الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل يمكن قتل شخصية؟

هل يمكن قتل شخصية؟
6 نوفمبر 2013 19:20
يعتبر الكاتب المسرحي الكوبي «بيرخيليو بينييرا» (1912 ـ 1979) أحد أبرز كتاب المسرح في أميركا اللاتينية والأب الشرعي لمسرح العبث أو كما يسميه نقاد تلك البلاد “المسرح العابث”، تمييزاً له عن مسرح العبث الأوروبي، بل وكان سابقاً على مسرح العبث الأوروبي بعقود عدة، حسب ما تؤكد الدراسات التي تناولت هذا التوجه بالمسرح العالمي، ولفرادة وتميز هذا المسرحي المبدع فقد تناولت أعماله العديد من الدراسات بعدد كبير من اللغات، من بينها اللغة العربية، (لكاتب المقال دراسة صدرت في كتاب “جماليات الرفض في مسرح أميركا اللاتينية)، صدرت طبعته الأولى في الشارقة عام 2002، وطبعته الثانية بالقاهرة عام 2003)، وآخر تلك الدراسات حول مسرح بيرخيليو بينييرا صدرت قبل أسابيع قليلة عن دار فيربوم بمدريد بعنوان “المسرحة والثقافة الشعبية في أعمال بيرخيليو بينييرا”، من تأليف الباحث: أمادو ديل البينو، لا يتناول فقط الملامح الأساسية في الأعمال المسرحية للمبدع الكوبي بل يتعداه إلى دراسات وورش العمل المسرحية التي أدارها أو شارك فيها المؤلف بحثاً عن مسرح نابع من البيئة الكوبية التي ينتمي إليها ومتوجه بالأساس إلى أصحابها. انطلاقا من السؤال: هل يمكن قتل شخصية؟ يعثر مؤلف البحث عند إجابته عن هذا السؤال من خلال أعمال المسرحي الكوبي بيرخيليو بينييرا على الأصول الإغريقية للمسرح، أي تطبيق القواعد الأرسطية في بدايات كتاباته الأولية، وفي هذا الاتجاه يجد المؤلف أن المسرحي الكوبي كثيراً ما استخدم الأسطورة الإغريقية ذاتها ليخلق مسرحاً محلياً، وهناك عدد من المسرحيات التي تدخل فيها شخصية “اليكترا:” الأسطورية المعروفة بشكل خاص، لكن حضورها في المسرحية ليس “اليكترا” الشخصية الأسطورية بل لتقديم رؤية محلية من خلالها، مسرحية “اليكترا غاريغو” على سبيل المثال، وبعضها الآخر يستلهم شخصيات إغريقية لصناعة شخصيات وطنية أو محلية، لكنه سرعان ما “يمسرح” رؤيته النابعة من كتابة وطنية من دون حاجة إلى البحث عن شخصيات أسطورية إغريقية للكتابة على نسقها أو استلهامها، وهنا يكون قد وصل إلى قمة نضجه من خلال التجسيد النابع من بذرة محلية ولكنها ممسرحة بشكل ناضج، وكثيراً ما استخدم تلك الأسطورة بشكل عكسي، أي تناولها برؤية ساخرة لأنها تتعارض مع واقعه وواقع الحياة في وطنه. وفي مسرحية “الصراع” (المنشورة عام 1942) يكون بيرخيليو بينييرا، بحسب مؤلف الكتاب، قد توصل إلى جمالياته الخاصة التي تنعكس من المسرحة في الكتابة، وربما منذ تلك اللحظة تكون كتابة المسرحي الكوبي قد وضعت أصبعها على جماليات خاصة، وشخصياته أيضاً قادرة على رفض القواعد الكلاسيكية في المسرحة لخلق مسرحية جديدة، تعكس جماليات جديدة خاصة بالمؤلف، وتتلبسها شخصياته التي تتحرك في أعماله سواء داخل نصوصه المطبوعة أو عند تقديمها على خشبة المسرح كعرض. ربما، حسب مؤلف الدراسة، أن المسرحة والاستعراض المسرحي انتقلت إلى نتاج بيرخيليو بينييرا في أنواع إبداعية أخرى، كما هي الحال في القصة القصيرة التي برع في كتابتها تماماً كالمسرح، كثيراً ما كان يشير إلى المسرح بشكل مباشر، فكثيراً ما استخدم كلمات مثل: استعراض، عرض، جمهور، خشبة. ويبدو من توجهه المسرحي أنه لا يستخدم تلك الكلمات فقط كإشارة منه لفن المسرح، ولكنها كانت تعكس طريقة في التفكير المسرحي الذي ينعكس بدوره على عقدة القصة القصيرة وعرضها لموضوعاتها، وفي رأي الباحث، فإن هذا يعود إلى سيطرة فكر الكاتب الدرامي على تفكير المؤلف بيرخيليو بينييرا من خلال إبداعه للقصة القصيرة. ثم في مراحله التالية للبحث عن المسرحة من خلال الأسطورة الإغريقية وجد بيرخيليو بينييرا في فن “الكباريه” الذي كان منتشرا قبل الثورة الكوبية كجزء من النظام الاقتصادي الذي ثارت عليه الثورة فيما بعد، لذلك كثيرا ما أوحى هذا العالم لبينييرا بأشياء عرضها خلال كتاباته، حتى أن بعض النقاد وجدوا في تناولها تعاطفاً من جانب المؤلف لهذا العالم المفترض أنه مرفوض ثورياً، والحقيقة كما يرى الباحث، مؤلف هذا الكاتب، أن عالم الكباريه كان يقدم لبيرخيليو بينييرا بتبادل المشاهد وتحاورها فيما بينها لتشكل في النهاية العرض المسرحي الذي يبحث عنه ويرغب في تقديمه على خشبة المسرح. في هذا البحث يكشف مؤلف الكتاب عن جانب مهم من حياة بيرخيليو بينييرا الإبداعية، وهو التصاقه بالواقع وكل ما يعبر عن هذا الواقع، وبشكل خاص الواقع الشعبي، الأمثال الشعبية والاستعراضات، وغيرها من الفنون المعبرة عن الشعب الكوبي، وهذا ساعده على خلق لغة متميزة في حوارات شخصياته المسرحية، وربما كان الحوار في مسرحية “يسوع” الأكثر تعبيراً، في المشهد الذي يجري فيه التحقيق مع يسوع، ونظراً لغرابة المشهد: محقق معاصر يستجوب يسوع، فلا تجد شخصية يسوع سوى الرد بجمل تعبيرية مأخوذة من اللغة الشعبية المتداولة “حجر قرميد يعطي زيتاً أكثر مما يمكن أن يقدمه هذا الحلاق”، وكثيراً ما كان يميل بينييرا إلى استخدام الأمثال الشعبية لتعكس على لسان شخصية مسرحية موقفه في لحظة ما. ولم يقتصر استخدام بيرخيليو بينييرا للغة الشعبية على مسرحه فقط، بحسب الباحث مؤلف الكتاب الذي نعرض له، بل امتد هذا الاستخدام إلى القصائد الشعرية التي كتبها المسرحي الكوبي، فقد كان شاعراً أيضاً إلى جوار إبداعه المسرحي وكتابته للقصة القصيرة والرواية، ومن متابعة أشعاره يمكن اكتشاف التأثيرات الشعبية على المستوى الأسلوبي من حركات للأمام وللخلف، وجمل مستقاة من اللغة الشعبية في الشارع، بل إن بعض قصائده الشعرية كانت تبنى على تعبير شعبي منذ العنوان نفسه، وحتى نسيج القصيدة وتشكيلها. ويمكن القول بأنه من خلال هذا الكتاب نكتشف أن معظم المواقف المسرحية الساخرة التي يضمنها بيرخيليو بنييرا في كتاباته لها جذور شعبية، لأنه كان يعتقد أن استخدام تلك التعبيرات يجعل شخصيات المسرحية أقرب إلى جمهور المشاهدين، وفي مسرحيته “الإنذار المزيف” لا يقتصر على استخدام الألفاظ الشعبية فقط بل يستخدم أيضاً كل ما وصل إليه من جمل شعبية منطوقة محملة بالروح الدينية، التي في أساسها جمل تنتمي إلى الثقافة الأساسية للشعب الكوبي المنحدر في معظمه من العبيد الزنوج الهاربين من الرق خلال نقلهم من إفريقيا إلى الولايات المتحدة، وربما الانتماء إلى ثقافة شعبية عميقة في الروحية كالثقافة الأفريقية كانت الدافع وراء استخدامها في الإبداع لدى كثير من المبدعين الكوبيين وليس بيرخيليو بينييرا وحده. يمكننا القول بأن هذا الكتاب “المسرحة والثقافة الشعبية في أعمال بيرخيليو بينييرا”، الصادر بمناسبة مرور مئة عام على مولد هذا المسرحي الكوبي الشهير، يعيد إلينا هذا المسرح الذي خفت التعامل معه في السنوات الأخيرة لأسباب سياسية نابعة من موقف بيرخيليو بينييرا من الثورة الكوبية، والتي رأى أن شرعيتها الثورية قد طالت زمنياً أكثر مما يجب، وكان يجب أن تنتقل إلى مرحلة جديدة تسمح بتطور المجتمع الكوبي مثل غيره من شعوب العالم، في إطار سياسي عادي ومستقر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©