الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عقدة الركون والتجاوز

عقدة الركون والتجاوز
5 نوفمبر 2015 01:18
في العدد الصادر في 11 سبتمبر 2014 من جريدة «المصري اليوم» كتب المفكر الدكتور جلال أمين مقالاً بعنوان «نجيب محفوظ... أو كيف تصبح أديباً عالمياً»، وهو مقال رفيع المستوى، بالغ العمق، ومع ذلك فإنه سهل الفهم، بسيط العبارة. لقد كتب جلال أمين هذا المقال في ذكرى الاحتفال بنجيب محفوظ، وهو يبدأ مقاله من حيث يريد أن ينتهي، فيقول: «أظن أن الشرط الأساسي للنجاح في أن تصبح أديباً عالمياً هو ألا يشغل هذا الأمر بالك على الإطلاق. الشرط هو أن ينصرف همك إلى الكتابة بصرف النظر عما إذا كان موضوع الكتابة محليًا أم عالميًا. فإذا كنت بالإضافة إلى ذلك شخصًا موهوبًا، فقد يضمن هذا لك اعتراف العالم كله بك». لا يبدأ جلال أمين مقاله من حالة نجيب محفوظ كمثال مُعبِّر عن تلك المقولة؛ لأن حالة نجيب محفوظ هي مجرد مناسبة للإفصاح عن هذه الفكرة التي يريد أن ينتهي إليها. على الرغم مما هنالك من استبصار قوي في المقال سالف الذكر فيما يتعلق بمسألة محلية الأدب وعالميته؛ فإن هذه المسألة تحتاج إلى كثير من التحليلات للمفهومين الأساسيين المتضمنين فيها، واللذين كثيراً ما يختلطان على الأفهام، بحيث يحدث عادةً تصورهما باعتبارهما مفهومين متقابلين أو متضادين، وهو فهم مغلوط لحقيقة الأمر هنا. ولقد شغلني من قبل إيضاح تلك المسألة وإزاحة اللبس عن مفاهيمها الضمنية، في أكثر من دراسة تتعلق بتجليات هذه المفاهيم في مجال الفن عموماً، أعني على مستوى النظرية الجمالية. غير أنني سأسعى هنا إلى الكشف عن المفاهيم المتضمنة في هذه المسألة في مجال الأدب تحديداً، على مستوى التنظير، مع التطبيق على بعض الأمثلة العيانية. قضية زائفة هناك - في واقع ثقافتنا العربية - فهم شائع ساذج لمفهوم «العالمية» في الأدب (والفن عموماً) باعتبارها ذيوع العمل الأدبي وانتشاره خارج حدود موطنه أو إقليمه. وعلى هذا، فإن عدم انتشار الأدب يعني - وفقاً لهذا الفهم السطحي - أن الأدب يتسم بضرب من الدونية وأنه محدود أو محلي. ومن ثم، فإن السؤال الذي يلح على أذهان البعض حينئذ، هو: وما سبيلنا إلى العالمية؟ ومن ثم: كيف ينتقل الأدب عندنا من المحلية إلى العالمية؟ وهذا السؤال يصبح مطروحاً بقوة أكبر كلما أصبح فن أو أدب العرب مطروحاً للعرض والتقييم في ساحات المهرجانات والجوائز العالمية (وربما يفسر لنا هذا حالة السعي المحموم للأدباء في عالمنا العربي نحو ترجمة أعمالهم، ونيل الجوائز، وحالة الهوس التي تصيب الناس عندما يفوز أديب في موطنهم بجائزة كبرى أو عالمية). ولكن وضع السؤال على هذا النحو يفسد القضية برمتها، ويجعل منها آخر الأمر قضية زائفة؛ لأن صيغة هذا السؤال تضع خاصية «المحلية» التي يوصف بها الأدب (أو الفن عموماً) في حالة تعارض - بل في حالة تضاد - مع خاصية أو طابع «العالمية»، وهذا ما سبق أن فصلناه في دراسة لنا بعنوان «عالمية الفن ومحليته: تحليل لقضية زائفة». والحقيقة أننا يمكن أن نرصد موقفين رئيسين يتجلى فيهما هذا التعارض بين هاتين الخاصيتين عند مرددي هذه القضية: ففريق يرى أن الفن (ومنه الأدب) ينبغي أن يكون عالمياً كي يكون فناً، وهذا يعني بالنسبة لهم أنه ينبغي أن يتخلص من خاصية أو صبغة المحلية التي هي سمة الفن الأدنى قيمة، فهي وصمة أو قصور يشوب الفن ويعيبه. وفريق آخر يرى أن الفن بطبيعته يكون محلياً وليس عالمياً؛ لأن كل فن ينشأ داخل إقليم أو وطن أو قومية ما، والقومية ضد العالمية، وليست عالمية الفن سوى خاصية دخيلة أو حالة طارئة على الفن، فهي ليست تعني سوى انتشار الفن وفقاً لظروف سياسية وحضارية معينة، كأن يكون - على سبيل المثال - الاتجاه والثقل السياسي للدولة التي ينتمي إليها المُبدِع، مؤثراً في موازين الجوائز العالمية التي تمنحها هيئات دولية بعينها، أو يكون انتشار الفن عالمياً متأثراً بمدى انتشار لغة العمل الفني المبدَع (كفنون الأدب والفنون التي تعتمد على النص الأدبي)، وبمدى ثقل أجهزة الإعلام في موطن العمل، إلخ.. والتحليل الذي سوف نقدمه - فيما يلي - سوف يكشف لنا أن كلا الرأيين على خطأ. وليس معنى ذلك أننا نريد أن نقف موقفاً وسطاً بين الرأيين اللذين يضعان خاصية المحلية في حالة تعارض مع خاصية العالمية في الفن، بل إننا نريد أن نكشف عن وجه القصور فيهما من خلال تحليل متأنٍّ دقيق يكشف لنا عن زيف القضية من أساسها كما يطرحها هذان الرأيان، ويكشف لنا - في الوقت نفسه - عن رؤية أو تصور تركيبي آخر لا يجمع أو يوفق بين هذين الرأيين وإنما يتجاوزهما كليةً. الوعي الجمالي ما الذي نعنيه بطابع «المحلية» في الأدب؟ كل أدب رفيع القدر يحمل شيئاً من روح موطنه، بل شيئاً من عبق تاريخه الخاص. تتفاوت الفنون في مدى وضوح تعبيرها عن هذه الخاصية، ولكن يظل الأدب هو أكثر الفنون تعبيراً عنها؛ ربما بسبب أن فن الأدب هو - في المقام الأول - فن اللغة التي تبلغ ذروة حضورها وتجليها في فن الشعر خصوصًا. حقاً إننا يمكن أن نتحدث عن كل فن باعتباره ل غة لها أدواتها الخاصة، مثل لغة الموسيقى على سبيل المثال؛ ومن ثم يمكن القول - مع هيدجر - بأن كل فن هو لغة تكشف عن أسلوب شعب ما في التعبير عن عالمه. ومع ذلك، فإن تكشُّف هذه اللغة بالنسبة للمتلقي يتطلب درجة رفيعة من الوعي الجمالي (كما هو الحال بالنسبة للموسيقى)، فضلاً عن أن اللغة بمعناها الحقيقي - لا المجازي - تجعل فنون الأدب (والفنون التي تعتمد على النص الأدبي) أكثر التصاقاً بروح موطنها، وأكثر إفصاحاً في تمثلها والتعبير عنها. ففي الشعر العربي الجاهلي - على سبيل المثال - نجد تصويراً للصحراء والسماء والخيل، وغير ذلك من الأشياء التي تمثل بيئة شاعر البادية. وبوجه عام يمكن القول بأن الشاعر العربي على مر العصور كان يستلهم الطبيعة والبيئة التي يحيا فيها. والشاعر العربي من هذه الناحية لا يختلف عن غيره من الشعراء، فالشاعر في كل زمان ومكان هو ابن بيئته، بل هو أبر أبناء الطبيعة: «فقد أمدته بما أمدت به غيره وبما بخلت به على غيره، أو أخذ منها هو ما أخذه غيره، ثم نفذ إلى قلبها فاستخلص ما لم يجد غيره سبيلاً إليه أو لم يحس بوجوده» (كما يقول الدكتور حسين نصار في كتابه عن «الطبيعة والشاعر العربي»). وفضلاً عن ذلك، فإن الأمكنة تفرض حضورها الطاغي على العمل الأدبي، خاصةً العمل الروائي: ففي رواية «النفس المسحورة» L`ame enchantee لرومان رولان Romin Rolland، والتي تجري أحداثها في باريس، نجد أن كثيراً من شوارع العاصمة الفرنسية مصورة في هذه الرواية. وفي أعمال نجيب محفوظ نجد أن أحياء القاهرة العتيقة بحواريها وأزقتها مصورة في هذه الأعمال التي تحمل بعضها اسم هذه الأحياء (مثل: «زقاق المدق»، و«السكرية»، و«بين القصرين»). الطابع القومي ويدخل مفهوم القومية ليضيف بعدًا أكثر اتساعاً لمفهوم المحلية كتعبير عن حالة الخصوصية التي تميز الفن، ولكن هيجل يلاحظ أيضاً أن الاختلاف بين فنون القوميات المتنوعة يبدو بوضوح أكثر في حالة الشعر؛ لأن الشعر - فيما يرى هيجل في «محاضراته في علم الجمال» - يتألق دائماً في كل فترة من حياة القوميات: فالشعر يعبر عن الكلي، لا بمعناه الفلسفي المجرد، وإنما باعتباره متعيَّناً في صورة فردية؛ ولذلك «فإن الشعر لا يمكن أن يستغني عن الطابع القومي الخاص الذي منه ينبثق، فموضوعه وأسلوبه التصويري يتخذان الهيئة التي يكونان عليها من خلال الأفكار وأساليب رؤية الأشياء التي تخص هذا الطابع، وهذا هو السبب في أن الشعر تكون له تلك الثروة من الخصوصية والأصالة، فالشعر الشرقي والإيطالي والإسباني والإنجليزي والروماني واليوناني والألماني، هي أنماط من الشعر مختلفة تماماً في الروح والشعور والرؤية والتعبير، إلخ..». حقًا إن الخصوصية التي تميز أدب وفن كل قومية على حدة، ليست خصوصية مطلقة؛ لأن هناك أيضاً بين فنون العصر الواحد صلات وملامح مشتركة لا يمكن إغفالها، ولكن هذه الخصوصية تصبح أكثر عمقًا ووضوحًا في حالة فنون القوميات المنتمية إلى عصور مختلفة، وهذا يعني أن البعد التاريخي يدخل كعنصر مهم في تعميق وإبراز الاختلافات والخصوصيات الجوهرية بين فنون القوميات، بل بين فنون القومية الواحدة حينما ننظر إليها عبر عصور مختلفة، فالخصوصية هنا هي خصوصية فن شعب أو قومية ما في عصر ما، وهيجل نفسه يلاحظ ذلك بوضوح في حالة الشعر: ذلك أن ما يكون عليه الشعر الألماني في عصره، ما كان من الممكن أن يكون في العصور الوسطى أو فترة حرب الثلاثين عاماً، فالأشياء التي تثير اهتمامنا العميق الآن تخص عصرنا الراهن، وكل عصر له أسلوبه الخاص في الشعور، سواء كان أرحب أو أكثر تحدداً، أكثر سمواً وتحرراً أو أكثر رقةً، وباختصار يكون لكل عصر رؤيته الجزئية الخاصة للعالم التي يتم استحضارها على أوضح وأكمل نحو أمام وعي الفنان بواسطة الشعر؛ لأن الكلمة يمكن أن تعبر عن مجمل الروح الإنساني (على حد تعبير هيجل). وإذا كان طابع الخصوصية أو الانتماء لشعب وقومية ما، يتجلى في فن الأدب أكثر مما يتجلى في غيره من الأنماط الفنية، فإن العنصر المسؤول عن هذه الحقيقة هو اللغة، كما نوهنا من قبل، فالأدب - كما هو معلوم - لا يستخدم اللغة باعتبارها مجرد أداة لتوصيل معانٍ أو تصورات عقلية، وإنما يستخدم اللغة على نحو خاص بتفجيره للطاقات الإبداعية والجمالية الكامنة فيها عبر أساليب متنوعة؛ ولذلك فإن جزءًا كبيرًا من هوية أو بنية العمل الأدبي وقيمته الجمالية يقوم على اللغة ذاتها من حيث هي أداة تعبير جمالي، بما في ذلك صوتياتها وإيماءاتها التي لا يمكن نقلها عبر أية لغة أخرى، ومن هنا يبدو لنا دائماً الصعوبة الفائقة في محاولات ترجمة الأعمال الفنية الأدبية، خاصة تلك التي تكون رفيعة المستوى من حيث القيمة الجمالية، وهي صعوبة تبلغ ذروتها في محاولات ترجمة الشعر، حتى إنها تتطلب إبداعاً موازياً كي تقترب فحسب من التأثير الجمالي للشعر في لغته الأصلية. معنى عالمية الأدب على الرغم مما يتميز به الأدب من طابع المحلية أو الخصوصية الذي يترسخ ويصبح أكثر وضوحاً من خلال البعد الزماني أو التاريخي الذي يُضفي على الأدب عبقه الخاص.. على الرغم من ذلك، فإننا لا ينبغي أن نغالي في إبراز البعد التاريخي الزماني - فضلاً عن البعد المكاني - في تحديد خصوصية العمل الأدبي أو الفني عمومًا، ومن ثم هويته؛ فهذا البعد لا يقوم وحده كعنصر محدد لهوية العمل الفني. فإذا كان من الصحيح أن الأعمال الفنية تنشأ في التاريخ وتُطبَع بطابعه، فإنه من الصحيح أيضًا أن الأعمال الفنية لا تاريخ لها، بمعنى أنها تتجاوز التاريخ، أي «تتجاوز الزمان الذي فيه تنشأ وتذوي الحضارات»، على حد تعبير دوفرين. والفن بذلك يتجاوز عصره بمعنى ما، كما لاحظ مونرو: «فالفن يعبر على الدوام عن شيء يتميز به زمانه بوجه عام، وهو يعبر أيضاً عن سمات إنسانية عامة معينة تتسم بها عصور كثيرة. على أنه في نواحٍ أخرى يعبر عن جزء فقط من عصره». وبعبارة أخرى أكثر دقةً وإيجازًا نقول: إن في الفن تعبيرًا يجسد عصره ويتجاوز عصره في الوقت نفسه، ولهذا السبب نفسه؛ فإن ماركس قد ظل حائرًا إزاء السؤال الذي ألقاه على نفسه: إذا كانت الأعمال الأدبية مرتبطة بعصرها وتاريخها، فلماذا نظل على إعجاب بالتراجيديا اليونانية على بعد المسافة الزمانية التي تفصلنا عنها؟! إن الإجابة عن هذا السؤال الذي حير ماركس - لأن موقفه الفلسفي يحول دون الإجابة عنه - تكمن ببساطة في أن الأدب العظيم لا يمكن أن يبقى محدوداً في إطاره الزماني، ولا في التعبير عن موقف سياسي أو أيديولوجي مرتبط بعصره وظروفه الخاصة، ذلك أن الأدب العظيم يحمل دائماً دلالة إنسانية عامة أو كلية حينما يعبر عن شكل ما من أشكال الحياة الإنسانية، ولكن من الضروري أن نلاحظ هنا أن الدلالة الإنسانية العامة في الأدب لا تعني التعبير عن شكل الحياة الإنسانية في صورة مجردة، وإنما التعبير عنها كما تتجلى في حالة متعينة، أي في حالة من الخصوصية، أعني أن الأدب العظيم يتميز دائمًا بالقدرة على رفع الخاص إلى العام، وتشخيص العام في الخاص، وهذا هو بدقة معنى «العالمية» في الأدب وفي كل فن، لنطبق ذلك على فن الرواية على سبيل المثال: إن الأحداث والشخصيات والإطار الزماني المكاني الذي تجري فيها هذه الأحداث وتسلك الشخصيات سبيلها نحو مصائرها.. كل هذا يكون معبراً عن خصوصية العمل الروائي، ولكنه في الوقت ذاته يحمل في باطنه دلالات تتجاوز الخاص إلى العام، فالشخصية المصورة في العمل الروائي - رغم كل ملامحها الخاصة - لا تعبر عن وجودها الفردي فحسب، وإنما تعبر عبر عن دلالة إنسانية عامة تجعل كل فرد آخر يشعر بها ويعايشها ويتعاطف معها، كما لو كانت تعبر عن شيء من نفسه، وإن لم يكن متحققًا بالفعل من خلال حياته أو وجوده الفردي الخاص، أيًا كان موطن هذا الفرد المتلقي وسياقه الزماني المكاني الذي يعيش فيه، فشخصية حميدة في رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ - على سبيل المثال - هي شخصية مصرية خالصة، تعيش في حي خاص من أحياء القاهرة العتيقة في فترة زمنية معينة من تاريخ مصر، بل إن خصوصية هذه الشخصية تتجلى حتى في ملامحها وهيئتها وملبسها واللغة التي تنطقها على نحو يعكس طبقتها الاجتماعية التي تنتمي إليها، ولكن قدرة الأديب وبراعته في تصوير الشخصية في تفاعلها مع سياق الأحداث التي تتنامى بحساب وفقاً لرؤية جمالية إبداعية، هي ما يجعل هذه الشخصية تتجاوز ذاتها ووجودها الفردي الخاص لتعبِّر عن حالة إنسانية تتكرر في كل زمان ومكان على أنحاء شتى، ولذلك أمكن لمثل هذا العمل أن يتخطى حدود موطنه وإقليمه ويلقى إعجاباً من النقاد والقراء خارج موطنه بعد ترجمته إلى العديد من اللغات؛ بل إنه بعد تصويره سينمائياً في مصر بعقود من الزمان، تم تصويره سينمائياً في أمريكا اللاتينية، ولكن بعد أن اكتسبت فيه الشخصيات والأحداث روحاً خاصة معبرة عن موطنه الجديد، وهكذا فإن العمل الأدبي العظيم قد يظل منتظراً لعقود - وأحياناً لقرون - ذلك المتلقي الذي يمكن أن يقدره حق قدره، وأن يقوم بإعادة تأويله فنياً وجمالياً. حسابات الجوائز وفي مقابل ذلك، فإننا نجد كثيرًا مما يكتب باسم الأدب في واقعنا الراهن ومنذ عقود عديدة، ليس بأدب حقيقي، وإنما هو كتابة تبقى أسيرة واقعها المحدود، وهي إن نجحت في أن تتخطى حدود موطنها لفترة قصيرة من الزمن، بنيل جائزة هنا أو هناك؛ فإنها سرعان ما تخفت بعد ذلك ليطويها النسيان. يحدث ذلك على أنحاء شتى، حينما لا ينشغل الكاتب بالكتابة الإبداعية، وإنما بتحقيق الشهرة ونيل الجوائز، وهذه الظاهرة تتجلى في واقعنا الأدبي حينما ينشغل الكاتب بقضية تخص واقعه، ولكنها يمكن أن تثير الجدل داخل موطنه وخارجه لأسباب كلها غير فنية أو جمالية. ومن ذلك - على سبيل المثال - رواية «بنات الرياض» التي نالت حظاً من الشهرة حين ظهورها منذ عقد من الزمان، واحتفى بها كثير من النقاد باعتبارها تقوم بتعرية العالم السري للعلاقات الاجتماعية الإباحية في مجتمع يبدو محافظًا وتقليديًا إلى أبعد حد! وهذا مما يثير العجب والدهشة؛ لأن هذه الرواية - التي لم أستطع أن أكملها حينما طالعتها أول مرة - ليس فيها شيء من الأدب، فليس فيها لغة جمالية، ولا صور متخيلة، بل حافلة بالركاكة اللغوية والفنية. والواقع أن مثل هذه التعرية التي تحدث عنها بعض النقاد، يمكن أن يتناولها أي مقال أو دراسة على نحو أكثر عمقًا؛ ولذلك فإن هذه الرواية لن يبقى منها شيء في تاريخ الكتابة الأدبية. وقد تتجلى هذه الظاهرة في واقعنا الأدبي على نحو آخر، حينما ينشغل الكاتب باجترار ذاته من خلال سرد وقائع لا تخص سوى ذاته وحدها. حقاً إن الذات تكون حاضرة في كل أدب، بل يحق لنا القول بأن كل أدب هو كتابة لخبرة الذات، ولكن خبرة الذات ليست مجرد خبرة بوقائع ذاتية تخص الأديب وحده، وإنما هي خبرة أو تجربة تكشف عن رؤيته للعالم... لعالمنا الإنساني الذي يتجلى فينا مثلما يتجلى في غيرنا. ينبغي إذن أن نستبعد في فهمنا لمعنى «العالمية في الفن والأدب» حسابات السياسة والجوائز التي تجعل بعض الفنانين يقحمون على أعمالهم أيديولوجيات معينة، كما ينبغي أن نستبعد الشهرة الوقتية التي يصنعها الترويج الإعلامي. ولقد وجدنا خلال العقدين الأخيرين أدباء وأديبات متلهفين على تلك الشهرة من خلال تبني موضوعات إباحية ولغة تشبه لغة «البورنو» في أعمالهم، ويسطحون مفهوم الجسد في أعمالهم بحيث يحولونه إلى مجرد موضوع جنسي مبتذل، كما لو كان هذا الجسد لا تسكنه روح أو عقل؛ ولذلك فهم لا يحسنون حتى التعبير عن لغة الجنس أو عن الجسد حينما بعبر عن نفسه كموضوع جنسي. هذا وأشياء من هذا القبيل أصبحت شائعة في كتابات كثير من الأدباء في واقعنا الراهن، الذين يكتبون وعينهم على دور النشر الأجنبية التي يمكن أن تترجم أعمالهم، وهم يبذلون في سبيل ذلك كل جهدهم الأدبي وغير الأدبي. ينسى هؤلاء جميعًا أن نجيب محفوظ لم يسع إلى جائزة، ولم يكتب من أجل أن تُترجَم أعماله؛ فجاءته أرفع الجوائز دون أن يسعى إليها، وتُرجِمت أعماله إلى لغات لا حصر لها؛ لا لشيء سوى أنه عكف على أدواته الفنية في البناء الروائي لشخصيات لها دلالة إنسانية عامة، ولكنها تحيا في سياق زماني مكاني خاص، وفي لحظة زمانية مشخَّصة من تاريخ مصر. وحتى عندما لا يتخذ العمل الأدبي الروائي الشكل التقليدي في بناء الرواية، ويلجأ إلى أساليب أخرى من فن الحكي، تقوم على تداعي الشعور أو تداعي المعاني في خبرة الذات، فإن المعنى هنا وإن كان مشخصًّا في تجربة ما، يخرج من النطاق المحدود لهذه التجربة ليوحي برؤية كشفية للعالم، على نحو ما نجد ذلك على سبيل المثال في أعمال الغيطاني المتأخرة التي تحمل عنوان «دفاتر التدوين»، وهكذا يمكن القول بأن مثل هذه الكتابات الأدبية الرفيعة قد حفرت مكانها في تاريخ الأدب داخل موطنها وخارجه، ولهذا أتتها الجوائز الرفيعة طواعيةً، وقل مثل ذلك في سائر الفنون الأخرى. تتفاوت الفنون في مدى وضوح تعبيرها عن الخاصية «المحلية»، ولكن يظل الأدب أكثرها تعبيراً التراجيديا اليونانية ظهرت التراجيديا اليونانية بين سنتي (336 – 533 ق.م)، في عهد الطاغية ليسيتراتي (561 – 528 ق.م). ويعرفها أرسطو بأنها محاكاة لفعل جاد كامل ذي حجم معين، في لغة منمقة تختلف طبيعتها باختلاف أجزاء المسرحية، وبواسطة أشخاص يؤدون الفعل لا عن طريق السرد، وبحيث تؤدي إلى تطهير النفس عن طريق الخوف والشفقة بإثارتها لمثل هذه الانفعالات. ويرى أرسطو أن المحاكاة نزعة فطرية تولد مع الإنسان منذ نعومة أظفاره، وأن الإنسان هو أكثر الكائنات الحية براعة في هذا المضمار، حيث إنه ينال تعليمه ومعارفه في طفولته عن طريق المحاكاة، وأن البشر جميعاً يجدون متعة كبيرة في المحاكاة. كذلك نجد أن الكلمة التي استخدمها الإغريق للدلالة على الشاعر هي Poietes وهي كلمة لا تعني شخصاً يخلق من عدم، بل تعني الشخص الذي يؤلف ويركب وينظم الأجزاء التي نقلها عن طريق المحاكاة، وهذا يتطابق مع نظرية أفلاطون بين الأصل والصورة له. وقد استمدت المأساة من الشعائر الدينية القديمة في اليونان، أما المآسي التي كتبها إسخيلوس، ويوربيديس، وسوفوكليس، فقد كانت تتسم بالطابع الأدبي أكثر من اتسامها بالطابع الديني. الأدب المقارن للكشف عن الخصائص المحلية وغير المحلية في الإبداع، يلجأ بعض الدارسين إلى مناهج الأدب المقارن، والذي هو بالتعريف المباشر «دراسة الأدب خلف حدود بلد معيّن ودراسة العلاقات بين الأدب ومجالات أخرى من المعرفة والاعتقاد مثل الفنون كالرسم والنحت والعمارة والموسيقى، والفلسفة، والتاريخ، والعلوم الاجتماعية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع، والعلوم، والديانة، وغير ذلك. وباختصار هو مقارنة الأدب بمناطق أخرى من التعبير الإنساني». ويمكن القول إن الأدب المقارن: يقدم فهماً للأدب أفضل وأكثر شمولاً وأقدر على تجاوز جزئية أدبية منفصلة أو عدة جزئيات معزولة. ويميز ما هو محلي وما هو إنساني مشترك. ويحدد الصلات والمشابهات بين الآداب المختلفة وبين الأدب وحقول المعرفة الأخرى. ويسهم في تخليص الأقوام من النزعة الشوفينية والنرجسية المسيطرة في مجال الآداب القومية المختلفة. ويقدم للنقد الأدبي ودارسي الأدب فرصة ممتازة لتوسيع آفاق معرفتهم وتوثيق أحكامهم حتى الجمالية منها، لأن المقارنة تبقى أقوى أسلحة الناقد إقناعاً. ويقدم فرصة ممتازة لتطور نظرية أدبية قائمة على فهم طبيعة امتدادات الأدب خارج حدوده.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©