السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اللغة إذا اتسعت..

اللغة إذا اتسعت..
20 نوفمبر 2014 03:01
في صيف 1993 أصدرت مجلة «الشمس» اليابانية (Taiy?) عدداً خاصاً يضم 100 كلمة اعتبرتها مفتاحاً لفهم اليابان، بكل ما تشتمل عليه تلك البلاد من طبيعة وما يخص شعبها من تاريخ وفكر وثقافة وآداب وعلوم وفنون ومواسم وعادات. كل كاتب مختص كتب مقالة قصيرة عن الكلمة التي اختارها، جاءت مقرونة بصورة مناسبة لموضوعها. ولا أتصور أن أي لغة أو أمة أخرى في العالم قادرة على تحديد مفتاح فهمها وثقافتها في مئة أو حتى في ألف كلمة. علي كنعانشارك في تحرير العدد 46 كاتباً من الخبراء والمختصين في مختلف فروع المعرفة. وكانت جميع الكلمات المختارة لها بعد تاريخي أو حضور اجتماعي واسع مثل: القمر، شجرة الكرز، حفلة الشاي، حرب الامتحانات.. وصولا إلى الشعر، المسرح، الطعام، الأزياء، الرياضة، الفروسية.. وحتى الكوارث من طبيعية أو كيمياوية كالزلازل وتسمم البيئة. وإذا لم يكن في إمكان مقالتي هذه أن تحيط إلا بالنزر اليسير من تلك الكلمات وما كتبوا عنها، فسوف أحاول أن أختار كلمة من كل فن أو علم أو موسم أو عادة عسى أن تكفي للدلالة وتفي بالغرض، مركزا على الملامح الطريفة في كل مقالة. بدأت المقالات بكلمة الأناقة (Iki)، وانتهت بمصارعة السومو (Sum?). كاتبة المقالة الأولى (سايكي جونكو)، المختصة بالثقافة المقارنة، ترى أن «الأناقة» تأخذ بعداً روحياً، إضافة إلى المسحة الجمالية في اللباس والمظهر الحسن، وفيها شيء من الجاذبية والمحبة، وليس لها نظير أو معادل في اللغات الغربية. أما مصارعة «السومو» فيتميز أبطالها بضخامة الأجسام. وكاتب المقالة (أراماتا هيروشي)، يشير إلى أن لهذه الرياضة الشعبية الممتعة علاقة بطقوس الشنتو، وأن منشأها يعود إلى العصر الأسطوري. الجذور عالم الآثار كوباياشي تاتسو يتحدث في مقالته عن جومُن (J?mon)، وهي المراحل القديمة التي امتدت ما يزيد عن 8000 سنة من تاريخ اليابان. يقول: كان اليابانيون الأوائل من بين الشعوب التي مرت بتطورات هامة خلال تلك القرون، رغم أنهم لم يمارسوا الزراعة ولا تدجين الحيوان. لكنهم أخذوا يصنعون الفخار، يصطادون بالقوس والسهام، ويقومون برحلات بحرية في قوارب من جذوع الشجر المجوفة. وكانت هذه التطورات الكبرى جزءا من ثقافة جومُن الجديدة، وهي مختلفة بشكل واضح عن ثقافة العصر الحجري القديم. لقد ارتقوا إلى ما يمكن أن يسمى «ثورة جومُن». وأنتجت هذه الثورة بتقنياتها المتطورة مؤونة مستقرة من الطعام أدت إلى إقامة مستوطنات دائمة. وتقدم أبناء جومُن في معالجة الطعام بطرق جديدة، فتمكنوا من إزالة السموم والمذاقات المرة، وازدادت ألوان طعامهم وتنوعت بشكل كبير. كما اشتمل صيدهم أنواعاً كثيرة من الحيوان والأسماك، لذلك لم يعرفوا المجاعة التي يعاني منها كثير من أبناء العصر الحديث. شعروزهرمقالة تنسيق الزهور (Ikebana) تبدأ بالشعر: «براعم الفاوانيا تتفتح بصمت، والأزهار مشغولة بتأكيد موقعها»، وتشير الكاتبة (شيراسو ماساكو) إلى أن هذه العبارة من مطلع قصيدة للشاعر كِنوشِتا ريجِن وهو على فراش المرض، مبينة أن القصيدة تؤكد على قيمة الحياة وتجعل القارئ يشعر بسعادة غامرة تقترن بنعمة الخلود في زهرة الفاوانيا (عود الصليب) وطيبها يضوع بين هذا العالم والعالم الآخر. وكانت الزهور تقدم في المعابد كوسيلة ابتهال، كما أن لها علاقة وثيقة بحفلات الشاي، الذي كان قبل نحو ألف سنة شرابا خاصا بالكهنة البوذيين وحدهم. لكن الكاتبة توضح أن الاهتمام بالأزهار وتنسيقها سبق حفلات الشاي بزمن بعيد، وإن كان هذان الاحتفالان كلاهما مرتبطين أساسا بالصوفية البوذية. ونمر بكلمات وفنون أخرى، ومنها: الوشم، الأزياء، علبة الطعام، اللباس الرسمي، هدية الخطوبة، الخط الفني، الرسم بأنواعه، الأسهم النارية.. حتى نصل إلى السوشي، عيد رأس السنة، طبق الأرز، وكذلك المسرح بأشكاله، إضافة إلى حكاية غِنجي، والشعر بأنواعه، وصولا إلى العمارة بين الداخل والخارج، والمذبح البوذي كجزء أساسي من هذا الداخل، وحصير التاتامي، وكذلك الجدار الزجاجي المطل على الحديقة.. ودلالات هذا الجدار. ونرى أن المهندسين الذين كتبوا عن فن العمارة يأسفون لأن انتشار الطراز الغربي في البناء أضاع كثيرا من جمالية المسكن الياباني وتقسيماته الداخلية. مواسموطقوس(ماتسودا أُسامو)، في مقالته عن الوشم، يرى أن هذا الفن قديم في اليابان، سواء كان لغرض جمالي أو لهدف آخر. والكاتب يعتبر جلد الإنسان أول قماش (Canvas) للوشم، وهو متعلق بالهدف من وراء استعماله، وخاصة أنه يتم مرة واحدة في العمر ولا يمكن إزالته. لذلك، فهو مرتبط بالتزام اجتماعي، ديني أو أخلاقي، وحتى طبقي، حسب الغرض الدافع إليه. ولحفلة الخطوبة (Yuin?) طقوسها التقليدية، رغم أن الجيل الصاعد يحاول أن يتخلى عن هذه الطقوس. كاتب المقالة (مياتا نوبورو) يعود إلى المدونات اليابانية القديمة المكتوبة بالرموز الصينية، مشيرا إلى أن هذه الطقوس امتدت من العصر الأسطوري حتى نهاية القرن السابع. وتقديم الطعام والشراب جزء أساسي من حفل الخطوبة حيث يلتقي أعضاء العائلتين، تأكيدا على أن الزواج مناسبة لاتحادهما. والطريف أن صورة الهدية تمثل «سلحفاة» لأنهم يتفاءلون بها، لأنها تعيش عشرة آلاف سنة، حسب الأسطورة. شبحالحربلا ورود لكلمة الحرب ومآسيها إلا بإشارات عابرة وبدلالات سلبية. ونادرا ما ترد هذه الكلمة في الصحافة اليابانية. ولنا هنا أن نتجاوز كلمات عديدة أوردتها المجلة مثل: الوجبة السريعة «رامين»، لعبة الكرات الصغيرة «باتشينكو»، القطارات المزدحمة، عودي الطعام «هاشي»، علبة البوليس، صوفية الزن، البوذية والشنتو ومعابدهما، لنقف أمام الخزف (T?ki) الذي يقول عنه الشاعر تاكاشي موتسو إن قيمته لدى اليابانيين أغلى من الجواهر. ويكتب (كوندو كيتارو) عن الشطرنج الياباني (Igo) وعلاقته بالقمار، أما الناقد (كوساموري شينئتشي) فيصف حفل الأسهم النارية (Hanabi) ويشبهها بأزهار الكرز وعمرها الآني العابر الذي يثير في النفس مسحة من الحسرة والأسى. ونمر سريعا بالإمبراطور (Tenn?)، وهو نظام قديم مقتبس من الصين. وفي مقالة أخرى نتأمل طراز الباروك المعماري في ?يلا كاتسورا الإمبراطورية، والعلَم «دائرة الشمس المشرقة» والمناقشات الطويلة حول ضرورة تغييره أو المحافظة عليه، وخاصة أنه يرتبط بذكرى الحرب. أما الدستور الياباني- دستور ماك آرثر- كما يقول منتقدوه، فإن كاتب هذه المقالة المؤرخ (إروكاوا دايكتشي) يركز على المادة التاسعة التي لا تسمح لقوات الدفاع- الذاتي بالمشاركة حتى ضمن قوات الأمم المتحدة خارج اليابان. وقد نشرت المجلة على الصفحة المقابلة للموضوع صورة الجنرال الأميركي في وقفة استراحة ويداه في جيبي بنطاله، وإلى يساره الإمبراطور وقد أسدل يديه بوقار. الطبيعةــالأم تواصل المجلة مقالاتها عن جبل فوجي، الحديقة التقليدية، الينابيع الحارة، الحوت، حقل الأرز، القمر واقترانه بالخريف واحتفاء الشعر به، طائر الكركي والتفاؤل بتماثيله الورقية، الصنوبر، الماء، الغابة، البحر.. وكل ما تمنحه الطبيعة/ الأم لأبنائها منذ الجدة الأولى «أماتيراسو» ذات الإشراق السماوي. وإلى جانب ذلك، ترد الزلازل وآثارها المدمرة، وتفسرها الأسطورة بأنها صراع بين آلهة، أما العلم فيشير إلى الطبقات السلبية والإيجابية في بنية الأرض، ولا ينسى المنجمون أن يربطوها بموقع الكواكب. وتأخذ كارثة (Minamata) مكانها المؤثر بين المقالات، ومعها صورتان بدلا من صورة واحدة. ويقول (كاماتا توجي)، الكاتب المختص بالشنتو إن نواة هذه الديانة مرتبطة بالطبيعة وتقديس الأسلاف، وهي من أصل أجنبي. ويعود ظهورها إلى القرن الرابع الميلادي، وبعض المفكرين يرى أنها منظومة شعائر دينية ترتكز على الفلسفة الصينية ولها علاقة بالفلسفة الطاوية وتأثيراتها. وأول ما وردت الكلمة في «كتاب التحولات» واصفة «المبادئ المقدسة للسماء». الأبجديةأخذ اليابانيون أبجديتهم عن الصين، وهي ذات أشكال ورموز كثيرة. ويكتب أستاذ اللغة اليابانية (أونو سوسامو) عن الأبجدية المبسطة ذات الحروف المتصلة، والمعروفة باسم (Hiragana)، مبينا أن الكهنة جلبوا لفائف للتعليم في الأديرة والمدارس، وكانت تلك النصوص محصورة بين الكهنة ورجال الحكومة. ونظرا لصعوبة تلك الأشكال، بدأت محاولات لتبسيطها وحصرها في عدد محدود من الحروف، فكانت «الهيراغانا» التي راجت في الأوساط الشعبية وخاصة بين النساء، لأن استعمال الأشكال أو الرموز الصينية كانت حكرا على الكهنة البوذيين ورجال البلاط. أما رسائل العشاق والناس العاديين فصارت تكتب بالحروف المتصلة. ويذكر الكاتب أن موراساكي شيكِبو، مؤلفة «حكاية غِنجي» تلقت تحذيرا بأنها ستواجه مصاعب قاسية إذا قرأت النصوص المخطوطة بالصينية الكلاسيكية، لأن الأبجدية المبسطة تكفي للمرأة النبيلة. وهكذا كانت المرأة رائدة باعتماد الأبجدية الجديدة وانتشارها بعد ذلك. المسرحهناك أشكال عديدة للمسرح، منها الحديث ومنها التقليدي العريق مثل الكابوكي والعرائس والحكاية الهزلية، ومنها ما يسمى بالرقص الأسود (Butoh)، وقد اخترت مسرح النو (Noh) لأنه أقدم المسارح ويشكل القناع فيه سمة أساسية، وعلى كل مشاهد أن يفهم من العرض ما يتفق مع مستوى وعيه وحالته النفسية. ويبدأ كاتب المقالة (هاتا كوهِل) بهذه العبارة الطريفة: «أوه، يا للنو.. إن المتفرج يستسلم لغفوة رائعة، حالة جميلة أشبه ما تكون بالحلم. إنه وقت مفعم بالبهجة الغامرة، سواء كنت مستيقظا أو نائما. إن متعة مسرح النو أنه مكان لطيف للنوم، ولكنك لا تحب أن تشخر ولا أن تكون مكرها على سماع الشخير!». لكن هاتا سرعان ما يلتفت إلى المزايا الفنية المشرقة في هذا المسرح العريق، قائلا إن جماله يمتاز بعناصر حسية وفكرية ومادية ملموسة تترابط، بشكل رائع، مع عناصر واقعية ورمزية. وإذا كان لدينا صورة مثالية لما ينبغي أن يكون عليه مسرح النو، فإن مشاهدة العرض الفعلي تسهم في تزويد هذه الصورة بإثارات رمزية. وإذا شعرنا بشيء من الملل وننتظر بلهفة قدوم النوم، فإن المثال يتحقق بصورة جمالية ونحن نشاهد العرض شبه نائمين، حيث نرى صورته المثالية في أحلامنا. يشعر الغريب الذي يعيش في اليابان أن هناك كلمات كثيرة تتردد في الحياة اليومية، لكنها لا ترقى بأهميتها إلى تلك الكلمات المختارة. ومن الملاحظ أن المجلة وكتابها تغاضوا عن ذكر الكارثة الذرية في هيروشيما وناغاساكي، لأنهم يركزون على المستقبل، أما الماضي وأهواله فقد ولى ويأملون ألا يعود. زوال سريع إن جمال أزهار الكرز (Sakura)، هذا الرمز الياباني الرائع، قد طغت شهرته في العالم حتى على جبل فوجي وفتيات الغيشا. ولهذه الأزهار أغنية، لحنها معروف بين معظم الفرق الموسيقية في العالم: «ساكورا، ساكورا/ أزهار الكرز، يا لأزهار الكرز/ على مدى ما ترى العين في سماء الربيع/ كأنها ضباب، كأنها غيوم/ تنشر عبيرها». وتشير الكاتبة المسرحية (تانكا سومي) إلى أن زهر الخوخ كان رمز اليابان في الماضي لأنه يتشبث بأمه بقوة، في حين أن «الساكورا» لا تدوم أكثر من أسبوع وهي ترمز إلى سرعة الزوال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©