتسي الغريب المرهق من برودته الطازجة، يتدفق الصبح وينثني ويتمايل، ويحرس الظلّ بنضال مكرّر كل الشغب المتواتر للنور وحرقته، وللهجير بوثبته المقلقة على العين والحواسّ، وعلى كل مكشوف في عراء النظر. وكما يرتوي التائه من العلامة، يرتوي المكان الواسع أيضا من كرم الظل، ومن دلالته المفضية إلى تآلف وتوافد واجتماع يلتّم على الطمأنينة، حيث النشيد السارح للصمت .. يحيك التأملات، وينسج خارطة كاملة للروح. ( 3)يستعير الحالمون ربيع حياتهم من هبات الظل، ويستمدون الطيبة من ذخيرة الدفق الناعم لحركته فيهم، وحركتهم فيه، إنها البساطة التي تسافر في الأشياء، دون تكلّف وعنت، وهي الاستراحة الممتلئة بجلال التفكّر، والإصغاء المرهف لحوار الماء والشجر. وهكذا ينكشف الظل على ذاته، ويغوي البيوت والحواري والردهات وأقواس المعبد، وما يترقّق من خشب عتيق في نزل الأسرار، وكأنه يؤبّد الأثر المتبقي منه، ويغرس رايته في خضّم الوقت، وكأنه الممعن والمنهمك أيضا في حرث الذاكرات الخصبة على الدوام. ينكشف الظل على الوجوه، فتنبع طاقة جذلى وريّانة من الشجن والبوح والمشاكاة الرائقة. ينكشف الظل مثل هواء قديم في فردوس الطفولة والمنامات، فيخضع الحالمون لجماليات الطهر والافتتان المبثوثة فيه ... (4)لا أحد.. لا جدار.. ولا هواء لم أميزه، ربما ظله أكبر من فهم الجدران، ومن فهمي الضال والمبهم، ربما لونه لا يشبه شيئا، شبح بخفة سوداء، يحمل مكوثه معه، ورحلته الضارية كأنها انتهت للتوّ، يستريح ولا يتكئ، فهذا الذي خلفه ليس بجدار، نتف من أوراق ممزقة ربما، وربما لا شيء ولا أحد، ربما لم أكن أنا أيضا هناك، ولم تكن عيني مصوبة سوى في النوم، لكنه استراح، في اليوم الأخير من حياته، منهك ومبتور.... فمن أين أتى؟ ربما من اللامكان ومن اللادعة، ربما من نثر الظهيرة، ولكن سواده خفيف، وكأنه خارج للتو من هواء الظلمة ، ومن مساء مخدّر، والقط الصغير الأسود قرب الحائط، كأنه خارج للتو من رواية (أدغار آلان بو) مسكونا برعب المكان ومتاهته، هذا المكان الذي لا يشبه شيئا، ولا لون له، ثم إن الجدار ليس هو الجدار تماما، ربما ضلالة النظر، وخديعة الحدس، ربما الوهم الكثيف، والخوارق المفرطة. أتبعه وهو ساكن، يتحرك بما تسمح به تهويمات العين، عيني أنا الكليلة والمغبّرة، راكز وساكن، رغم أن الجدار لا يسنده، ولا رؤيتي قادرة على تعيينه، هائم وقطته وكأنهما في الهواء الميت، وكأن لا نسمة تفضح الحركة، لا نأمة تخدش السمع، ولا صوت يوقظ الموهوم مثلي .. شبح يشرب ظله، بارد كأنه تمثال يرتجف، أطارده من بعيد بعيني المتعبتين، والجدار خلفه متيّقظ لسقوط محتمل. ولكن لماذا أسميه جدارا وهو شبهة لا غير، كان (جدارا يريد أن ينقض فأقامه) كان ذريعة للمكوث لا أكثر، هو وحده ربما، لكن القط شاغله في الجيرة، وهو ساه وغافل، وبلا نية في التلفّت، هو وحده ربما، لكن الجدار خلفه يشاغله عن الهواء الشفيف الذي يمس ظهره، ويغوص به ومعه في مشاع الظل وطراوته. ربما هو نفسه الظل كثيفا وسميكا، ربما قشور الظل هي جسده الغريب والأخرس. ربما أنا أيضا بعيد، ولا طاقة لي على الكشف والتأويل، لا طاقة لي على تبيان الحيلة التي يمارسها الجسد السيّال والذائب والمنهمر، الجسد البلا وجه، والبلا ميل، لأن الميل كاسر الاستقامة والتحجّر، والتماثيل المائلة نزّاعة دوما للتهشم، ولكن من أراه يحمل حطامه معه، حطامه الذي يتساقط في الجسد، ويدع الروح مزقا وغبارا في براح السأم ولعنته. هكذا حسبته، قادما من عراء، ومرتديا خسارات، جليلا وغائما، وكأن المسافات التي قطعها من هبة النور التالف، والالتماعات الطارئة، هكذا وحده متكئ على الخيبة، ملموم في جسد لا يشبهه، وإن كان شبحا لرجل ما، فإن هذا الرجل ليس ملزما بالحضور، فهو حليف الغياب ورهينه، ربما كنت أنا هذا الرجل، مطروحا ومرميا في حاضر الأشياء وفي بهتانها، بعيدا كذلك عن هجمة الظلال الشائكة، والجدار الذي من هباء! ربما كان الجدار خفيضا وتعلّى، ربما كان عاليا وانحنى، ربما لم تكن هناك صورة ولم يرسمها أحد، ربما أنا وحدي من أطلق الظل والوحشة والبيات المرّ، وكأن الظل بخفته صنيعي الفاشل، وأمثولتي الدائخة، ربما لا أحد، ولا هواء. ولكن الجدار كان هناك، وكان مغروسا في تراب قديم، وكائنات مرت عليه، وخربشات مراهقين، الجدار كان هناك، ربما قبل أن أولد، وقبل أن تكون يقظة ونوم. ربما بعد مجيء الشبح الضال، أصبح للجدار قصة، وأصبح بيتا للشبهات والتفاسير، ربما الآن لم يعد جدارا، وإنما خفة عابرة لأحافير ظلٍّ، وحيرة عصافير عمياء. هكذا توهمته، وهكذا رأيت الصورة كاملة وتحجّرت! كأني أنا الجدار، مهدم وخرب ومجوّف، وما أنا إلا تقاطيع الذكرى، والتجاعيد الغائرة للوهن. هكذا إذن أصبح الرجل شبيهي الآخر، وأصبحت أنا ظله، وأصبح القط الرفقة المكملة لعزلتنا. لا أحد ولا طريق، ولا مدينة، فقط الجدار كان يغري من لا طاقة له على التشاغل ومن لا يحمل روحا ملطخة. لا منزل، ولا مأوى ولا أسوار، فقط الجدار بميلانه الغريب، كان يسند الرجل، وكان الرجل بلا نية، ولا جسارة، سارحا في برية الوقت، ومرتديا التعب، ثقيلا ومتكئا على نفسه.. وأما الجدار وأما القط وأما أنا فلم نكن سوى خطأ أو إضافة، لم نكن سوى هامش منسي في قاموس الليل، ربما كنا حفارين جهلة في متاه ضحل. ربما الظل وحده ... نحّات الألم!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©