الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكاية المليشيات والنساء المنتظرات

حكاية المليشيات والنساء المنتظرات
9 نوفمبر 2011 22:40
وصفت رواية “مريم ذاكرة وطن” بأنها تراجيديا تؤرخ بصدق مرحلة زمنية في لبنان وتكشف سياسات القهر والقمع المسلطة على المواطن العربي وأساليب من التعذيب رسموا بها بطولات وأمجادا فقدوها في ساحات المعارك مع مغتصب الأرض. ومؤلفها محمد حسين الأطرش خلع ثوب المحاماة لأنها برأيه لا تستعيد حقوقا في أوطان سلبها الطغاة الحق في المواطنة فيما يمكن لقلمه أن يخلق مساحة أكبر للدفاع عن أهله، ويقول: إنه مع نسائم الربيع العربي سيكتب للطيب صالح يخبره بأن موسم الهجرة إلى الجنوب قد بدأ. وقد وصفها مدير دار فضاءات للنشر والتوزيع جهاد أبو حشيش كجهة ناشرة بالتعاون مع الصالون الثقافي الأندلسي في مونتريال بكندا بأنها رواية المسكوت عنه في وطن حاول أن يوهمنا أن نستر لحمنا المغتصب بالصمت فكانت مريم ذاكرة الأمهات العربيات اللواتي علقن أبناءهن على مشاجب القهر ووقفن كسنديانة عتيقة يحرسن الانتظار وظللن يزرعن أبناءهن في الحدائق الخلفية للوطن لكي لا تنمحي ذاكرة الحلم وتغيب الرؤيا. والرواية 225 صفحة من القطع المتوسط مهداة وفق مؤلفها لأمهات ينتظرن عند أول الدرب.. تتساقط زهرات عمرهن ورقة تلو الأخرى عل الانتظار لم يمل بعد عطر دمعتهن. وتحكي الرواية وفق تقديم الأديبة الفلسطينية رجاء بكرية المقيمة في حيفا داخل الخط الأخضر عن عصر المليشيات في لبنان ولا تحتاج من وجهة نظرها لأكثر من جسر يلمع في العين خطفا كي يسحبك لمزرعة تبكي ورقا. كما تحكي من خلال مريم “الوطن” وهي الشخصية المحورية في الرواية وشاهد العيان على الأحداث وشخوصها ليس في قريتها فحسب بل في لبنان كله بفرحها وأوجاعها، كما يحتل خالد الذي يمثل صورة للأب المقاتل والأخ الثائر على أنظمة سجنت مناضلين خوفا وجلدتهم ليصمتوا ونسيت أن للوطن حدائق تستحق بعض ماء. وكفر المنسي وهي قرية المؤلف بالمناسبة اشتهرت بعنبها ودبسها وزبيبها.. يقول عنها أهلها بأنها قطعة من الجنة “خوابي كفر المنسي كلها بركة.. دبسا وتينا معقودا.. ألبانا وأجبانا”. وتدور الأحداث بمواسمها المتباينة في برج حجري خلقته الطبيعة وخلقت فيه عزيمة أهلها مساحات خضراء تعطيك الإحساس بعزيمة ساكنيها الذين يولدون أمام خيارين إما أن يستسلموا أو يحفروا أماكن في الصخر ويبنون فوقها.. قساة باردون من الخارج كصخرها ومليئون بالدفء كشمسها.. الشمس في كفر المنسي ألفت أهلها أكثر فازدادت قربا. كما أن شبابها اقتيدوا قسرا إلى تركيا للمشاركة في الحرب العالمية الأولى “قدرنا أن ننساق للحرب والموت من أجل غيرنا”، “نعيش أغرابا حتى في أوطاننا ينتقل اللص وضح النهار ويعتقل شبابنا بشبهة الانتماء ويصلون أملا بالانتصار”، “نحن الأمهات بعدكم بيجعلنا عجايز.. ورد الدار بيصير شوك حتى الفراش بيصير مليان مسامير.. يا ترى بيرجعولنا”. ونتيجة الحرب الثانية استبدل الجنود بجنود آخرين سحناتهم غير سحناتنا وكلامهم غير كلامنا “كنا ننتظر عساكر بكوفية يأتون من هناك فوق الخيل يتحدثون لغة الضاد لكن أهالي كفر المنسي أفاقوا على جنود يتكلمون الفرنسية ويأمرون وعلينا الطاعة لفرنسا”. ورغم الصدمة والغضب إلا أن “أبو مريم” يدق ناقوس الأمل وسط حالة اليأس والإحباط “كلهم مرقوا عنا وفي نيتهم يبقوا خالدين بس اكتشفوا بعد وقت أنها جنة لأولادها وجحيم لمغتصبيها.. بكرا أو بعدو بيرحلوا مثل غيرهم وبنبقى”. وتبرز رواية “مريم ذاكرة وطن” ظلم المحتل الفرنسي الجديد “للجحش حقوق عندهم أكثر منا” واعتقال “أبو محجوب” بتهمة عدم الرفق بالحيوان لأن حمولة الحمار برأيهم أكثر مما ينبغي.. كانوا يشاركونهم حصادهم يأكلون طعامهم.. يغتصبون الأرض.. يقطع الشجر لهم ومن ثم يعطون الحمار حقوقا”. وتفرد الرواية صفحات عن عادات الزواج وبخاصة ما يسمى بيوم جمع الحطب حيث يغادر الجميع عند الفجر للأحراش القريبة لجمع الحطب وينتظر أحد الفتية مدخل القرية قدومهم ليقيموا ما يعرف بـ”زفة الحطب” وهي مباراة بين أهل العريس وأهل العروس في تعداد مآثر كل منهم غناء “العتابا” فينقسم الرجال فريقين في مبارزة غنائية قد تتطور والموكب يسير حتى منزل العروس. وتتطرق الرواية للحرب الأهلية في لبنان وما تلاها من نزوح الناس من بيوتهم والهرب من المناطق المتناحرة باتجاه المناطق البعيدة لتكون “كفر المنسي” ملاذا للهاربين. وعندما اشتدت وطأة الحرب في بيروت وبدأت الأخبار تتحدث عن غزوات ومجازر وقتل على الهوية هنا وهناك وعائلات تتوافد بعيدا عن الرصاص الطائش لكنها في الوقت ذاته جمعت الخلان بعد طول غياب “ما تتركني شبعت من المر”. لذا كان صيف 1958 غير عادي وكفر المنسي تحت تأثير الحركة الناصرية كما المدن العربية الأخرى وتغني خطابات الراحل جمال عبدالناصر وكان كل عربي يشعر أن عبدالناصر يتكلم عنه وعن همومه.. كيف لا وصوت عبدالناصر كان في أكبر المدن يترك تعويذة سحر ليبدأ الحديث في مجالسهم عن حقوق الفلاحين ودورهم الرائد في محاربة الرأسمالية والأنظمة المتعاملة معها عوضا عن حديث المواسم. ووفق الرواية بات مشروع عبدالناصر حلمهم وحملوا بنادقهم بوجه من يرونه يعرقل تحقيق الحلم فالنقمة على أنظمة القمع تواجهها البندقية ووسط الحلم حلقت طائرات يبدو أنها طائرات صديقة في سماء “كفر المنسي” فاصطادت أهلها وقتلت أطفالهم وشيوخهم “لسنا صهاينة نحن لبنانيون.. نبقى لبنانيين”. الرواية تتحدث عن اجتياح الجيش الوطني لقريتهم وما صاحبه من اهانات وشتائم وتفتيش البيوت بحثا عن السلاح وتكسير خوابي الزيت والدبس والتين والبرغل “صورة أخرى لتدمير اقتصاد بدائي وإذلال أهله”، وحتى المرأة التي تعاني من مخاض الولادة منعوها “شو بدها تجيب غير واحد وسخ زي أهلو”. ولم ينس أهل كفر المنسي “الشالوحي” قائد القوة التي دمرت أحلامهم بجزمة وطنية عام 1958 وأدركوا أن الوطن لا يمكن أن يقوم إلا على أساس هوية جامعة لا استثناءات فيها وأن أي هوية ترسم فقط وجها لفريق دون غيره سيكون مصيرها الهلاك. ووفق الرواية فان أحداث 58 كسرت هوية وطن وقنابل الجنود أنهت أزمة مؤقتة لكنها خلفت وراءها أزمات تبحث عن لحظة انفجار فخالد مات برصاص الوطن الذي آمن به أبوه. وحكايا صيف 1958 الواقعية تجعل من “مريم” التي افترشت صفحات الرواية شظايا متناثرة تقطر دمعا ودما فقد فقدت أخاها “خالد حياتي وموتي”. أما نكسة 1967 فهي من وجهة نظر محمد الأطرش نسفا تدميريا لجيل الأحلام العروبية.. خلفت ما عرف بجيل الأحلام المخصية فرجال كفر المنسي كانوا يعتقدون أن عبدالناصر ورفاقه لا يهزمون لهذا كبرت الهزيمة في داخلهم الأمر الذي دفع عددا منهم لارتداء “الكوفية” كرمز للأنفة والرجولة ورفض الهزيمة والالتحاق بقواعد الفدائيين الفلسطينيين قرب بلدتهم. وتلقي “مريم ذاكرة وطن” ضوءا على مقتل قائد فدائي “الزغلول” مع بدايات التوتر بين رجال المقاومة وبعض المليشيات اللبنانية 1973 دون أن تحددها او تشير لمن قتله ومصلحته في تفجير الحرب الطائفية والحالة الهستيرية التي سادت، والأسباب الحقيقية لدخول الجيش السوري للبنان وصدامه الدامي مع المقاومة وتجويع المخيمات لدرجة أن سكانها طلبوا فتوى شرعية بأكل الكلاب والقطط وجثامين الشهداء وتعيد للأذهان شيفرات فدائية تجاوزتها مرحلة أوسلو “عروس تعني بندقية”. وتضيء الرواية بأسلوب سلس ومشوق حقولا جديدة وهي أن معسكرات رجال المقاومة الفلسطينية ليست فقط للخشونة والتدريب على السلاح بل هي مصانع للرجال “نستقبل هنا الرجال فقط”، وقد نسجت على مضمارها أروع وأنبل قصص الحب “خالد اللبناني الذي أصبح من شباب العمليات الخاصة ومدربته دلال الفلسطينية الجميلة” المهجرة من حيفا 1948 في شراكة نضالية وعاطفية. وتلفت لنماذج سلبية لأحد الأبوات “أبو حازم” الذي وصفته الرواية بأنه وأمثاله الذين اتخذوا القضية حسابا مصرفيا وأصبح يعاقب ويكافئ “لا صوت يعلو فوق صوت البندقية” ووفق “مريم ذاكرة وطن” فأبو حازم تاجر فدائيين وليس فدائيا، لكنها تتجاهل نماذج نضالية مشرقة كثيرة فحالة أبو حازم فردية مرفوضة وليست ظاهرة عامة في المقاومة الفلسطينية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©