الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وصايا من القرن الرابع

وصايا من القرن الرابع
6 نوفمبر 2013 19:18
“روضة العقلاء ونزهة الفضلاء” قطعة أدبية وعلمية من التراث العربي، يستحق أن نتوقف عنده لما يمثله من نصائح وقواعد في الأخلاق العامة وآداب السلوك والاجتماع، سواء فيما يتعلق بالإنسان ذاته أو بعلاقاته مع الآخرين، فضلاً عن صلته بالله سبحانه وتعالى. يعود الكتاب إلى أحد أعلام المحققين والمحدثين في القرن الرابع الهجري، وهو أبو حاتم محمد ابن حِبّان البُستيّ، وهو كذلك من ابرز رموز الادب والثقافة الدينية في عصره. الكتاب طبع أول مرة قبل أكثر من قرن ونشرته مكتبة الخانجي عام 1328 هجرية، ثم طبع مرة ثانية بمطبعة السنة المحمدية عام 1368 هـ- 1949م، وفي عام 1955عهدت مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي إلى مصطفى السقا، أحد أبرز المحققين والمهتمين بالتراث العربي، بنشره وتصحيحه وإضافة بعض الهوامش والتعليقات على ما غمض من نصوصه والوقائع التي وردت فيه ولم يطبع من يومها إلا هذه الايام. لا تنظير لا يقدم الكتاب درساً في العلم النظري، ولا يتناول نظريات الأخلاق والسياسة ولا قصة العقل لدى المفكرين والفقهاء المسلمين، الكتاب لم يكن موجهاً إلى الخاصة، وإن ذهب مصطفى السقا في تقديمه إلى أنه يقصد “الأقوام الذين يدعون التمكن من العقل مثل الزنادقة والمبتدعة وأهل الأهواء الذين يريدون أن يتحرروا من سلطان الدين ويدعوا أن حسن العقل رضا”. فصول الكتاب تكشف عن أنه موجه إلى القارئ العادي أو من يطلق عليهم السقا “العامة والدهماء”. هو يتحدث في القواعد العامة التي يحسن بالفرد أن يتبعها والسلوك الذي ينبغي له أن يسلكه، من ذلك مثلاً أنه ينصح الإنسان، في لحظة ما بأن يعتزل الناس، ليس وفق مدرسة المعتزلة، ولكن الاعتزال الإنساني العادي يقول: “وأما السبب الذي يوجب الاعتزال عن العالم كافة، فهو ما عرفتهم به من وجود دفن الخير ونشر الشر، يدفنون الحسنة ويظهرون السيئة”. ثم يفصل ذلك بالقول: “فإن كان المرء عالماً بدّعوه وإن كان جاهلاً عيروه، وإن كان فوقهم حسدوه، وإن كان دونهم حقروه، وإن نطق قالوا: مهزار وإن سكت قالوا عييّ وإن قدر قالوا مُقترّ وإن سمح قالوا مبذرّ، فالنادم في العواقب المحطوط عن المراتب، من اغتر بقوم هذا نعتهم وغره ناس هذه صفتهم”. وفي مجال التبسم في وجه الآخر والبشاشة يقدم نصحاً، يجب أن يسمعه أولئك الذين يستعلون علي الآخرين متصورين أنهم أكثر طاعة لله وأنهم الأشد إيمانا من غيرهم، يقول: لا يجب على العاقل إذا رزق السلوك في ميدان طاعة من الطاعات إذا رأى من قصّر في سلوك قصده، أن يعبس عليه، بل يظهر البشر والبشاشة له، فلعله في سابق علم الله أن يرجع إلى صحة الأوبة إلى قصده، مع ما يجب عليه من الحمد والشكر له، على ما وفقه لخدمته. وينصح أبو حاتم الإنسان بلزوم المداراة مع الناس وترك المداهنة، يقول: الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة، من غير مقارفة المداهنة، إذ المداراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه. المداراة هي التغافل عن هفوات الناس وصغائرهم، أما المداهنة فهي تعني التملق والنفاق مع سوء القصد، أي تعمد إغفال الحقائق وقلبها بالأكاذيب طمعاً ورغبة في تحقيق منفعة والوصول إلى هدف آخر، وبتعبيرنا نحن هذه الأيام فارق بين المجاملة البريئة الودودة والنفاق والوصولية والانتهازية، وإذا كانت المجاملة مقبولة فإن النفاق كارثة أخلاقية وإنسانية. يقول أبو حاتم أيضا: من لم يدار الناس ملّوه، ويقول كذلك: إن عاقبة المداهنة “تصير إلى قُلّ” أي إلى الذل والهوان أو الصغار لمن يمارسها، فضلا عمن يتقبلها من الآخرين. وكما ينصح العامة ينصح الحكام أيضا في باب “الحث على سياسة الرياسة ورعاية الرعية”، يذهب طبقا إلى ما ورد عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأن كل راع مسؤول عن رعيته وأن على كل من كان راعياً لزوم التعاهد لرعيته وأكثر من يجب عليهم التعاهد لرعيتهم هم “الملوك”. يقول: “ربما كان هلاك عالم في فساد ملك واحد”. المُلك والأعوان ويوضح ما يقصده على النحو التالي: لا يدوم مُلك مَلك إلا بأعوان تطيعه ولا يطيعه الأعوان إلا بوزير ولا يتم ذلك إلا أن يكون الوزير ودوداً نصوحاً، ولا يوجد ذلك من الوزير إلا بالعفاف والرأي، ولا يتم قوام هؤلاء إلا بالمال ولا يوجد المال إلا بصلاح الرعية ولا تصلح الرعية إلا باقامة العدل، فكأن ثبات الملك لا يكون إلا بلزوم العدل وزواله لا يكون إلا بمفارقته. ويعتبر هذا الباب أطول أبواب الكتاب كله، اذ ينصح الحاكم بالكثير والكثير “وليلزم المشورة فإن في المشورة صلاح الرعية.. وليصطنع إلى الناس كافة في الوقت الذي يقدر على الصنائع والمعروف قبل أن يجيئه الوقت الذي يفقد فيه القدرة عليها”. وينصح الحاكم بتجنب ستة أشياء، هي: الحّدة والعجلة والحسد والهوى والكذب وترك المشاورة. لا يتوقف عند ذلك، بل يصل إلى كيفية ظهور السلطان على الناس: لا يجب للسلطان ان يفرط في البشاشة والهشاشة للناس ولا أن يقل منهما، فإن الإكثار منهما يؤدي إلى الخفة والسخف والإقلال منهما يؤدي إلى العجب والكبر. لا ينصح للحاكم فقط، بل يمتد النصح إلى من يطلق عليه “امتحن بصحبة السلطان” فعليه واجب أن يعلّمه لزوم تقوى الله والعمل الصالح كأنه يتعلم منه ويؤدبه كأنه يتأدب به”. هذه النوعية من الكتب والقطع الأدبية عرفت في التراث العربي، ومن أشهرها أدب الدنيا والدين للماوردي وأعمال ابن المقفع وغيرهما.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©