الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«معارضة» في حضرة الخليفة

«معارضة» في حضرة الخليفة
7 نوفمبر 2013 13:12
زمان الأندلس، الزمان العربي الجميل، كلما استحضرته وعشت فيه، وجدت فيه نفسي، وتاريخ أمتي، وحتى النكبات ونكساتها سواء عام 1948، العام الذي ضاعت فيه فلسطين أو عام 1967 عام النكسة.. أو عام 1973، عام الانتصار الشبيه بمعركة الزلاقة التي خاضها عرب المغرب وعرب الأندلس معاً ضد الملك الاسباني ألفونسو السادس?،? وذلك في أكتوبر من عام 1086 ميلادية. وأعترف أن استقرائي لتاريخ الأندلس لم يكن من خلال مراجع متخصصة في التاريخ، ولكن من خلال شعراء سجلوا بحياتهم وشعرهم صفحات ساطعة في هذا التاريخ الجميل. وقد عشت في الحلقة الماضية مع الشعر الأندلسي ابن دراج القسطلي المولود في قسطلة بالأندلس عام 347 هجرية الموافق لـ 958 ميلادية.. وناقشنا مع الشاعر نفسه انتماءه إلى البربر وإصراره على عروبته منطلقاً من إدراك لا يشوبه الشك أن البربر هم من القبائل العربية التي جاءت إلى الشمال الأفريقي من اليمن. ولكن حياة وشعر هذا الشاعر تستحق منا أن نستضيفه مرة أخرى لنلقي من خلال الحوار معه أضواء على جوانب أخرى من حياته وشعره.. وأوضح أن ما سنسجله من أقوال هذا الشاعر الأندلسي الراحل لا يعتمد على الخيال بقدر ما يغرف من المراجع التي تحدثت عنه وسجلت شعره. وهنا تكملة للحوار معه: ? قل لي يا ابن دراج.. لماذا ذهبت إلى قرطبة لتمدح ملكها المنصور بن أبي عامر مع أنك ابن عائلة غنية كان لها السيادة والسلطان في بلدة قسطلة الأندلسية؟ ـ هذا سؤال مؤلم.. ولكنني لا أنكر أن حال العائلة بعد ولادتي كان قد بدأ في التردي، ونجمها بدأ يأفل.. ولم يكن في قسطلة بعد أن تمكنت من التحصيل العلمي، ومن صقل موهبتي الشعرية ما يكفي لتحقيق مطامحي والوصول إلى الرفعة التي أنشدها. ? إذن فالدافع كان الوصول إلى الجاه والغنى.؟! - التقى ذلك الدافع مع نظرتي إلى المنصور بن أبي عامر. ? كيف؟ ـ عندما تولى ابن أبي عامر حجابة الخليفة الأموي هشام بن الحكم لملقب بالمؤيد، كان ذلك الخليفة لا يزيد عمره عن أحد عشر عاماً، وهذا أعطاه فرصة ليكون الحاكم الفعلي ثم الملك فيما بعد. ? ولعل هذه النقطة بالذات تسيء إليه أكثر مما هي مجدٌ يفتخر به. - بالنسبة لنا في ذلك الزمان، وجدناه المنقذ.. لم نكن نهتم إذا انقطعت الخلافة الأموية أم استمرت بقدر اهتمامنا باستمرار الحكم العربي في الأندلس وعدم انقطاعه وعندما تولى ابن أبي عامر الحكم في قرطبة، استطاع توطيد الأمن وشجع الصناعة والزراعة والتجارة، أي بلغة عصركم اهتم بالاقتصاد، فارتفع المستوى المادي للشعر وتجمعت الأموال في صندوق الدولة وامتلأت المستودعات بالغلال وخيّم الرفاه والاستقرار على الأندلس طيلة فترة حكمه. ? ولكنه سلب الحكم من الوريث الأموي هشام بن الحكم بحجة صغر سنه. - حتى عندما كبر هشام لم يكن له اهتمام بالخلافة ولا بالحكم، ولذلك فالمنصور تحمل المسؤولية عنه برضاه ورضى العرب في الأندلس كلها.. وأنا واحد من الذين أدركوا أهمية هذا القائد القوي.. فالذي لم تنكس له رأيه ولم يعرف الهزيمة قط في جميع حروبه مع بعض الأمراء الأسبان وما أكثر تلك الحروب والغزوات. ? ظهرت في بلاطه فجأة.. وفي جو تنافسي شهد فيه ذلك البلاط فطاحل شعراء الأندلس.. كيف كان ذلك؟ - كان الشاعر صاعد البغدادي، أهم الشعراء الذين كان لهم خطوة عند المنصور بن أبي عامر، وكان هذا الملك يعقد مجالس أدبية في قصره بقرطبة يجتمع فيها بالأدباء ورجال الفكر، وكان هو نفسه شاعراً.. وفي ذلك اليوم الذي لا أنساه، دخلت إلى مجلس الملك الأدبي في قصر المنصور في قرطبة، لألقي أول قصائدي وكانت معارضة لقصيدة الشاعر صاعد البغدادي المشهورة.. ? في أي عام كان ذلك؟ ـ في عام 382 هجرية. ? وماذا قلت في تلك القصيدة؟ - أذكر لك مطلعها: حسبي رضاك من الدهر الذي عقبا وجود كفّيك للحظ الذي انقلبا ? ولكن كيف استطعت الوصول إلى مجلس المنصور وأنت في ذلك الزمن شاب في مقتبل العمر؟. - مررت طبعاً بالاختبارات التي كان يجريها شاعر المنصور صاعد البغدادي.. وإلا لما سُمح لي بالدخول وإلقاء قصيدة المدح.. إن نجاحي في الاختبار جعلني أحصل على رتبة شاعر. ? وهل هناك أي ميزة لهذه المرتبة؟ - نعم.. كان الحصول عليها يعني راتباً شهرياً يقدم لي من البلاط، كما يعني السماح لي بحضور مجلس الملك. ? وماذا كانت المكافأة التي قدمها لك المنصور؟ - مائة دينار. ? فقط؟ - إنها أجمل مائة دينار حصلت عليها في حياتي.. ? ولماذا؟ - لأنها كانت بداية مستقبل زاهر لفتى طموح.. كانت تلك الجائزة من الملك تحمل رضاه وإعجابه، وتجعله صديقاً يفتح أبواب المجد والجاه والرفاه لصديقه. ? كانت القصيدة كما قلت معارضة لقصيدة صاعد البغدادي ماذا تعني بالمعارضة؟ - المعارضة في الشعر ليست كما هي في مفهومكم الحديث معارضة سياسية، ولكنها كانت تعني أن يُعجب شاعر بقصيدة شاعر آخر فينظم قصيدة على نفس الوزن والقافية. ? أكان المنصور يحب هذه المعارضات؟ - حتى بعد أن نجحت في الاختبار الأول وصرت صديقاً مقرباً من الملك، وجدت المنصور يطلب من الشعراء معارة بعض القصائد القوية التي وصلت من المشرق، وأذكر أنه كان معجباً بقصيدة أبي نواس في مدح الخصيب بن عبدالحميد صاحب خراج مصر والتي مطلعها: أجارة بيتنا أبوكِ غبورُ وميسور ما يرجى لديك عسير ولقد وصل به الاعجاب بهذه القصيدة أن طلب من شاعره صاعد البغدادي أن يعارضها ارتجالاً.. فقال صاعد: لا أفعل يا مولاي. سأله: لماذا يا صاعد؟؟ ألا تستطيع أن ترتجل الآن معارضة لها. أجاب: أستطيع يا مولاي ولكن.. سأله: ولكن ماذا؟ قال: إجلالاً لشاعرنا أبي نواس فإنني لا أرتجل. فرد المنصور: لا تقل أعذاراً واهية.. قل إن الموضوع ليس سهلاً. قال: إنه لكذلك.. ولكن.. إني لمستحي علاك في ارتجال القول فيهِ من ليس يدرك بالروية كيف يدرك بالبديةِ فقال المنصور: إذن لن تفعل.. أجابه: أمهلني إلى الغد وجاءه صاعد بالغد فأنشده ما نظم في معارضة قصيدة أبي نواس، وكان مطلع قصيدته. جذال الشرى إني يكنَّ بصيرُ طوتكن عني خلسةٌ وقتيرُ ? وأنت يا ابن دراج ماذا قلت في معارضتك عندما طلب منك المنصور ذلك؟ - الجميع يعرف أني لا أحب الارتجال.. لأن الشعر لمرتجل هو مجرد استعراض عضلات لغوية، ولكنني سهرت الليالي وبذلت جهوداً مضنية إلى أن أنهيت قصيدتي المعارضة.. التي قلت فيها في مطلعها: دعي عزمات المستضام تسير فتنجدني عرض الفلا وتفور ? كم عاماً قضيت في ظل المنصور العامري؟ - قضيت في له وظل ابنيه عبدالملك وعبدالرحمن ستة عشر عاماً، أي من عام 382 هجرية إلى عام 399 هجرية وهي بالميلادية ما بين عام 992 وعام 1008. ? نستطيع القول: إنك عشت تلك السنوات في وظيفة مادح الملك. - وهل في ذلك ما يضير.. كان المتنبي يشل تلك الوظيفة. ? ولكن المتنبي كان ينطلق من حبه لسيف الدولة. - وأنا كذلك، كنت أحب المنصور ومعجباً بقيادته ولذلك جاء شعري يحمل عاطفة صادقة. ? كان سيف الدولة أيضاً يستحق المدح فهو حامي الثغور والمدافع عن الأرض العربية ضد هجمات وغزوات الروم. - وكذلك كان المنصور مدافعاً عن الوجود العربي في الأندلس ضد الروم أيضاً. ? ولكن هل كان أبناء المنصور مثل أبيهم؟ - بالطبع لا.. كان ابنه عبدالملك المظفر قليل الاهتمام بالشعر والشعراء. ? ولكنك مع ذلك مدحته بـ 24 قصيدة. - لأنه لم يسء إليّ. ? استمرت وظيفتك؟ - نعم استمرت وظيفتي شاعراً وكاتباً في ديوان إنشائه. ? ولكن العاطفة التي تصنع الشعر فترت. - كفاه أنه ابن صديق عمري.. وأنه لم يسء إليّ بشيء.. ? وهل كان كأبيه في الحروب؟ - إحدى القصائد التي مدحته بها كانت بعد قيامه بغزو مملكة ليون في عام 395 هجرية محققاً فيها انتصاراً كبيراً. ? وماذا قلت في هذه القصيدة؟ - قلت في مطلعها: لئن سرّ الدنيا فأنت سرورها وإن سطعت نوراً فوجهك نورُها ? ألن تكملها؟ - بما أنك لن تقابلني مرة أخرى.. فلابد لي من إلقاء إحدى قصائدي في المنصور بن أبي عامر.. فهذه القصائد أحب إلى قلبي وأكثر قدرة على شرح المحبّة التي جمعتني بذلك القائد العظيم. ? تفضل يا ابن درّاج. - أقول: غرامٌ وشكوى وعَتْبٌ ولا عُتبى(1) وشوقٌ ولا لقيا وصبرٌ ولا عُقبى(2) وكم من معشوق وأعتب عاشق وقلبُكِ ما أقسى وقلبيَ ما أصبى سأصدع أضاءَ(3) الضلوع بزفرةٍ تطيرُ إليك القلب لو أن لي قلبا وأسبلُ آماق(4) الجفون بعبرةٍ(5) وإن حُرمتْ منكِ المودة في القربى بنسبتنا في رقّ(6) مولى أضافنا تبوأنا(7) الإكرام والمنزلَ الرحبا وحسبُك والمنصور جامع شملنا وكنت له شرقا وكنتُ له غربا فجهّز فيّ العلم والحلمَ والنهي وجهّز فيك الخيلَ والطعن والضربا فلبيته سبياً ولبيته مُنى ودنتِ له سلماً ودنتُ له حرباً فلا عَدِمَ الإسلام من عزماته سيوفاً بها نبي وجوهاً بها نُسبى شرح الألفاظ: 1 - عُتبى: السرور بعد الإساءة.. الاسترضاء 2 - العقبى: جزاء الأمور. 3 - امناء: أطراف وجوانب. 4 - آماق: جمع أمق وهو طرف العين الذي يجمع الدمع. 5 - عبرة: دمعة. 6 - الرق: العبودية. 7 - بوأ: أنزل المراجع: - ديوان ابن دراج القسطلي/ تحقيق الدكتور محمود علي مكي - وفيات الأعيان/ ابن خلكان - تاريخ العرب في أسبانيا/ خالد الصوفي - لسان العرب/ ابن منظور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©