السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ليل الحديقة

ليل الحديقة
9 نوفمبر 2011 22:33
1 عند التاسعة تُغلق الأقسام التي يرقد فيها المرضى أبوابها أمام الزوار، على المريض النوم، لقد انتهى يومه هنا، ومن المفروض أن يكون الجميع في أسرَّتهم الآن، تتأكد الممرضات من ذلك، وقلة من المرضى الأرقين الذين تراهم خارجين من الغرف بعد هذه الساعة، ثم إلى أين سيذهبون؟ ولدى بعض المرضى مرافقون، المرافق قد يقدم بعض المساعدة للمريض، لكن دوره الأساسي يكمن في الكلام، في تبادل الكلام والسوالف والحكايات، هكذا يمكن القضاء على حركة الوقت البطيئة، وتجاوز الكآبة والقلق والضجر، وهي من الأحاسيس الفاعلة عند الإقامة في غرفة مستشفى. غرفة المستشفى ليست غرفة فندقية، وإن كانت تشبهها من نواحٍ، إنها أقرب إلى غرفة في سجن، فغير الأنابيب التي تقوم بتقييدك إلى السرير، فإنك مراقب، ومن المفروض أن تدخل إلى الغرفة أو تخرج منها بإذن، هذا ناهيك عن ملابس المرضى المشتركة، و”الاستكر” الموضوع حول يدك، وفيه اسمك ورقمك كمريض. حارساتك الممرضات تشمُّ منهن رائحة الرهبنة، لكن ذلك ليس كل شيء، لقد سبق أن تعاملوا مع أمثالك من قبل آلاف المرّات، يا كيس الدم أنتْ. 2 في الحديقة، الطيور نائمة الآن في أسرتها الوتيرة، هل تحلم الطيور؟ ولكن الحديقة بالتأكيد مصابة بمثل هذه القدرة، فالظلام هو حلم الحديقة، تتسع الحديقة في الظلام، تتنفس بحرية، تمشي أغصانها في الليل، تسبحُ في الفضاء، كل غصن من أغصانها يتحول إلى مسرى نابض بالماء والحياة، الجذور، جذور الشجرة تشارك كذلك في هذه الحفلة الحلمية العذبة. كل جذر مسرى يسبح في ليل الأرض، في الاتساع تمشي الأشجار، تتحرك حياتها السرية، تقع دائرتها الروحية. مَنْ يعيش في حلم شجرة؟ أي كون يفتح رأسه لكل تلك الارتعاشات والالتواءات والتبرعم وخرائط العروق؟ مَنْ يقدر، مَنْ بمستطاعه التشجر، تلقي التشجر. ممارسته في المرآة، على السرير، الدماغ متشجر، القلب كذلك، الصدف، الضرورات، الأحلام، الأفكار، الهواجس، البصمات، خريطة الكف والقدم، جغرافية العيون. 3 كأنني لم أكمل مشاهدة الفيلم المعروض في التلفزيون، كأنني نمت.. ساعة أو ساعتين، واستيقظت، الممرضة مرّت على جاري في الغرفة وأعطته دواء الليل، ثم مرّت عليَّ للتأكد من الأنابيب، ثم لا أعرف ماذا قالت، فلقد استيقظت على همهمتها وتوليها الأدبار خارجة من الغرفة. حاولت النوم من جديد لم أستطع، فتحت الضوء وحاولت القراءة، التعب دعك السطور وتحولت الحروف إلى مشهد بعيد تسبح فيه الخراتيت السوداء بالنهر، فلأقلب قنوات التلفزيون، أقرأ شرائط الأخبار وترجمات البرامج والمسلسلات والأفلام الأجنبية، إذ عليّ عدم رفع الصوت كي يرتاح جاري الهرم، وينام قليلاً إذا أن أوجاعه هو الآخر لا تجعله قادراً على النوم بشكل طبيعي. لاشيء يغري بالمتابعة، أقوم وألبس رداء على رداء المستشفى، وأخفي الأنابيب التي لابد أن تلازمني، وأخرج من الغرفة، حارستي لا أعرف إلى أين اختفت، أما بقية الممرضات فمنهمكات في تلقي آخر التقارير الطبيعية، وبالطبع تشبه هذه التقارير في كثير من الأحيان سوليتير أو صفحة الفيسبوك، أو أي موقع إلكتروني آخر. اتبع طريقي بين الممرات، وأضغطُ على الزر الذي يفتح باب القسم الخارجي، الحارس الأمني مشغول في الثرثرة عبر الموبايل، لا التفت إليه وأقصد المصعد. أنزل، الصالة السفلى مقفزة، ولا أثر لازدحام السيارات في الخارج، هنالك فحسب سيارة أو سيارتان جاءتا لصرف الأدوية من الصيدلية الوحيدة التي بقيت مفتوحة في هذا المستشفى. 4 ليل الحديقة، هدوء ليل الحديقة، وحدة كراسيه، صدى ضحكات الأطفال تترنح بين الألعاب المتناثرة هنا وهناك تحت الأشجار، الأشجار الحالمة، اتساع أحلام الأشجار حتى امتلأت السماء بالأفكار الخضراء الغامضة، وتداعيات الأغصان على الأغصان. ليل الحديقة، استراحة الحديقة في الليل، نوم الليل في الحديقة على العشب الرطب، على المقاعد الطويلة، تدلي أكتاف الليل من الممرات، الشجرة الصغيرة التي غدت حرشاً، الممر بين الشجرتين الكبيرتين الذي غدا نهراً أسود جافاً، تحرك الخوف بين أغصان المشاعر العالية في الداخل. ليل الحديقة، ليل الوحشة، ليل الجريمة التي تحدث في الزاوية، ليل البحث عن المفقود، عن الشرير المختبئ، اللائذ بالجذوع القديمة، الهارب من ضوء البراءة، ليل الحديقة الساكن، حيث تعبث الحركة بأوكار القلق، ليل الحديقة المتراكم والذي يكوِّم ظلامه عند باب العين. الحديقة أرحب في الليل، أكثر عمقاً، وتسمع من مكانك القريب من الطين الخافق، النبض في الجذور، تنفس الجذور، عيون الجذور، تحت قدميك، تسمع النبض في الجذوع، في الأغصان، في الأوراق، في بطن الحمامة النائمة في العش، في عين العصفور المغمضة. ليل الحديقة المملوء بقوارب الظلال، بحيرة العشب الداكنة والجافة، السماء التي طوتها الأوراق وخبأتها في أدراج الظلام، الهواء المملوء بالحواف، تحركه الحواف ويتحرك مع الحواف، الهواء النازل من سلم الاخضرار الزلق، الهواء الصاعد مع زفير العتمة، الممزق وكأنه قميص لبسته الليونة، المتلائم مع الأنفاس وكأنه موسيقى خافتة يصدرها نبض كل شيء. تزحف العتمة على العشب اللدن كأفعى سماوية، تتحرك في العين أوراق خضراء سرية وكأنها تمشي على نهر، في القوس الذي شدَّته الشجرة يبدو سهم العين طازجاً وسيّالاً ومرتعشاً وكأنه عروق قلب، وليس هنالك من دم واضح على أثر هذا الجرح الذي فتحته السكينة. المرارة من الأسماء الذائبة في معجم الطراوة هذا، القلق تلاشى من اختلاج الطمأنينة في ليل مثل هكذا حديقة. 5 أعود إلى السرير، أربطُ نفسي بالسرير، أربطُ جسدي، جاري سمحت له أوجاعه بأن يغط في النوم، ولذلك فهو يصدر شخيراً متهاوياً من الضفة الأخرى، في التلفزيون فيلماً يقنع فيه جاك نيكلسون، رفيقه، وهما على وشك الموت بمغادرة المستشفى والتجول في العالم أثناء شهورهما الأخيرة، أتابع الفيلم، إنه فيلم معز، ومناسب للجو العام. أنا أريد الهروب إلى النوم، ينتهي الفيلم، يبدأ فيلم آخر، شخير جاري يهدأ قليلاً، الساعة الآن الثانية، المستشفى نائم، النافذة نائمة، الطاولة إلى جوار سريري نائمة، السرير نائم، وأنا أحرس هذه المقبرة. ثم أختفي، وتختفي الساعة والتلفزيون والغرفة، أنام ساعتين لا أكثر، أقوم على صوت تنفسي، على صوت هدوء الغرفة، سكونها. على وقفة النافذة في الظلام قرب الفجر، جاري مستيقظ، أعرف ذلك من تقليبه لقنوات التلفزيون، الضجر يقلِّب قنوات التلفزيون، تقليب قنوات التلفزيون يبعثُ على الضجر. الساعة الرابعة تقترب، وديك بعيد في الذاكرة، يقف على الجدار ويُعلن انتصار النور على الظلام، ودخول الفجر إلى هذه الناحية، فيخرج الأهالي من تحت ألحفتهم وأذرعة زوجاتهم، من الأوكار التي كانوا يختبئون فيها، يخرجون لاستقبال جيش الفجر المنتصر، أنا أخرج أيضاً، لقد مللت من تقليب قنوات التلفزيون، من تقليب جسدي على السرير، أقوم وألبسُ رداءً على رداء المستشفى، وأخفي الأنابيب التي لابد أن تلازمني، وأخرج من الغرفة. حارستي ما زالت مختفية، بقية الممرضات منكبات على الكمبيوتر، والحارس الأمني يواصل ثرثرته في الموبايل، أتجه إلى المصعد وأنزل، الصالة السفلى تستيقظ والسيارات بدأت بالازدياد. أتجه إلى مقعدي المفضل في الحديقة، الأشجار أيضاً ترتعش وكأنها على وشك الاستيقاظ، السيارات في الطريق العام تتكاثر، إلى المدارس والوظائف ومواعيد الصباح يُسرع البشر.. هؤلاء الذين ناموا بعد عشاء دسم أو سهرة سعيدة، ناموا وتبخروا في النوم، وها هم يقومون لأمور حياتهم، أنا لم أنم طوال الليل الذي مرّ غير ساعتين، أحس بأجفاني ثقيلة، وجسدي يملؤه الإنهاك، هكذا كتمثال على مقعد الحديقة الخشبي أطالع بخشونة الحياة وهي تدب في هذا العالم، أو العالم وهو يستيقظ فيما تبقى من حياة. 6 تتمزق سماء الأشجار، كل شجرة تنفصل وتنأى عن الأخرى ويتمزق حبل ظلامها السري، ثمة ما يولد، ثمة ما يموت. الورقة كانت تنام على الورقة، الغصن على الغصن، كان الماء يحلم في الجذوع، كانت خريطة الجذور مضاءة بلهفة الأعماق، الإغماضة القصوى لمقلة الكينونة، السكون العظيم لطاقة الجيشان. في الليل يبحث الناس عن مراياهم الصغيرة كمن يبحث عن ينابيع في غابة، أما النهار فيسند مرآته العظمى على قارعة الطريق، كل شجرة تمشط أوراقها بمفردها، كل عين تعيش فيما تراه. تختلج أجنحة في الأعالي، زقزقة أولى، ترنيمة صلاة لإله الانفصال، ردود خافتة، تتمطى الأصوات، ريشة في الغفوة ترتعشُ على ماء الحلم، يد تخرج من عباءة الهدأة كي تعالج جديد الصلصال، خلق جديد لما خلق مراراً من قبل، تكرار خالد لموسيقى الظلال. شجرة تلو أخرى تقف في طابور الفرز العشبي، عصفور تلو أخرى ينضم لاجتماع الصباح، تأخرت الحمامة، غضب العندليب، ولم تبق في جعبة الغراب الهندي أية مبررات، العشب مفتوح للجميع، والصباح دعوة إلهية، ومن ثم يبدأ العمل المقدس: عصفوران يتعاركان على بقايا تفاحة، وحمامة تفتش أرض الحديقة عن حبوب الحياة، تمشي بزهو، بمنقار أسود واضح، وجناحين سماويين تعيش على ريشهما غيوم ملونة. تنضم عصافير أخرى لسمو السعي، تنضم حمامات أخرى، تتفتح في العشب مسامات العطاء، ذهب الفجر الرطب وقام الظل من عدمه، وعند الضوء صارت تتلألأ أعطيات الصدف. 7 أعود إلى غرفة المريض، السرير شاغر بانتظاري، والأنابيب، أقيد جسدي بالأنابيب، الساعة تجاوزت الرابعة، هل أغفو قليلاً؟ أضع أجفاني على عينيّ كي يهدأ احمرار السهر. بعد قليل ستأتي الممرضة تدفع عربتها كي تسحب الدم، هل غفوت فعلاً حتى هلعت من دبيب دخولها، ووقفتها الصارمة على حياة سريري. تسحب وتخرج، تسحبني أنا الآخر إغفاءة أخرى، حتى تعود الممرضة من جديد وهي تحملُ أدوية الصباح، بعد ذلك سيستيقظ المستشفى، سيأتي عمال النظافة، وعامل المطعم، والدكتور.. يوم آخر سيبدأ في هذا المكان المقلق، ولاشيء باق في الذاكرة من الأمس إلا تلك الاستيهامات التي تنفسها ليل الحديقة في الرأس الشاغر، أحلام اليقظة المتقطعة والواهنة، وهي تحاول في كل مرة الالتماع في موقد الروح المغطى بالرماد. وفي الحقيقة لايوجد حقيقي في هذا العالم إلا هذه الآلة السحرية والمدهشة والمسماة الجسد. فيها السماوات والأرض، الجلال والجمال، قارب الخيال الأزرق وصحن الرغبة الدبق. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©