الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرموز تغوي العقول

الرموز تغوي العقول
6 نوفمبر 2013 19:13
تظاهرة لونية ممتعة، تجمع بين مختلف المدارس والتيارات والمذاهب التشكيلية في الفن المعاصر، قدمتها دار “كريستيز للمزادات” في الموسم الخامس عشر للفنون العربية والفارسية والتركية في الشرق الأوسط، نهاية الشهر الماضي في دبي. ولعل الأمر اللافت في العرض، هذا العدد الكبير من اللوحات التشكيلية، والمنحوتات البرونزية، والمشغولات الفنية، التي تجعل المتلقي بحالة من الدهشة، وسط تلاطم الرؤى والأفكار والأساليب التعبيرية، بسبب التفاوت بين الأجيال التشكيلية، ما جعل لكل لوحة فتنة خاصة، تنطوي على جاذبية وأسرار مميزة وآسرة، تغوي العقل وتستدرجه إلى محاكاتها بشروطها الابداعية والجمالية، من دون إسقاط ذاتي على محمولات اللوحة الفكرية أو الفلسفية. لحظة البوح وربما تكون من أهم تداعيات اللعبة البصرية، في مراودة المعنى، الذي تختزنه اللوحة التشكيلية المعاصرة، هي لحظة البوح بمكنوناتها، أو على الأقل، هي لحظة الكشف عن ذاك الغموض المراوغ، الغموض المخاتل، الذي يحيل الوعي، إلى ما يمكن أن نسميه الفضول المعرفي الآني، بالمعنيين الفكري والسيكولوجي، أي التلصص على القيم الجمالية المكونة للوحة، والاستمتاع بها بالدرجة الأولى. وتأتي لاحقاً محاولة استنباط الدلالات الرمزية، التي تحيل المتلقي ببعدها الإبداعي الفني المرهف، إلى موضوعات ثقافية، قد يكون المتلقي على معرفة بها في السابق، ولكنه يكتشفها باللوحة برؤية جديدة ومختلفة كلياً، وغالبا ما تدسها ريشة الفنان، من خلال تمازج الألوان وتداخل الخطوط ولعبة الضوء والظلال، بإسقاطها دفعة واحدة على الواقع التشكيلي المحدود باللوحة، كمساحات تعبيرية، تعكس بشكل ما، مزاج الفنان الذاتي، أو نزعاته الإنسانية بكل إشراقاتها، أو تصدعاتها، على كل المستويات المعرفية، فكرياً وفلسفياً أو جمالياً وفنياً. وهي ما يسميها النقاد “اللحظة المعرفية”، التي تَتَخَلَّقُ في اللقاء الأول مع اللوحة، فتقطع مع ما قبلها، وتؤسس لما بعدها من وعي جديد، قادر على التفاعل بإيجابية مع معطيات الواقع بكل مفرداته الوجودية. النقد الأكاديمي ذلك لأن اللوحة الفنية بمفهوم النقد الأكاديمي تختلف عن اللوحة التشكيلية. فالأولى تتضمن نماذج أو صوراً، أو علاقات أو رموزاً قابلة للتفسير في حيز اجتماعي معين، أو من خلال إسقاط المتلقي معرفته الذاتية على اللوحة الفنية. أما اللوحة التشكيلية بالمعنى الإبداعي فتبدأ من إلغاء المعرفة السابقة للمتلقي، أي بمعنى استدراجه للتعامل مع اللوحة بتجرد كامل، والاستمتاع بالقيم الجمالية المكونة لها من ألوان وظلال وخطوط. ومن ثم تبدأ محاولة استنباط البعد الفكري أو الرمزي للفنان، على أن لا يعتبر المتلقي أن اللوحة (الحدث) استفزازاً له، وإنما هي مجرد محاولة فنية تختزل معاني ثقافية عديدة في مساحة صغيرة، قد يتوافق معها أو يختلف، فالأمر سيان. حسب تعبير الفنان السوداني الدكتور راشد دياب. ويرى دياب في حديث خاص لـ”الاتحاد الثقافي”، أن عملية فهم المتلقي للرسالة الفنية هي مسألة نسبية، ولكن هذا لا يلغي أو يغير من دور الفن أو الفنان التشكيلي، بالحفاظ على هُوية وتاريخ وقيمة الإنسان في مجتمعه. لأن رسالة الفن منذ أن اكتشف الإنسان الفنون، هي الربط بين الموروث الثقافي الحضاري، وبين المعاصرة والمستقبل. وحالما يغيب الإبداع الفني أو الفنان المبدع، يتحول المجتمع إلى الاستهلاك فقط. بمعنى أن المجتمع يصبح مستقبلا لكل شيء من خارجه، ما يؤدي إلى حالة من الاستلاب والتغريب وضياع الهُوية وتهديد وجوده، مقابل طغيان وهيمنة ثقافة الآخر. إثراء العقل إذن اللوحة التشكيلية تحكي إلى حد ما، قصة أو حكاية، ولكن ليس بالمعنى التأريخي للأشخاص والأشياء والوقائع أو الأحداث عموماً، وإنما بمعنى إثراء العقل والروح بالمفاهيم الجمالية، التي تجعل الواقع أكثر إنسانية وأقل قباحة، حسب تعبير الناقدة الأميركية ترايسي شاليفر. بهذا المعنى يمكن قراءة لوحة الأميرة فخر النساء زيد Break of the Atom and Vegetal Life، التي حققت رقماً قياسياً عالمياً غير مسبوق لفنانة شرق أوسطية، حيث وصل سعرها إلى أكثر من عشرة ملايين درهم (مليونين وسبعمائة وواحد وأربعين ألف دولار أميركي). ذلك لأن الفنانة استطاعت بحسها المرهف، أن تختزل جميع الأساليب التعبيرية المعروفة في الفنون التشكيلية، بدءاً من الزخرفة الإسلامية، تجريدية المنشأ، ببعديها الموزاييك الهندسي، كما كان في المغرب العربي، الذي ينسب فنياً إلى النزعة المحافظة، أو الأكثر انفتاحاً الذي عبرت عنه، المنمنمات الصوفية في حواضر المشرق الإسلامي، الشام وبغداد وفارس، وامتداداً إلى الهند عموماً، ووصولاً إلى الأساليب الغربية الحديثة، التي كانت سائدة في ستينيات القرن الماضي في أوروبا، وأشهرها التكعيبية. ما جعل الفنانة فخر النساء نسيجا وحدها في هذه اللوحة، خصوصاً أنها وصلت ببعدها الرمزي والدلالي، إلى مستوى التفكير الفني الفائق بحساسيته الجمالية، حيث حاولت أن تجسد الفرح من خلال اللوحة، وكأنه حالة مادية وراحت تنشطر ذراتها البهيجة بمتواليات طردية لانهائية، تعبيراً عن أقصى تداعيات الفرح الإنساني، بشكل يجمع بين الكليات والجزئيات، ويجسد التناغم والانسجام بدلا من التناقض أو التنافر، في عناصر الوجود أو الطبيعة المجسدة باحتفالية باذخة في اللوحة. ما جعلها متفردة في الأسلوب عن جيلها، وما يعني أيضاً أن الفرح المتفجر باللوحة يعكس من ضمن معانيه، إما طبيعة روح الفنانة المعجونة بالأفراح والمسرات، والرؤية البهيجة للواقع والوجود بمجمل تفاصيله، أو يعكس حالة التمرد الفذ على قباحات الواقع وأحزانه أو آلامه ومتاعبه، الذي يمكن تفسيره بإسقاط شخصي، بأنه تعبير عن تجاوز الفنانة لحالة نفسية قاسية، لا سيما أن ولادة اللوحة جاءت بعد أربع سنوات من الانقلاب الدموي على العهد الهاشمي في بغداد. الجمال المتوسطي أيضاً من اللوحات الهامة في المعرض، La Lutte de l’Existence للفنان اللبناني بول غيراغوسيان (1926 ـ 1993)، التي وصل سعرها إلى مليونين ومئتي ألف درهم (605 آلاف دولار أميركي). ويعتقد أن غيراغوسيان أنجز هذه اللوحة أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وتبرز جمالية الألوان المتوسطية والصور التعبيرية التي لازمت غيراغوسيان في رحلته الاستكشافية لمفاهيم الجمال، وسط مناخ فاض بقسوته، وعنفه على المنطقة، وبالأخص على روح الفنان بشكل مباشر، من خلال بتر قدميه أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. علاوة على كون سيرته الشخصية تراجيديا، لا بل من أكثر التراجيديات الإنسانية معاناة. فهو منذ مولده، كان ينتقل من تشرد إلى آخر، حيث وقع الأول وعمره ست سنوات، حينما فر من المذابح التي وقعت بين الأتراك والأرمن في مطالع الثلاثينيات الماضية، حيث انتقل مع أمه الناجية الوحيدة من الأسرة إلى سوريا، ومنها إلى لبنان، ومن ثم القدس. وبعد النكبة الفلسطينية عام ثمانية وأربعين عاد مع أمه إلى لبنان، ليعيش سنوات الحرب الأهلية بكامل فصولها، رافضاً مغادرة بيروت للمرة الأخيرة. لذلك بدت ملامح شخصيات اللوحة غائمة، تعبيراً عن غياب الفعل أو القدرة على التغيير، كون الواقع أكبر منها، ولكنها رغم ذلك تبقى منتصبة، وترفض الانحناء أو الاستسلام، تمسكاً بشرطها الإنساني، وثقة بحلمها المستقبلي، وحتمية التغيير بالمفهوم الفلسفي، لأن الحياة مستمرة على الرغم من كل الخراب. ومن هذه القناعة يأتي الإصرار على نشر مفاهيم الجمال من خلال لعبة التلوين التشكيلية. أقام غيراغوسيان بدءاً من أواخر الأربعينيات الماضية معارض فردية عدة، وكانت أبرز محطاته في ميونيخ وفلورانسا عام 1963، وفي ميلانو وباريس عام 1967 وهامبورغ عام 1967، وفي باريس 1970، وواشنطن ولوس أنجلوس 1980 وسواها من المعارض الفردية في عمان والرياض والكويت ودمشق والإمارات. قبة الكونجرس كذلك بيعَت منحوتة الفنان السعودي عبد الناصر غارم “قبة الكونجرس”، المنتمية إلى الفن المفاهيمي، والتي يبلغ ارتفاعها نحو ثلاثة أمتار (13 قدما) بحوالي مليوني درهم (545 ألف دولار أميركي). وجمع غارم في نحت سطح القبة الخارجي بين الأسلوب الغربي الحديث، وبين الزخرفة أو موزاييك الهندسة الإسلامية. في حين استخدم في نحت قلب القبة، أسلوب الموتيفات والمنمنمات الإسلامية، المتبع في تزيين المساجد. وتحكي الرمزيات الكامنة بالمنحوتة، سواء من خلال الشكل العام الذي يحاكي تمثال الحرية بارتفاعه، أو سطح القبة الخارجي الشبيه بمبنى الكابيتول في واشنطن، أو الزخرفة في قلب القبة، التي تشبه زخرفة المساجد، أو باللون النفطي الغالب على قلب القبة.. قصة الحرية في السعودية، وماهو شكلها؟ هل هي ديمقراطية حديثة؟ أم شورية إسلامية؟ وتشير أيضا إلى علاقة الولايات المتحدة مع المملكة، المحكومة بعنوانها النفطي الطاغي على ما عداه. اللوحات الشبابية اللافت في مزاد “كريستيز” بموسمه الحالي نسبة المشاركات الشبابية العالية جداً، حيث تجاوزت سبعين بالمائة من اللوحات التشكيلية المعروضة. وتفاوتت التيمات التشكيلية في الموضوعات الشبابية، بمقدار تفاوت أساليبها التعبيرية ما بين التجريد والغرافيتي والانطباعية والزخرفة والمنمنمات والموتيفات الإسلامية. ولكن اللافت أكثر أن الكثير من التجارب الشبابية الفذة، جنحت إلى إدخال الخط العربي في صميم اللوحة التشكيلية، أحياناً بشكل مباشر، من خلال استخدام مقتطفات شعرية، أو أقوال ومواقف، شائعة في الوعي الإنساني بشكل عام، كونها صارت علامات ثقافية راسخة تميز الحضارة المعاصرة، ولكنها مفرغة من مضمونها العربي في المرحلة الراهنة. كما هي لوحة “الموضوع 25” للفنان الشاب المغربي مصطفى أكريم. التي تعتمد التكنيك ثلاثي الأبعاد في الفن الغرافيتي، وتقول “إن حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها”، مستخدماً الكونكريت الصلد، كتعبير رمزي يمثل المفارقة في الواقع العربي الراهن. ذلك لأن فكرة الحرية بوجهها التعددي، راسخة ومؤكدة على الورق في معظم الدساتير العربية، من دون تفعيل على أرض الواقع. وأحياناً أخرى يدخل الخط في صميم اللوحة بشكل غير مباشر، أي غير مفهوم، أو على شكل رموز، كما في لوحة، “حريم رقم 31” (HAREM NO 31) للفنانة المغربية ليلى السيدي، التي تستخدم المنمنمات والزخرفة الإسلامية في رسم فتاتين، تبدوان وكأنهما تنتميان إلى عوالم ألف ليلة وليلة الباذخة، إحداهما تجلس على مقعد أشبه بكرسي الزينة في مخادع النساء، والأخرى واقفة قبالتها وكأنها تعمل على تزيينها. إلا أن ملامحهما متشابهة إلى حد التطابق التام، مثلما تتطابق الرموز أو النقوش المبهمة، المتداخلة بكثافة، التي تغطي ما انكشف من أيديهما، للدلالة الرمزية على مايسميه الاستشراق الغربي، الغموض أو السحر الشرقي. أما الحكاية التي تقولها اللوحة برمزية مدهشة وجذابة، فهي رسالة احتجاج على الصورة النمطية للمرأة الشرقية، التي رسمها المستشرقون في الذهن الغربي، ومازالت عليها حتى الوقت الراهن. حسب تعبير هالة خياط خبيرة الفنون التشكيلية في دار “كريستيز”. الإقبال العربي وأجابت خياط على سؤال لـ”الاتحاد الثقافي” حول طبيعة رواد المعرض من المقتنين العرب، وكيفية إقبالهم على اللوحة التشكيلية، ونسبة مشاركتهم قياساً بالآخرين؟ فقالت: إن العربي يبدو للوهلة الأولى وكأنه مأخوذ أو مسحور بأفعل التفضيل، فيستهل معظم أسئلته بالاستفسار، عن أغلى لوحة وأجمل لوحة وأفضل لوحة. وفي الغالب لا يتوقف طويلاً عند قراءة جماليات اللوحة أسلوبيا أو رمزياً. ومع ذلك تلاحظ خياط أن أعداد العرب وإقبالهم على شراء اللوحات التشكيلية يتزايد بنسبة مطردة، موسما بعد آخر، وخصوصاً في الموسم الحالي إذ بلغت نسبة الزيادة أكثر من مائة بالمائة. وهذا الأمر يدل بمعنى من المعاني على رواج الثقافة التشكيلية في الأوساط العربية عموماً، حسب تعبيرها. الليلة الموعودة أيضاً من اللوحات الجميلة بأسلوبها التعبيري، ورمزيتها التجريدية، جدارية “الحلم 62” (DREAM 62 ) بارتفاع يقترب من مترين، وعرض يزيد على أربعة أمتار، للفنان السوري صفوان دحول. حيث يستخدم الأسود الغامق والقليل من الأبيض في رسم أربع نساء في فضاء أسود فاتح قليلاً، وكأنهن يتبعن بعضهن في مسيرة متباطئة، ومحنيات الرؤوس بالتفاتة جانبية تنم عن نظرة تنطوي على القليل من العتب أو الخجل والكثير من الأمل. أما حكاية اللوحة التي تكشف عنها الرمزية الكامنة بغلالات المخدع التي ترتديها النساء الأربع، وبالعيون المطموسة لدى الأولى والثانية، المفتوحة لدى الثالثة، لتعود مغلقة لدى الرابعة، فهي قصة الليلة الموعودة بحياة الأنثى الشرقية وبخاصة، مسيرة المرأة السورية، التي تدرجت من الإبهام وانغلاق الحلم شبه التام، إلى الانكشاف وولادة الأمل بالتدريج، ومن ثم لتعود إلى الانغلاق، للدلالة على فداحة الضريبة التي تدفعها المرأة السورية في الحرب التي تعصف ببلادها، وعلى العموم هي مسيرة يتعين على المرأة السورية أن تقطعها بعزيمة وثبات، كما يحكي الرمز الأبيض الذي تمسك بطرفه المرأة الرابعة مطموسة العينين باللوحة. رؤى مستقبلية لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى لوحة (FROM THE WINDOW SERIES) للفنان التشكيلي الإيراني عباس كيراستامي، التي يستخدم فيها تكنيك التشكيل بحساسية الكاميرا بالتصوير، انطلاقاً من خلفيته في الإخراج السينمائي، ليرسم مشهدا خارجياً، لجدار منزل من الحجر الأحمر القرميدي، بوسطه نافذة مشرعة، ولكن مدى الرؤية من النافذة لا يكشف داخل المنزل، وإنما خارجه، حيث تنفتح الرؤية على مشهد ربيعي أخاذ بجماله وصفائه، فتظهر بعض الأشجار المزهرة بإشراقة لافتة، كونها مجللة بالضياء والبهاء من كل الاتجاهات. إن رمزية الرؤية المركبة بحساسية الكاميرا، وتكنيك التشكيل الفني، التي بدت مقنعة إلى درجة تفوق الوصف، بأن المشهد خارجي، وأن النافذة المشرعة ليست مفتوحة على الخارج فقط، وإنما مفتوحة على مشهد ربيعي رائع. هي في الواقع تحكي قصة الإيمان المطلق، بثقافة الجمال، وقدرتها على تجاوز الراهن، السائد في الداخل الإيراني إلى ما بعده، وكأن ما يجري داخل إيران في الوقت الراهن، لم يكن قائماً في يوم من الأيام، ولم يترك أدنى أثر على المشهد المستقبلي المأمول أو المرتجى. منطاد الحرية أما جدارية “الحرية” (FREEDOM) للفنان الفلسطيني الشاب عبد الرحمن قطناي، التي يستخدم فيها، عوضاً عن الريشة والألوان، أدوات معدنية من مخلفات مخيم شاتيلا، ليرسم منطاداً، يتضمن العديد من الرموز المباشرة، مثل علب حليب وألعاب للأطفال وأقلام وغيرها، ويحيط بالمنطاد شريط شائك من كل الجهات، وبالأسفل هناك طفلان يمسكان بالشريط، وكأنهما يهزانه في محاولة لاقتلاعه أو تحطيمه. وتحكي الرموز المبثوثة بالجدارية، معاناة الفلسطينيين المخجلة في المخيمات، وتوقهم الإنساني النبيل للتفلت من هذا الأسر المهين لآدميتهم وآدميتنا جميعاً، من جهة. ومن جهة أخرى يذهب المنطاد كرمز إلى أبعد من قسوة الحياة أو هدر الكرامة الإنسانية في المخيم، ويتجاوز ليس المكان أو السجن المفروض على اللاجئين فقط، وإنما ليعبر الحدود والطيران باتجاه فلسطين، تذكيرا بالعملية الفدائية الخارقة التي نفذتها المقاومة الفلسطينية عام 1987، حينما عبرت إحدى مجموعاتها الفدائية الحدود اللبنانية بواسطة منطاد، إلى داخل الأرض المحتلة، واشتبكت مع قوات الكيان العبري بمواجهة لن تنساها الذاكرة الفلسطينية جيلاً بعد جيل. ضياع الأرض كذلك لوحة الفنانة الأردنية الفلسطينية صبا عناب، التي تلامس الحلم الفلسطيني، بتجريدية رمزية مرهفة، مستخدمة الموزاييك الهندسي بالأبيض والأسود، بشكل مباشر. ذلك أن المهندسة المعمارية عندما ضاقت بها الأرض، اتجهت إلى اللوحة التشكيلية، لتشييد عمارتها “الحلم”، ولكنها لم تغرس الأساسات في الأرض، وإنما أقامتها بالفضاء، وراحت ترفع مداميكها باتجاه الأسفل نحو الأرض، تعبيراً عن ضياع الأرض الفلسطينية. في حين يلعب الفنان خالد جرار لعبته التشكيلية على جذع شجرة زيتون، نصفه حقيقي، من شجرة اقتلعتها جرافة إسرائيلية، والنصف الآخر من الكونكريت، تم تفتتيه من أساسات الجدار العازل الذي أقامته سلطات الاحتلال الإسرائيلي، لتقطيع الأرض الفلسطينية، وعزلهم عن بعضهم البعض، وفي بعض الحالات لفصلهم عن أرزاقهم وممتلكاتهم من كروم الزيتون، تعبيرا عن مجاورة الموت والحياة أو البشاعة والجمال لحظة إثر لحظة. وتحكي الرموز التجريدية المباشرة بالمنحوتة، قصة خطر الاستيطان الصهيوني على الزيتون، الذي هو أصل الحياة بالموروث التاريخي الفلسطيني، قبل أي شيء آخر. قد تطول قصة البوح التي تحكيها احتفالية اللوحات في معرض “كريستيز” الحالي، وقد تختلف باختلاف أدواتها الرمزية، وقد تتعدد موضوعاتها الثقافية بالمعنى الإنساني البحت، إلا أنها جميعها تصر على البوح بمفاهيم الجمال من خلال الرمزية التشكيلية، التي يدسها الفنان بلعبة الألوان والخطوط والظلال، لتستدرج العقل إلى غوايتها بفضول آسر وجذاب، يغني الروح، ويفتح المخيلة على فضاءات معرفية جديدة أكثر سحراً وإمتاعاً وتشويقاً إلى المزيد من الفن والإبداع، الذي يجعل حياتنا ممكنة في واقع أكثر جمالاً وأقل قباحة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©